الباحث الزواق يتعقب أثرها في الاقتصاد والمجتمع صدر للباحث المغربي حميد الزواق كتاب بعنوان "تجارة الخمور.. وأثرها في الاقتصاد والمجتمع بمغرب القرن التاسع عشر.. دراسة تاريخية" عن منشورات "باب الحكمة". الكتاب يحاول إزالة اللثام واللبس عن تجارة الخمور التي كان لها وقع خاص في نفوس المغاربة إبان القرن التاسع عشر، كما يتتبع الكتاب ما شهده ذلك القرن من تغلغل أجنبي صاحبه إدخال عادات غربية وغريبة عن المجتمع المغربي. في هذا الخاص تتوقف "الصباح" عند أهم ما جاء في الكتاب. إعداد: عزيز المجدوب تعقب الباحث حميد الزواق الجذور التاريخية لحضور الخمر في المغرب، إذ اعتبر أن الخمر دخل المغرب منذ زمن بعيد في فترة سيطرة الفينيقيين على سواحل موريطانيا الطنجية، حيث مثلت زراعة الكروم إحدى الزراعات القديمة في المغرب. كما استحضر الزواق فترة السيطرة الرومانية على شمال إفريقيا وغراسة الكروم في المغرب خلال هذه المرحلة، وأشار المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان إلى أن "الإمبراطورية الرومانية راقبت زراعة الكروم خلال القرن الثاني الميلادي بشمال إفريقيا، واستمرت هذه الزراعة بمواصلة السكان الاهتمام بها لأن العوامل الطبيعية ساعدت على زراعتها لما يتوفر عليه المغرب من شبكة مائية مهمة، وتربة فتية وغنية". وشهدت زراعة الكروم في المغرب الوسيط انتشارا في معظم أقاليم المغرب، حيث وجدت الدالية في المغرب بجانب الأودية الرطبة ومجاري المياه في المناطق المنخفضة، ففي منتصف القرن الرابع الهجري تحدث "ابن حوقل" عن وجودها بحوض سبو، وفي القرن الخامس الهجري أشار "البكري" إليها بمنطقة سجلماسة. وتعددت الإشارة إلى وجود الكروم، في العصر الموحدي، إذ توزعت بين تادلا وتارودانت وبلاد ركراكة ووادي ماسة ونواحي سلا وجبال درن وبلاد تازة ومكناس وصفرو. ويشير الباحث حميد الزواق إلى أن إنتاج الخمور بالمغرب شهد ازدهارا مطردا خلال القرن التاسع عشر، لثلاثة أسباب رئيسية: تجلى الأول في تزايد عدد اليهود والأوربيين إبان هذه المرحلة، وتمثل الثاني في الطلب على المشروبات الكحولية بكل أصنافها، أما السبب الثالث والأخير فهو المتعلق بالأرباح التي يدرها على الفئة المهتمة بإنتاجه والمتاجرة فيه خاصة من فئة من اليهود والمسلمين. وكان إنتاج الخمور، حسب الباحث نفسه، حكرا على الأجانب وعلى فئة من اليهود المستقرين في الملاحات. أنواع الخمور المستهلكة في المغرب يمكن التمييز بين أنواع الخمور المستهلكة بالمغرب بين صنفين، صنف مغربي ذو إنتاج محلي، وصنف آخر أجنبي موجه بالأساس إلى شريحة من الأجانب المغاربة المستقرين على اختلاف مشاربهم. واختلفت أنواع الخمور التي كانت رائجة في المغرب خلال القرن التاسع عشر عن الأنواع المستهلكة في المغرب الوسيط، مثل: شراب الرب، وشراب أنزير والصامت والمتروئي، إضافة إلى الخمور المصنوعة من العسل (البتر) والذرة والحنطة، ما عدا النوع المعروف ب"الماحيا" الذي استمر إنتاجه. أما أنواع الخمور المستوردة من أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وكوبا، فمنها الخمور الحمراء والجعة والروم و"الفرموت"و"الفودكا" و"الويسكي" والخمور البيضاء، والخمرة المعطرة والمحلاة، وهي من أجود الخمور التي تنتج في منطقة "دروم" وتصنع من عناقيد العنب الأبيض وثمنها مرتفع، والراجح أنها كانت تباع للقناصل، والسفراء وللأجانب الميسورين المستقرين في المغرب. تجار يهود وأجانب كانت تجارة الخمور في مغرب القرن التاسع عشر حكرا على الأجانب واليهود المحميين أساسا والذين كانوا يستوردونها تارة وينتجونها محليا تارة أخرى، بغية تحقيق الطلب المتزايد على كل أصنافها لتزايد عدد الأجانب في المغرب من جهة، ولتزايد الإقبال عليها من قبل المغاربة أنفسهم. وميز الباحث حميد الزواق بين صنفين من تجار الخمور المغاربة اليهود والأجانب، إذ اعتبر أن التجار اليهود تعاطوا تجارة الخمور لأسباب، منها سماح المخزن لهم باستيراد الخمور وشربها في الملاحات، وثانيا لأن من عادات معظمهم شربه في الحفلات الدينية وحتى في المراسم الجنائزية. واتخذ اليهود محلات ودكاكين في الملاح لبيع منتوجاتهم من الخمور، وكانت هذه الدكاكين تحتوي عل طاولات لبيع السلع، وكانت تباع فيها، فضلا عن لوازم اللباس والمواد الغذائية المماثلة لما يباع في المدينة، مشروبات كحولية من خمر وكاشير وجعة وماء الحياة المقطر في الملاح. ولاحظ الزواق أن التجار اليهود ولتوسيع تجارتهم لم يكونوا يقيمون في الملاح فحسب، ولكن حتى بالمدينة، وكانت لبعضهم حجرات بفندق النجارين بفاس، كما عرف ملا مراكش بدوره تجارة الخمور وبيعها للمغاربة والمسلمين، ووجد يهود تطوان أرضية خصبة لمزاولة تجارتهم، حيث وفر لهم السكان المسلمون، خصوصا الأندلسيين منهم، ظروفا ملائمة للاستقرار والاستيطان. واستفاد اليهود أيضا من دخول القوات الاسبانية إلى تطوان في منتصف القرن التاسع عشر، حيث مارس بعض أفرادها تجارة مربحة مع قوات الحملة الاسبانية، مثل "أودونيل" و"بريم" و"لتشاغوي". إسبان وإنجليز وفرنسيون نشط التجار الإسبان بشكل كبير في تجارة الخمور، لامتهانهم هذه الحرفة وإتقانها، وأيضا لأنهم كانوا مزيفين للعملة ومهربين وأصحاب حانات يديرونها دون رقابة. وكانت طنجة سنة 1876، حسب وزارة الخارجية الإسبانية، أشبه بالأرض الموعودة للفقراء والمضطهدين. وكان التجار الاسبان يشتغلون في بيع الخمور، بحكم أن الجالية الاسبانية كانت كثيرة العدد في المغرب، ونظرا لما تدره هذه التجارة من ربح وفير، وتمركزوا على وجه التحديد بطنجة التي فتحوا بها أماكن مخصصة لبيع الخمور ومعاقرتها، إذ كان لهم 57 مقهى في 1884، منها 34 في المدينة و23 خارجها، وارتفع عدد الحانات والمقاهي في 1892 إلى 110 دور، منها 53 مقهى، و57 حانة أوربية، وفي 1894 تم إحصاء أكثر من 200 مقهى ودار للقمار كان أغلبها في ملك الاسبان. كما أسهمت الجالية الأوربية بالمغرب في تزايد الحاجة إلى النمط الاستهلاكي الأوربي، وهو ما حتم استيراد المنتجات الاستهلاكية، من مواد مصنعة ومشروبات مختلفة، أبرزها الكحول والخمور والجعة والماء المعدني. ومن التجار الانجليز الذين اشتغلوا في الخمور في مغرب القرن 19، هناك "كانصينو" الذي كان يتاجر في الخمور في الدار البيضاء سنة 1869، و"خوص يدي ناتالي"، و"أبراهام بيطون" كان تاجرا بالصويرة. كما اشتغل الفرنسيون بالتجارة نفسها منهم فيليب مينار الذي كان تاجر خمور في ستينات القرن التاسع عشر، قبل أن يصبح وكيلا للبواخر الفرنسية واتخذ له سماسرة ومخالطين بالبيضاء والرباط والعرائش، ثم "فيريو بروسبير" وهو نائب قنصلي لفرنسا وكان يشتغل في استيراد الخمر إلى المغرب، و"جان سيرييس" وشقيقه "ألكسندر". ترفيه ودعارة عرفت المدن المغربية فتح مجموعة من الحانات لترويج الخمور وبيعها للمرتادين، سواء من الأجانب أو المسلمين أو المغاربة اليهود ، وهو ما كان سببا في خلق أنماط عيش جديدة لدى المغاربة، الذين انتقلوا من معاقرة الخمور في المنازل، إلى التنقل لأماكن خاصة خصصت لتوفير كل ما يحتاجه المدمن من دخان وقمار وخمر، وحتى البغاء، وبالتالي وفرت هذه الحانات كل سبل الترفيه لروادها. وساهمت الحانات والمقاهي في انتشار ظاهرة البغاء، ففي الرباط مثلا قام أحد الإسبان واسمه "فرنسيسكو" بفتح محل تجاري لبيع الخمر ووضع بجانبه مكانا آخر لترويج البغاء. أما في العرائش، فأحدثت صاحبة ملهى "أرنول" في 1873 فضائح أخلاقية متعلقة بالدعارة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الإسبانية "ماري روز"، التي امتهنت الدعارة بطنجة في 1879، واللافت للانتباه، يقول الباحث الزواق، أن بعض رجال المخزن كانوا متورطين في مثل هذه الفضائح، ففي سنة 1867 اتهم عامل مراكش أحمد بن داوود وخليفته صالح الأقرع بحماية دور البغاء مقابل مبالغ مالية منتظمة. وشهدت الدار البيضاء هي الأخرى افتتاح "نادي أنفا" في 1894، والذي أدخل أساليب غير مألوفة في إمتاع الزبناء، بفضل عروض الفرنسيات اللائي جلبن لهذا الغرض، كما ظهرت بالجهة الشمالية من المدينة نفسها "النادي الإسباني" الذي ضم مغنيات وراقصات إسبانيات أحضرن معهن طرقا جديدة في التسلية الجسدية. إنتاج الخمور عند المغاربة اليهود رغم أن إنتاج الخمور كان متفشيا بين بعض المغاربة والأجانب على السواء، وبنسب مختلفة، لكن الكفة ترجح لفئة اليهود، بحكم أنهم يشربون الخمر في المناسبات الخاصة بهم، إلى جانب حضوره في حياتهم اليومية، ولأنه حرفة من حرفهم، إذ وجد اليهود التربة الخصبة لتوزيع تجارتهم. وقد عرف اليهود بامتهان حرفة "الخمار" وهو الذي يشتري العنب ويعصره ليبيعه مسكرا. وأشهر الخمور التي ينتجها اليهود هو النوع المعروف ب"الماحيا"، والنوع الثاني هو النبيذ اليهودي المعروف ب"الكاشير". وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن المغاربة اليهود كانوا يقطرون مشروبهم التقليدي المشهور ب"الماحيا" بأنفسهم، كما ذكرت أهميته عند اليهود والأماكن التي تنتج فيها، فقد اشتغل اليهود خاصة بهذه الصناعة في مدينة تازة التي كان بها خمسمائة دار لليهود، كانوا يعصرون بها خمرا في غاية الجودة، يقال إنها أجود أنواع خمور هذه النواحي كلها، والملاحظ أن اليهود كانوا ينتجون الخمور في البيوت باعتبارها تتطلب معدات بسيطة. أما النوع الثاني وهو النبيذ اليهودي المعروف ب"الكاشير"، فطريقة إنتاجه تتم عبر مراحل، إذ يقوم الخمار بدق العناقيد المحصل عليها في نهاية شهر غشت وتركها تخمر، وحينما تنتهي عملية التخمير، يأخذ نصف هذا العصير ليتم طهوه فوق نهار هادئة، حتى يصير نصف الكمية، تضاف إلى النبيذ الأخير ويترك ليخمر، وبعد شهر من ذلك يوضع في القارورات.