فوزي… الوفاء بين الوطن والغربة

في زحام الحياة، ثمة رجال يصنعون المجد في صمت. يسيرون بخطى واثقة على درب المسؤولية. لا تحركهم الأضواء بقدر ما تشدهم نداءات الواجب. محمد فوزي، ابن الشراردة، هو واحد من هؤلاء الذين جعلوا من مسيرتهم المهنية ملحمة صبر وعطاء. حكايةٌ تمتد على مدى عقود ثلاثة، حيث حمل الوطن في قلبه، وارتدى بزة الأمن كدرع يحمي به الآخرين، قبل أن يحط رحاله على أرض الغربة، ليصبح نموذجا في التفاني والانضباط. ولد محمد فوزي سنة 1959 في حي الشراردة بأولاد تايمة، حيث ترعرع بين أزقتها التي حفظت وقع خطواته الأولى. كانت طفولته موزعة بين دروب الدراسة وساحات اللعب، إذ كان يمارس كرة القدم والعدو الريفي بين أبناء هوارة، ينهل من بساطة الحياة شغفا لا ينضب، ويصنع من شظف العيش طموحا لا ينكسر. في العام 1975، شد الرحال إلى أكادير ليكمل دراسته في ثانوية يوسف بن تاشفين، متخصصا في المجال الصناعي، لكنه لم ينس جذوره، فكان يقتني الخضر من الضيعات الفلاحية ويبيعها في سوق هوارة، يوازن بين الدراسة والعمل، ويؤمن بأن الاستقلال المالي خطوة أولى نحو الكرامة. حلم الطفولة كان سلك الأمن حلما يسكنه منذ الطفولة، لكنه بدا بعيد المنال، ومع ذلك، لم يكن فوزي من الذين يتركون أحلامهم تذوب في زحام الواقع في 1981، وبينما كان يتصفح إحدى الجرائد، وقع بصره على إعلان مباراة الشرطة، وكأن القدر قد ألقى إليه بطوق النجاة. تقدم إلى المباراة، فاجتاز الاختبارات بنجاح، ثم شد الرحال إلى القنيطرة، حيث تلقى تكوينه في معهد الشرطة. هناك، تعلم أن الصبر ليس مجرد فضيلة، بل سلاح، وأن التحمل والتفاني هما جناحا النجاح. بعد عام من التدريب الصارم، كانت أكادير محطته المهنية الأولى، حيث التحق بفرقة التدخل السريع سنة 1982، وعاش سنواته الأولى بين مدن المغرب، متنقلا بين التدخلات الأمنية والمواقف الطارئة، متحمسا لخدمة الوطن، ومتيقنا أن الأمن ليس مجرد وظيفة، بل رسالة، وفي بداية التسعينات، حملته الأقدار إلى الداخلة، حيث قضى ثلاث سنوات في قلب الصحراء، يعمل برتبة رقيب شرطة، يسهر على استتباب الأمن، ويتعامل مع الأحداث بميزان الاحترافية. هناك، أدرك أن المسافة ليست مجرد بعد جغرافي، بل هي امتحان للصبر والقدرة على التكيف. ترحال الحياة لكن الرجل الذي اعتاد أن يواجه الأزمات بثبات، كان يجد نفسه مترددا حين يتعلق الأمر بحياته الشخصية، فقد كان الزواج بالنسبة له مشروعا مؤجلا، وحين قرر أن يخوض غماره، وجد أن الحياة المهنية قد ابتلعته، وجعلت بناء أسرة مهمة ليست سهلة. في صيف 1993، كان القدر يخبئ له فصلا جديدا من حكايته، حيث سنحت له الفرصة للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة. خمس سنوات كانت المدة المتوقعة، لكنها تحولت إلى ربع قرن، ظل فيها فوزي وفيا لمبادئه، نموذجا للانضباط، حتى باتت الإمارات تتشبث به، وترفض رحيله. لم يكن مجرد موظف في جهاز الأمن، بل كان سفيرا لوطنه، يعكس صورة المغاربة في الالتزام والتضحية. بعد 38 سنة من الخدمة في سلك الأمن، اختار فوزي أن يطوي هذه الصفحة بشرف وارتقاء إلى ضابط ممتاز، ويعود إلى أرض الوطن محملا بذكريات لا تحصى، وبأربعة أبناء، وتجارب صقلته وجعلته أكثر نضجا ورؤية. كان يدرك أن الحياة المهنية، وإن طالت، فإنها تظل فصلا من كتاب العمر، وأن الأهم هو أن يغلق هذا الفصل بكرامة ورضى. محمد فوزي ليس مجرد رجل أمن قضى سنواته بين ربوع الوطن والغربة، بل هو قصة كفاح لم تهزمها التحديات، وحكاية نبتت جذورها في هوارة، وامتدت أغصانها إلى أكادير والداخلة، ثم أزهرت في الإمارات. ظل وفيا لمبادئه، يرى الحياة بعين إيجابية، يؤمن أن الصبر هو مفتاح الأبواب الموصدة، وأن نكران الذات هو تاج أصحاب الرسالات،وفي النهاية، عاد إلى وطنه، شامخا كالنخلة التي لا تنحني للريح، بل تنثر ثمارها أينما حلت. عبد الجليل شاهي (أكادير)

فوزي… الوفاء بين الوطن والغربة

رجل الأمن الذي صاغ مجده بين المغرب والإمارات

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

قالوا

مدرب خريبكة يلعب ورقته الأخيرة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات