بوشاقور… الإبداع في خدمة البيئة

في عالم يزداد انجرافه نحو الحداثة، تظل بعض الأيادي متمسكة بخيوط الماضي، تنسجها برؤية معاصرة تجمع بين الأصالة والتجديد. خديجة بوشاقور، الفنانة الصانعة والمقاولة الشابة، المزدادة في 1996 بحي السلام بالدار البيضاء، تمثل نموذجا لهذه الروح المتجذرة في التراث والمنطلقة نحو المستقبل. لم يكن مسارها تقليديا، ولم تكن رحلتها سهلة، لكنها نسجت، كما في فنها، مسارها الخاص، خيطا بخيط، حتى أصبح مشروعها بصمة فريدة في عالم الصناعة التقليدية، معتمدة على المواد الطبيعية في إنتاج ديكورات صديقة للبيئة. خديجة ليست فقط صانعة ماهرة، بل هي أيضا خريجة كلية طب الأسنان. ورغم أن مسارها الأكاديمي كان مرسوما في مجال العلوم الطبية، إلا أن روح الإبداع كانت تنبض في داخلها منذ سن مبكرة. في عمر الخامسة عشرة، وأثناء عطلات الصيف، اكتشفت عالما آخر، أكثر رحابة وأقرب إلى إحساسها الفني. تعلمت قواعد الحياكة والتطريز، ولم يكن ذلك مجرد ترفيه أو هواية عابرة، بل كان شعلة أوقدت شغفها ودفعتها إلى الغوص في عالم الصناعة التقليدية، الذي كان آنذاك مجرد ميدان للتجربة، قبل أن يتحول إلى مشروع متكامل ذي رؤية واضحة وأبعاد اقتصادية وثقافية. لم يكن طريق خديجة نحو ريادة الأعمال ممهدا، لكنها كانت مدفوعة بعشقها للفن ورغبتها في تقديم شيء مميز. بدأت بصنع ديكورات منزلية باستخدام تقنية "المكرمة"، وهي أسلوب تقليدي يعتمد على نسج الخيوط بتقنيات معقدة تضفي طابعا خاصا على المساحات الداخلية والخارجية.كانت كل قطعة تصنعها تعبيرا عن ذائقتها الإبداعية ورؤيتها الجمالية، مستلهمة من التراث المغربي لمساتها الخاصة التي تجمع بين البساطة والأناقة. لم يكن هذا الفن مجرد استعادة لحرفة قديمة، بل كان تطويرا لها، إذ أدخلت خديجة عناصر حداثية، واختارت الاعتماد على المواد الطبيعية كالقطن و"عود الكركاع" و"الجوت"، لتضفي على منتوجاتها لمسة بيئية مستدامة، تتماشى مع التحولات العالمية نحو الاستهلاك الواعي. لا تخفي خديجة أن التوفيق بين مسؤولياتها كأم ورائدة أعمال لم يكن بالأمر اليسير، فإدارة مشروع تتطلب مجهودا ذهنيا وبدنيا، خاصة في مجال الصناعة التقليدية الذي يعتمد على الحرفية الدقيقة والعمل اليدوي المتقن، ومع ذلك، فإنها لم تفكر يوما في التراجع، بل اعتبرت أن هذا المشروع ليس مجرد وسيلة للعيش، بل هو شغفها، بلغة الأيدي التي تتحدث بالخيوط والألوان، وبمنطق الفن الذي لا يعرف المستحيل. كانت وسائل التواصل الاجتماعي نافذتها الأولى نحو العالم، إذ بدأت بنشر صور أعمالها، ولم يمر وقت طويل حتى تلقت دعما وتحفيزا من الأقارب والأصدقاء، ثم من جمهور أوسع شجعها على الاستمرار وتطوير مشروعها، ومع مرور الوقت، توسعت دائرة زبنائها، وبدأت تتلقى طلبات من داخل المغرب وخارجه، وهو ما منحها دفعة قوية نحو التوسع والتفكير في آفاق عالمية. ما يميز أعمال خديجة ليس فقط استخدام المواد الطبيعية، بل طريقتها الفريدة في تصميم المنتوجات، إذ تبدأ بفكرة مستوحاة من التراث المغربي، ثم تعمل على تحويلها إلى تصميم فني، قبل أن تبدأ بعملية التنفيذ الدقيقة، التي قد تستغرق أياما أو حتى أسابيع لإنجاز قطعة واحدة. ورغم أن تقنية "المكرمة" كانت تستخدم قديما في تزيين الصالونات المغربية، إلا أن خديجة منحتها حياة جديدة من خلال دمجها في أنماط حديثة تتناسب مع الديكور العصري، سواء في المنازل أو الفنادق أو الفضاءات العامة. ورغم النجاحات التي حققتها، تدرك خديجة أن الطريق طويل، وأن الصناعة التقليدية تواجه تحديات كبيرة، سواء من حيث المنافسة أو من حيث ارتفاع تكلفة المواد الأولية الطبيعية، ومع ذلك، فهي تؤمن بأن هذا المجال يحمل مستقبلا واعدا، خاصة مع تزايد الطلب على المنتوجات الصديقة للبيئة، وتنامي الوعي بضرورة العودة إلى الطبيعة والابتعاد عن المواد الصناعية الضارة. البحث عن أسواق جديدة طموحات خديجة لا تقف عند السوق المحلية، فهي تسعى إلى إيصال فنها إلى العالم، وتؤمن بأن المنتوج المغربي التقليدي يمتلك جاذبية خاصة تجعله قادرا على المنافسة عالميا، لذلك تعمل على تطوير مشروعها رويدا رويدا، وتبحث عن أسواق جديدة، مستلهمة أفكارها من المعالم المغربية العريقة، ومن أجواء الأسواق التقليدية التي ظلت تشكل مصدر إلهامها الأول. تقول خديجة إن لكل فنان طقوسه الخاصة، أما هي فطقوسها تبدأ بكأس من الشاي المغربي، ثم تشرع في العمل، حيث تغوص في تفاصيل التصاميم، مركزة على أدق الجزئيات، لأن كل قطعة تصنعها تحمل جزءا من روحها وإحساسها. عبد الجليل شاهي (أكادير)

بوشاقور… الإبداع في خدمة البيئة

منتجات مستوحاة من التراث المغربي تنسجم مع التحولات العالمية نحو الاستهلاك الواعي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

العثماني يقدم "سفر في طبع الصيكة"

لغة التسامح

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات