مصر… هوان الشرطة وانكسار دولة

حالة من العجز التام والخنوع تهيمن على كل رجال الأمن ما أصعب العيش فى دولة منكسرة، دولة رقدت ولا تقوى على النهوض كأنها فرس كسرت ساقها الأمامية... دولة القانون فيها تحت أقدام البلطجية والسفلة! وما أسوأ الحياة فى دولة رجال الشرطة فيها أصبحوا مثل "خيال المآتة"، وهم المنوط بهم تنفيذ القانون وحمايته وفرض النظام، فإذا هم لا حول لهم ولا قوة!بداية، لابد أن نحكي الحكاية... كلنا يعلم أن القاهرة الكبرى وسائر المدن الأخرى تم احتلالها بجيش متعدد النوعيات من "البلطجية" وأصحاب المهن الطفيلية الذين انتشروا انتشار الذباب، فالسرقة بالإكراه أصبحت من الأمور العادية والمألوفة وتبعها التسول بالإكراه، حتى إن كتائب المتسولين من الرجال والنساء والأطفال تحكم قبضتها وتفرض سيطرتها، بناء على خطط تكتيكية فريدة في احتلال المواقع بكفاءة نادرة حتى بات من الصعب أن تجد شارعا واحدا نظيفا منهم، حتى "الكباري" العلوية وغير العلوية صعدوا فوقها، كما احتلوا أماكنهم أمام جميع محال البيع والشراء...وأيضا تضخمت ظاهرة البيع بالإكراه. وعلى المواطن المصري الذي يركب سيارة أن يشتري علبة مناديل ورقية من الإشارة وإلا أصابه مكروه، وهكذا يفعل باعة الليمون و"السميط" والفول السوداني... ويبدو أن المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية الدكتور محمد سليم العوا "أعزه الله" له شعبية لا يستهان بها. فمنذ ظهر على شاشة التلفزيون قائلا "اللي مش لاقي شغل يسرح ببراد شاي على الكورنيش وإن شاء الله هيرزق"، فبعد هذا الاقتراح من المرشح الرئاسي المحتمل تحول كورنيش النيل إلى أبشع سوق عشوائية للمأكولات والمشروبات التي تجلب مختلف الأمراض... مختلف الأمراض في دولة عاجزة عن علاج شعبها، والذي حدث أن المئات من الشباب يبيعون الشاي والخروب وحمص الشام والبطاطا والذرة المشوية، وأيضا احتلوا أرصفة الكباري ووضعوا فوقها المقاعد البلاستيكية، وأصبحت القعدة بالمشروب. حتى أعمدة الكهرباء تفتح عنوة وتسرق منها الكهرباء عيني عينك وأمام الجميع. والمشكلة ليست في سرقة الكهرباء، لكن المشكلة في الأسلاك العارية بعد أن شقت بطون أعمدة الإنارة.من ضمن هؤلاء الذين عملوا بنصيحة المرشح المحتمل للرئاسة امرأة شابة اختارت لنفسها موقعا مميزا وثابتا على كورنيش النيل.هذا الموقع أمام فندق "الفورسيزون"، على الرصيف المقابل وأمام مطلع الكوبري المؤدي إلى فندق "جراند حياة" سابقا، وجاءت بالعدة ونصبت النصبة وأطلقت الأولاد والبنات يتجولون بأكواب الشاي والبيع لسائقي عربات الأجرة و"الملاكي" وجنود الحراسة. ولم يعد الأمر مقصورا على الشاي فقط، وإنما بعض الأشياء الأخرى. ولم يعترضها أي رجل شرطة لأي سبب رغم كثرة الأسباب التي تدعو إلى إجلائها وإخلاء المكان، خاصة أنها توسعت في نشاطها واستقدمت ثلاث متسولات مكنتهن من مدخل "الكوبري"... وهؤلاء الثلاث تمشيا مع التغيير الذي يحدث في البلاد يرتدين النقاب الذي أصبح صاحب حصانة...منذ ثلاثة أشهر أو أكثر قليلا والمرأة على حالها والدنيا تسير بها على أحسن ما يكون "والأشيا أصبحت معدن" والحمد لله.ولكن الأسبوع الماضي زار مصر ضيف عزيز وغال هو السيد رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا. ولأنه استقبل في مصر أعظم استقبال وكأنه خليفة دولة الإسلام، ولما كانت إقامة سيادته في فندق "الفورسيزون"، فإن الأمر يستدعي تأمين الفندق والمنطقة المحيطة به، وأيضا رفع الزبالة وتحسين الوضع بشكل عام. وكان من الطبيعي والمنطقي أن يتوجه رجال مديرية أمن القاهرة إلى المكان الذي احتلته المرأة إياها، وإعادته إلى حالته التي كان عليها، إلا أن المرأة رفضت ترك موقعها ومغادرة المكان وقالت لهم بكل ثقة وجبروت "أعلى ما في خيلكم اركبوه... واللي تقدروا عليه اعملوه..."... قالوا لها بكل هدوء وانكسار: "هذا أمر مؤقت لغاية ما تخلص زيارة أردوغان وترجعي مكانك معززة، وإنها زيارة قصيرة لن تستغرق أكثر من ثلاثة أيام..."، إلا أنها ركبت رأسها قائلة "لا أردوغان ولا جنكيز خان". هكذا واجهت المرأة بائعة الشاي، رجال مديرية أمن القاهرة وما أدراكم ما هي مديرية أمن القاهرة. ويبدو أن السيد مدير الأمن قد علم بأمر هذه البائعة فأصدر أوامره الحاسمة بإخلاء المكان بالقوة... فجاءت سيارة نقل حملت المرأة ومن معها، وأيضا عدة الشاي... وبعد نصف ساعة فقط، جاءت امرأة أخرى هي أخت المرأة الأولى ومعها عدد من الأطفال الصغار ألقت باثنين منهم في عرض الطريق وقطعته بالأطفال وتوقف المرور وصاحت بأعلى صوتها "فين مدير الأمن بسلامتو... أنا عندي سبع عيال ما يجراش حاجة لما يموت منهم اتنين.. أختي لازم ترجع... والمطرح بتاعها لازم يرجع".وسيطرت حالة من العجز التام والخنوع على كل رجال الشرطة الذين شاء حظهم العاثر أن يوجدوا في هذه الخدمة تحديدا، وفي تلك الليلة... وحضر من المديرية ضابط كبير الرتبة عظيم الشأن ليتولى القيادة ويعمل على إنهاء هذه الأزمة. وتحول الرجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلى مفاوض قليل الحيلة شديد الضعف "يا ستي ما يصحش كده... أختك ما حصلش لها أي مكروه... ودي تعليمات... ودا رئيس وزارة دولة صديقة... ومسلم زينا وعندنا ناس كتير بتحبه... ولازم مصر بلدنا يبقى شكلها حلو قدامه"... وهكذا... وهكذا... ولا أعرف ما الذي منع هذا السيد اللواء عظيم الشأن في مديرية أمن القاهرة، من فرض القانون لأن هذه المرأة خرقت القانون بقطع الطريق وبتعريض اثنين من أبنائها للخطر ومناهضة السلطات... وأخذ الرجل الذي على كتفه نسر وسيفان يتوسل ويتفاوض حتى قبلت المرأة تقديرا منها لخليفة المسلمين بأن تحظر نشاطها طيلة مدة الزيارة. وقد انتهت الزيارة وعادت المرأة ومعها الأخت والأولاد وكل العاملين بهذا الموقع الذي تم الاستيلاء عليه بالقوة الجبرية التي انتقلت من يد الشرطة إلى يد "البلطجية"، ومن يرغب في شرب الشاي وتدخين سيجارة معتبرة "تضبط أي دماغ"، عليه التوجه إلى هذا الموقع المميز والحصين، والذي أنزل الهزيمة بمديرية أمن القاهرة.والحقيقة أن هذه المرأة لا تلام، فلولا أنها لمست بنفسها وأحست بفطرتها أن جهاز الشرطة لا يقدر على الفعل أو الردع لما أقدمت على مثل هذه المواجهة التي فرضت فيها إرادتها بالكامل. وهكذا حال الواقع المصري الآن... حالة محزنة من الانفلات والفوضى. ولا أعرف هل هي مدبرة ومخطط لها حتى تزداد مساحات السخط والغضب على الثورة، أم أن الذين ورثوا الثورة وهيمنوا عليها لا دراية لهم بقواعد الحكم الرشيد، أم أنهم كارهون لها من الأصل ويدعون غير ذلك حفاظا على أنفسهم وعلى مصالحهم... وتعالوا نبك على الأرض الزراعية التي تم تبويرها... تعالوا نبك على العشوائيات التي انتقلت إلى قلب المدن بعد أن كانت تحيط بها... تعالوا نبك على الفنادق الخالية والمزارات السياحية الخاوية والمصانع التي توقفت، تعالوا نبك المرافق التي تعطلت وتهدمت... والشوارع التي تكسرت... وأكوام الزبالة التي كانت تلالا قبل الثورة فصارت جبالا بعدها... تعالوا نبك على حالنا الآن دون أي لحظة ندم على انهيار نظام الحكم السابق... ولكن البكاء على أحوالنا بسبب الذين يتولون أمورنا الآن. لماذا الإصرار على أن تتحول مصر إلى خرابة. لماذا تسحق إرادة المواطن المصري كما تسحق الصخور في مصانع الإسمنت؟ لماذا هذا الإهمال الجسيم وهذه الغطرسة المفرطة؟ وهذه الألغام التي يتم زرعها في أنحاء الوطن كله، والتي من شأنها أن تقسمه إلى فرق متخاصمة ومتصارعة؟ من الذي يحاول اغتصاب سيناء وتحويلها إلى إمارة إسلامية؟ من الذي يثير القلاقل في الجنوب؟ من الذي يقيم حفر النار في مصر كلها؟ من الذي ضرب جهاز الشرطة في مقتل حتى تكون مصر بلا حارس...؟ وأذكر الذين ضاعت منهم الذاكرة أن القوات المسلحة المصرية تعرضت لمحنة مشابهة تماما لمحنة جهاز الشرطة هذا العام... حدث ذلك في عام النكسة عندما انقلب فريق كبير من الناس وصب جام غضبه على الجيش وانتشرت حملات التنكيت والتبكيت وكل صنوف السخرية والاستهزاء... وأيضا عقدت المحاكمات وتاهت منا الحقائق وكادت مصر تضيع لولا وجود الرجال الأشداء في ذلك الزمان غير البعيد... رجال لهم قبضة قوية حافظت على الوطن من الانهيار، وأعادت الثقة والقوة إلى القوات المسلحة التي حققت نصرها الحاسم، وردت الاعتبار إلى شعبها، وتحطمت أحلام القوى الشريرة التي أرادت لمصر الهوان والإذلال.. بقلم: وحيد حامد: بتصرف عن "المصري اليوم"

مصر… هوان الشرطة وانكسار دولة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

قدماء العسكريين يحتجون أمام ديوان الأميرة لالة مريم

تكريم كمال كمال والسيبوعي في مهرجان السينما بالجديدة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات