دعـم الأغنيـة… الريـع المنغـوم

منذ أن تقرر تخصيص دعم للأغنية المغربية، قبل 15 سنة، من قبل وزارة الثقافة، تفجر نقاش حاد بين الفاعلين في المجال أو المهتمين به. مضت السنوات كانت خلالها الأموال ترصد للمشاريع الغنائية التي لم ير الكثير منها النور أو لم يكتب لها النجاح. في هذا التحقيق تحاول «الصباح» الوقوف عند أبعاد هذا المشروع وكيف تحول إلى ذريعة للاسترزاق والتحايل لاستخلاص الأموال مقابل أعمال غنائية يتمنى «مبدعوها» أن لا ترى النور أو لا يسمعها أحد. إنجاز: عزيز المجدوب خلال فترة الحجر الصحي، وفي عز أزمة جائحة كورونا، قبل حوالي خمس سنوات، تفجرت قضية "الدعم الاستثنائي" الذي خصصته وزارة الثقافة لعدد من الفنانين، وأثارت الكثير من الجدل حينها. وأثارت القضية لغطا كبيرا في مواقع التواصل الاجتماعي، وتم تداول لائحة الفنانين المستفيدين، وكأن الأمر يتعلق بفضيحة انكشفت للتو، في حين أن الأمر يتعلق بدعم اعتيادي دأبت الوزارة الوصية على صرفه على فناني قطاع الموسيقى والغناء والفنون الاستعراضية والكوريغرافية منذ 2011 دون أن ينتبه للأمر أحد وهنا المشكل. اختلط الأمر على الكثيرين لدرجة أنهم اعتبروا أن أمر الدعم هو بمثابة "ريع" موزع على فنانين لا يستحقونه، بل وصل الأمر إلى التراشق بالتهم، من قبل فنانين آخرين، تصرفوا وكأنهم لم يكونوا يعلمون بأمر الدعم، بل منهم من وضع نفسه في مكان الضحية، وأنه معرض للإقصاء والتهميش، بل وصل الأمر بفنانين آخرين اختاروا القفز من القارب بعد أن تسربت إليه المياه، وإرجاع أموال الدعم المحصل عليها، عندما "انفضح" أمرها. ووسط كل هذا اللغط، انتصبت مجموعة من الأسئلة، وهي أنه ما دامت أموال الدعم تمنح لقطاع الموسيقى والأغنية والفنون الاستعراضية والكوريغرافية، منذ سنوات، ما الذي جعل هذا القطاع الذي كانت تضخ فيه سنويا مبالغ طائلة يبدو وكأنه قطاع ميت لا حياة فيه، لدرجة أن الأمر التبس على الناس لحظة انكشافه وكأنه سيمنح لأول مرة؟ وما هو مصير المشاريع التي دعمت في هذا القطاع من قبل؟ ولماذا لم تر أغلب هاته المشاريع النور أو تنتشر كما كان مخططا لها من خلال فكرة الدعم نفسها؟ انحراف عن المقاصد مضت خمس سنوات بعد ذلك، وظلت قضية الدعم الموجه للأغنية المغربية، والذي حمل تسميات عديدة، بمثابة قارة صامتة، عادت إلى سباتها وسيروتها التي تسير بعيدا عن أي ردود أفعال لا بالإيجاب ولا بالسلب، وكأن القطاع لا تضخ فيه أموال بشكل سنوي، وكأن الفنانين المستفيدين لا يعنيهم أمر انتشار إنتاجاتهم الغنائية التي أخذوا من أجلها مبالغ بل إن بعضهم صار يتمنى أن لا يسأله أحد عما أنجزه من أعمال غنائية أو موسيقية. والنتيجة استياء صامت للفنانين غير المستفيدين من الدعم، لسبب أو لآخر، يتحدث بعضهم في همس دون أن يجرؤوا على الكشف عن هويتهم، معتبرين أن سياسة الدعم تكرس مزيدا من "الريع والفساد"، بل كشفوا عن فنانين يستفيدون أكثر من مرة في السنة من مبلغ الدعم، لأنهم يقدمون طلبهم بأزيد من شركة وكأنهم أشخاص مختلفون. صار الاقتراب من هذا الموضوع، أشبه بخوض في المحظور، من شأنه أن يثير حساسية الأطراف المستفيدة، والتي كانت بالأمس القريب تشكو انعدام وسائل الإنتاج الفني وغياب الدعم، لكن بمجرد ما صارت تستفيد منه، لم يعد يسمع لها صوت لا شكوى ولا غناء، ويغدو التطرق لهذا الموضوع نوعا من المنغصات على فرحة الاستفادة من مبالغ الدعم التي قيل إنها جاءت لإنعاش قطاع كان يعيش موتا سريريا وجمودا، قبل أن يتحول مشروع الدعم نفسه، في أغلب حالاته، إلى مجرد ملفات ووثائق خالية من أي قصدية إبداعية. فما الذي حدث حتى انحرف مشروع الدعم عن مقاصده؟ وهل كانت هناك مقاصد في الأصل؟ أم أن الدعم وضع بدون تخطيط، فقط لأن قطاعات أخرى خصص لها دعم تحت إشراف وزارة الثقافة مثل المسرح والفنون البصرية والكتاب، وأين يكمن الخلل الذي جعل قطاع الأغنية لم تظهر نتائج دعمه بشكل ملموس؟ "مرسوم بمنح إعانة" للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها اختار توفيق عمور، رئيس النقابة المهنية المغربية لمبدعي الأغنية، العودة إلى بدايات انبثاق فكرة مشروع دعم الأغنية الذي قال إنه عايش بداياته، مع مجموعة من المنظمات والنقابات المهنية، على عهد وزيرة الثقافة الراحلة ثريا جبران، خلال اجتماعات انطلقت نهاية 2009، وبداية السنة الموالية، رغم أن الفكرة بدأت قبل عهدها، إلا أنها دخلت مراحلها الحاسمة خلال ولايتها، لتدخل حيز التنفيذ في عهد خلفها بنسالم حميش. وقال عمور إن المشروع تم إعداده في غياهب المكاتب المغلقة، إذ لم يعرض على المهنيين في مراحله الأولى، إلى أن تمت الموافقة عليه وأصبح مشروعا قائم الذات، حينها استدعت الوزارة المعنية بعض الفنانين والمهنيين لتتم تلاوة مشروع القرار المشترك عليهم الذي كان بمثابة قانون تنظيمي. ومن بين المسائل التي أثيرت حينها، يضيف عمور، أن المشروع كان يحمل اسم "مرسوم بمنح إعانات مالية لدعم الفنانين"، وهو ما اعتبره بعض المهنيين يحمل مدلولا تحقيريا، لتتم مراجعة التسمية بعد ذلك وإعادة النظر فيها لتحمل اسم "مرسوم بدعم الأغنية". وتابع المتحدث نفسه أن مشروع المرسوم مع القرار المشترك جاء أشبه بنظام الصفقات العمومية، مثقلا بمجموعة من المطالب والشروط التقنية والإدارية، أدخلت الأغنية حيز الصفقات وأخرجتها من دائرة الإبداع. الدعم على حساب الإبداع انطلق مشروع دعم الأغنية في موسمه الأول بمبلغ مرصود له حدد في 450 مليون سنتيم موزعة على ثمانية مشاريع، لكل مشروع 30 مليون سنتيم تنتج في كل واحد منها أربع قطع غنائية، وخضعت العملية لتغييرات عديدة، تضاعف فيها مبلغ الدعم في آخر دورة له في 2024 ليصل إلى 700 مليون سنتيم، وتتوسع قاعدة المستفيدين إلى 68 مستفيدا. وهنا يعلق الفنان والملحن محمد الزيات قائلا إن المشروع لم يحقق حتى الآن، رغم أرقام المشاريع المدعمة، حتى 10 في المائة، من النتائج المرجوة منه، وهذه مسألة طبيعية، يؤكد المتحدث نفسه، لأن سياسة ترويج الأغاني خجولة، مادام ليس هناك تنسيق وتضافر الجهود بين الوزارة وقطاع الاتصال التابع لها، ووسائل الإعلام الرسمية، فستظل تلك الأغاني في الرفوف ولن نتمكن من معرفة الغث منها من السمين، وما يستحق أن يظهر فعلا أو يطمر. ولا يخفي الزيات، في حديث مع "الصباح"، مسؤولية بعض الفنانين المستفيدين من الدعم في ما آل إليه المشروع، معتبرا أن الهدف من الاستفادة يختلف من فنان لآخر، فهناك من يهدف فعلا إلى إبراز أعماله الفنية ويشتغل بكل جدية، لكن هناك فئات أخرى تهدف إلى الحصول على المال فقط وتطبق مبدأ "لهلا يقلب"، وهذا ما يجب على الوزارة الوصية الانتباه له، يقول الزيات، فهناك فنانون وأصحاب مشاريع استفادوا مرات عديدة دون أن تظهر أعمالهم، ومع ذلك ما زالوا مستمرين في الاستفادة. وفي هذا السياق يرى توفيق عمور أنه في الوقت الذي اعتقد الكثيرون أن الدعم من شأنه أن ينعش قطاع الموسيقى والغناء، وهو ما تحقق بشكل نسبي، إلا أنه في المقابل أفرز سلوكات انتفاعية من قبل بعض الفنانين الذين سقط بعضهم في فخ "التجلاج" أي فبركة مشاريع من أجل الظفر بأموال الدعم على حساب الإبداع. وتطور الأمر، يقول المتحدث نفسه، إلى الترامي على الاختصاصات، فصار المغني ملحنا ومؤلفا، أو العكس، لا لشيء سوى من أجل الاستيلاء على أكبر قدر من مبلغ الدعم الذي من المفروض أن يوزع على فريق العمل الذين تقدم المشروع بأسمائهم. ولم يقتصر الأمر على كل هذا، يقول عمور، بل هناك من رواد الفن والغناء، ممن جفت قرائحهم الإبداعية، فابتكروا طريقة أخرى لتحصيل أموال الدعم، وهو التقدم بمشاريع لإعادة توزيع أعمال غنائية قديمة مضى على أغلبها أزيد من نصف قرن، رغم أن التوزيعات الجديدة أساءت للأعمال الأصلية، لكن لا شيء يهم ما دامت الأعمال الحديثة بدورها لن تظهر ولن يستمع لها أحد، المهم هو أن تمر أموال الدعم إلى الحسابات البنكية الخاصة بهم. غياب صناعة ثقافية وموسيقية يرى الباحث أحمد عيدون أن مشكل دعم الأغنية له أبعاد كثيرة، والمسؤولية فيه تنقسم على أطراف عديدة، لعل وزارة الثقافة هي آخر شيء فيه. واعتبر عيدون، في حديث مع "الصباح"، أن المشكل الأساسي هو أنه لا توجد لدينا في المغرب صناعة ثقافية وموسيقية، ولا توجد لدينا هياكل للترويج فعالة ومثمرة، وأن مسؤولية الفنان هنا هو أنه عندما يحصل على الدعم لا يجب أن ينتظر من هيأة أخرى أن تروج له عمله، فهو الأجدر بأخذ المبادرة خاصة في ظل ثورة مواقع التواصل الاجتماعي. وأضاف الأستاذ المحاضر، حول قضايا التراث الثقافي والفني من حيث التشريع والصيانة والاستثمار، أنه كان على الوزارة الوصية في المقابل أن تضع الإنتاجات المدعمة قيد الاختبار، وأقل شيء تنظيم حفلات وسهرات تقدم فيها هاته الأعمال وتظهر للعموم الإبداعات التي اشتغل عليها الفنانون الحاصلون على الدعم ما إذا كانت تستحق الدعم فعلا أم لا. ولاحظ المتحدث نفسه أن دورات الدعم صارت تنفتح على أنماط مختلفة، والحال أنه كان يجب تخصيص كل دورة لنمط معين، من الأغنية العصرية والموسيقى الشعبية بمختلف تفرعاتها، حتى يتم توجيه الفنانين إلى مجموعة من التيمات للاشتغال عليها. كما دعا عيدون إلى ضرورة التوجه نحو إنتاج الأغنية المنفردة أو "السينغل" بدل الألبوم، حتى يستثمر الفنان كل جهده في عمل منفرد، ومع تراكم هاته الأعمال بإمكانه أن يضع ألبوما يضم قطعا متوازنة من حيث المجهود والجودة. وتابع صاحب كتاب "موسيقى المغرب" أن الظروف الإنتاجية تبدلت، كما أن الحوامل التقليدية للموسيقى لم تعد كما هي، ومع ذلك يجد الفنانون أنفسهم مطالبين بتسجيل أعمالهم على عدد معين من الأقراص المدمجة لم يعد لها مكان، إضافة إلى ضرورة توفير الإطار القانوني والاقتصادي لانبثاق صناعة ثقافية وفنية، والانفتاح على الطاقات الغنائية الشابة الجديدة التي استطاعت أن تفرض نفسها خارج منطق الدعم. وتوقف عيدون عند تجربة الانتقال من تجربة الجوق الوطني والأجواق الجهوية التابعة للإذاعة، والتي كانت طرفا أساسيا في عملية الإنتاج الغنائي، في مرحلة سابقة، إلى نمط آخر، كان لها تأثير سلبي على المنحى الذي أخذته العملية الإنتاجية، إذ لم يكن هناك مبرر موضوعي لإعدام الأجواق ولجان الكلمات والألحان، كما أن جميع إذاعات العالم لها أجواقها. وشدد عيدون على فكرة أنه لا يوجد نمط فني يظهر على حساب نمط آخر، فالتفاعل يجب أن يكون حاضرا بين الأنماط، والأفكار يمكن أن تنتقل من نمط لآخر وهذه هي ديناميكية الحركة الفنية التي تضمن لها الاستمرارية. بحاجين: مهننة القطاع يرى سمير بحاجين، رئيس لجنة دعم الإنتاج الموسيقي والغنائي التابعة لوزارة الشباب والثقافة والتواصل، أن تجربة الدعم لم تأت من فراغ، وإنما جاءت بعد مجموعة من اللقاءات مع الفنانين والمهنيين ومشاورات مطولة معهم. وأضاف بحاجين، في حديث مع "الصباح"، أن أهمية التجربة تكمن في أنها فتحت الباب أمام الإنتاج الموسيقي والغنائي، الذي كان موكولا فقط للإذاعة الوطنية وبعض شركات الإنتاج الخاصة، أو بمبادرات شخصية من بعض الفنانين، من أجل إغناء خزانة الأغنية المغربية. واعتبر بحاجين أن المشروع مكن من توفير فرص شغل، ولو أنها موسمية، للعديد من الفنانين ومعهم المؤلفون والملحنون والموزعون والعازفون وكوريغرافيون وشركات وجمعيات وأشخاص ذاتيون، كما كان وسيلة لتفعيل بطاقة الفنان بحكم أنها تعتبر شرطا للاستفادة. وتابع رئيس لجنة الدعم، لولايتين متتاليتين، أن فكرة الدعم كانت في البداية حكرا على فئة معينة من الفنانين، ومع توالي الدورات خضع لتغييرات أتاحت الفرصة لتوسيع قاعدة المستفيدين، كما أن الدعم شمل مجالات أخرى غير الإنتاج الموسيقي والغنائي، منها ترويج وتوزيع هذا المنتوج والمشاركة في المهرجانات الموسيقية الدولية، والإقامات الفنية، والفنون الاستعراضية والكوريغرافية. في المقابل توقف بحاجين عند الصعوبات التي اعترضت مشروع الدعم، منها الجانب المتعلق بالترويج، والذي يتحمل فيه الفنانون بدورهم جزءا من المسؤولية، خاصة أن الكثير منهم لا يعطون أهمية للملف الإداري وبعضهم غير ملمّ بمقتضيات دفتر التحملات، خاصة أن المشاريع لا تقدم بشكل ذاتي بل على شكل طلبات عروض لأن الوزارة تسعى إلى مهننة القطاع، الأمر الذي يفوت على الكثيرين منهم فرص الاستفادة، ليفتحوا المجال أمام بعض المتخصصين في التربص بدورات الدعم.

دعـم الأغنيـة… الريـع المنغـوم

كم هائل من الأغاني أنتجت على مدار 15 سنة في مهب المجهول

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

لزرق: كنت بمثابة "مدفع السحور"

المغرب‭ ‬يدخل‭ ‬نادي‭ ‬الـ‭ "‬أباتشي‭"‬

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات