مخرج شريط «أبي لم يمت» قال إن فيلمه إنساني وليس سياسيا قال المخرج عادل الفاضلي إن المخرج السينمائي والمبدع، بشكل عام، عليه أن يكون متطلبا حتى ينجز أعمالا في مستوى طموحاته. وتحدث الفاضلي عن تجربة فيلمه الجديد "أبي لم يمت" المعروض حاليا في القاعات السينمائية، معتبرا أنه فيلم إنساني بالدرجة الأولى وليس سياسيا، كما تحدث عن عوالم الفيلم وشخصياته التي قال إنها تمثل أناسا بسطاء تورطوا صدفة في السياسة بعد أن وجدوا أنفسهم في المكان والزمان غير المناسبين. وقدم صاحب شريط "ولد الحمرية" رؤيته الخاصة للسينما والتلفزيون وأشياء أخرى تجدونها في الحوار التالي. أجرى الحوار: عزيز المجدوب ـ تصوير (فدوى الناصر) خرج إلى القاعات شريطك الروائي الطويل "أبي لم يمت" بعد طول انتظار وتأخر .. هل يتعلق الأمر بإكراهات أم هو تردد؟ لم يكن في الأمر تردد بقدر ما هو مشكل إمكانيات بالدرجة الأولى، إذ منذ قبول مشروع الفيلم ضمن مشاريع الدعم المقدمة إلى المركز السينمائي المغربي، كان بإمكاني الاكتفاء بأموال الدعم لإنجاز الفيلم، لكن كان يقودني الطموح لتقديم شيء أكبر، ففي السينما على المخرج أن يخلق عالمه الخاص، وهذا العالم يتطلب إمكانيات (ديكور وملابس ووجوه واستوديو...)، فهناك مخرجون عالميون يشتغلون بهذه الطريقة بابتكار عالم سينمائي خاص، مثلا أن يحكي عن عالم البالغين برؤية طفولية بريئة يكون الطفل فيها هو الشاهد على الأحداث، إلا أن هاته الأعمال تنجز بإمكانيات ضخمة، لذا عندما أجد من يقارن فيلمي بتلك النوعية من الأعمال أعتبر الأمر إيجابيا لأن الفيلم أنجز بإمكانيات أقل. يجب على المخرج أن يكون متطلبا، وتكون لديه رؤية خاصة، فلا يمكن أن يتقشف وينقص من الطموح الذي يحركه، وإلا لماذا أنجز فيلما إذا كنت أجد نفسي "كانقضي باش ما كان"؟. هل يمكن أن يتكرر هذا "التأخر" في الخطوة المقبلة لك سينمائيا؟ > الفيلم الذي أطمح لإنجازه سيكون بالشكل نفسه والعالم نفسه. أريد أن أظل في هذا الخط وعلى هذا المنوال، رغم أن هذا النوع من الأعمال يتطلب إمكانيات. (مقاطعا) هل سيستغرق بدوره تسع سنوات؟ > لا أتمنى ذلك، والمؤكد أنني استفدت من التجربة السابقة بما يكفي. المهم أن تكون الإمكانيات متاحة دفعة واحدة، كما أنه يجب أن يكون معك موزع كبير، هذه المهمة للأسف قليلة في بلادنا، يجول بالفيلم العالم ويقترحه على المهرجانات والقنوات، وجدت نفسي أقوم بأدوار متعددة لكي أنجز العمل، حتى أواجه مشاكل الإمكانيات. ألا ترى أن تعدد المهام مسألة مرهقة وقد تأتي على حسب العمل الفني نفسه؟ هي فعلا مرهقة، لكن عندما يكون هناك الشغف والتعلق بالعمل، تتمكن من تحمل الأمر، ولو أن الحالة في الفيلم الأخير مختلفة، تخللتها إكراهات متنوعة، لا تتعلق فقط بالإمكانيات، بل أيضا بالظرفية التي واجهته منها التوقف الاضطراري خلال فترة "كوفيد" وبعدها وفاة الوالد رحمه الله... بالعودة إلى عالم الفيلم الملاحظ أنه ينفتح على عوالم مغرب سنوات الرصاص برؤية طفولية ما الذي تحكم في اختيارك لهذه الزاوية من النظر والانشغال بهذه الفترة بالذات؟ أنا من مواليد السبعينات. خلال تفتح وعيي المبكر أثناء الثمانينات كنت أستشعر مناخ سنوات الرصاص، ولو أنني حينها لم أكن أستوعب كل شيء، لذا ظلت فطرية الطفولة حاضرة معي وأنا أستعيد تلك الفترة سواء التي عشتها، أو كانت قبل أن أولد، حرصت على أن أجعل من الطفل شاهدا وعن طريقه أحكي القصص التي تخللت العمل. يحضر عالم "لافوار" بشكل طاغ في الفيلم، هل لهذا العالم علاقة بأحداث في طفولتك؟ كبرت وترعرعت في هذا الجو، أتذكر "لافوار" و"السويريتي"، كما أتذكر عندما حط "مسرح الناس" للراحل الطيب الصديقي بدرب غلف بالبيضاء، بخيمته الكبيرة. تلك الخيمة التي تجد حضورا لها في فيلمي أيضا، وقريبا منه كان "لافوار" بتفاصيله الفرجوية من "حائط الموت" والوحش والشيخات، بمعنى أن العديد من العناصر والمشاهد المؤثثة للفيلم كانت من صميم مشاهداتي الطفولية وكانت موجودة بالفعل وغير متخيلة، لكن الطريقة والرؤية الخاصة بالطفل كانت تظهره بطريقة ملائكية، كما حاولت استثمار العناصر الجمالية لفضاء "لافوار" خاصة في ما يتعلق بالألوان لأنها العنصر الأساسي الذي رسخ في ذهني الطفولي. تخيم تيمة الأب على العمل في العنوان والأحداث، كما أن الصدفة والأقدار شاءت أن يكون العمل الأخير لوالدك الفنان عزيز الفاضلي؟ لحسن الحظ أن والدي، رحمه الله، شاهد العمل في صيغته النهائية قبل وفاته، وكان معجبا به، والطريف أن العنوان "أبي لم يمت" كان هو العنوان الأصلي للعمل حين وضعنا مشروع السيناريو لأول مرة، ولا علاقة له بوالدي الذي شارك في العمل بدور ثانوي لم يكن هو البطل فيه. كما أنني أسندت له دورا تركيبيا به جرعة من الشر، عكس طبيعته، وأداه كأي ممثل محترف، وبعد أن خرج الفيلم إلى الوجود وشاهده الناس وجدوا شيئا مختلفا عكس ما توقعوه، وهو أن الفيلم والعنوان مرتبطان بوالدي. فضلت أن تظل وفيا للروح الكلاسيكية في الفيلم في كل تفاصيله وحتى الملصق.. هل الأمر كان مقصودا؟ نعم بطبيعة الحال، فأنا أحاول أن أقدم نوعا من السينما الاسترجاعية أو استعادية للأحداث التي مضت. يهمني الماضي في السينما أكثر من الحاضر، ففنيا وسينمائيا يكون هناك غنى أن تستعيد قصة وأحداثا ماضية، خاصة أن الناس في الفترة الحالية يستهلكون الصورة بشكل مكثف عبر الوسائط التي صارت متاحة، ويتداولون الصور والمشاهد على نحو مشاع، لذا أحاول أن أقترح عليهم من خلال مثل هاته الأعمال، أشياء لا يمكن أن يجدوها بسهولة في تلك الوسائط، مثلا عوالم "لافوار" في السبعينات، أو أزقة البيضاء في تلك الفترة. دوري أن أسترجع وأحكي للناس الكيفية التي كانت عليها تلك الحقبة حتى بالنسبة إلى الأجيال التي لم تعشها. قدمت، من خلال الفيلم، مجموعة من المؤشرات التي تدل على المرحلة التاريخية التي يستهدفها، لكن يبدو أنها مرحلة مفتوحة ما بين مطلع الستينات إلى منتصف الثمانينات وملامح الشخصيات ظلت فيها ثابتة... أردت أن أظهر السياق السياسي لتلك الفترة، عبر الانتقال بين مراحل متقاربة، وحاولت أن أجمّع تلك الأحداث وأركّبها على القصة التي وضعتها، فالأحداث السياسية هي فقط ذريعة لخدمة أغراض القصة وليس العكس، لأن فيلم "أبي لم يمت" هو فيلم إنساني بالدرجة الأولى وليس سياسيا. مع ذلك أظهرتَ الفاعل السياسي في أحد مشاهد الفيلم يبدو سطحيا أو ربما المشهد كان فيه نوع من الافتعال.. ما تعليقك؟ تركت المسألة مفتوحة على كل القراءات والتأويلات، وفضلت أن لا أتوغل في التفاصيل، حتى لا أقيّد المشاهد برؤيتي الخاصة للأمور. أفضل أن يأخذ المشاهد ما يريد من الفيلم ويؤوله كما يريد، على أن لا يجد ما يأخذ ولا يؤول. حضور الموسيقى التصويرية في الفيلم كان لافتا لدرجة أنه كاد أن يكون عملا موازيا ومتكاملا في حد ذاته... اشتغلت رفقة الفنان والموسيقي فتاح النكادي بعناية على هذا الأمر، كانت لدي فكرة مسبقة عن نوعية الموسيقى التي أريد في العمل، بما فيها نوعية الآلات الموسيقية الموظفة، والاتجاهات والاستلهامات، وقد جمعتنا جلسات عمل مطولة، للنبش والتقاط أشياء مهملة في التراث المغربي، مثلا آلة "الترومبيت" التي كانت تحضر في مواكب الأفراح والمناسبات السارة، دون أن ينتبه لها أحد، بل حتى شخصيات "لافوار" نفسها مهملة إلى يومنا هذا، إذ ما زال يتم نفيها إلى الخلاء البعيد أو فوق المزابل في كل مرة يطلبون فيها من السلطات وضع معدّاتهم والترخيص لهم لتقديم أنشطتهم، لذا قدمتهم في ثوبهم البسيط، إذ رغم أن هناك أعمالا أخرى سبق لها تناول مرحلة سنوات الرصاص، إلا أن الشخصيات التي أقدمها تمثل أناسا بسطاء وبعيدين تماما عن السياسة بل تورطوا فيها صدفة بعد أن وجدوا أنفسهم في المكان والزمان غير المناسبين. الملاحظ أيضا أنك وظفت الأسطورة والرمز من خلال شخصيات دينية وتاريخية عبر لوحات شعبية تلامس المقدس في جزء منه.. كيف كان ذلك؟ الأمر يتعلق بلوحات وصور كانت تغزو البيوت المغربية في فترة ما، تضم صورا للأنبياء والشخصيات الدينية والصوفية، رسخت في ذهني منذ الطفولة، وهذا جزء من الثقافة الشعبية المهمشة، التي لم نكن نوليها اهتماما، وعندما كنت أشاهد تلك الصور كنت دائما أتخيل شخصياتها وهي تتحرك وتتحاور في ما بينها، وهو الأمر الذي حاولت أن أطبقه في الفيلم، من خلال شخصية الطفل الذي تحمل العبء في نقل ذلك من خلال عالم متخيل مستوحى من عالم الطفولة التي أضفت عليه نوعا من شاعرية، وإسقاطات رمزية. التلفزيون جهاز حساس وأصعب من السينما بعد هذه الخطوة الأولى في اتجاه الأشرطة المطولة السينمائية التي تشتغل فيها بكل حرية، كيف تحملت سنوات طويلة من التقيد بضوابط الاشتغال التلفزيوني؟ في التلفزيون نحن من ندخل إلى بيوت المشاهدين، لكن في السينما هم من يأتون عندك، وهذا هو الفرق بين المجالين، لكن مع ذلك حاولت أن أقدم في كل عمل تلفزيوني اشتغلت فيه شيئا جديدا وجرعة جرأة زائدة، من خلال مقاربة العديد من المواضيع المحظورة مثل المخدرات والتحرش الجنسي والبيدوفيليا، وأيضا بعض التفاصيل الإنسانية التي لا ننتبه لها، والسعي إلى تطويرها على الطريقة الشكسبيرية، وطبيعي ألا تكون حرا في التلفزيون لأنك في الكثير من الأحيان تشتغل "تحت الطلب" ومضطر أن تحترم شروط أصحاب العمل، لكن هذا لا يمنع من وضع بصمتك الإبداعية، خاصة أن التلفزيون جهاز حساس وأصعب من السينما. في سطور < مخرج أفلام وكاتب سيناريو. < من مواليد 1970 بالدار البيضاء. < ينتمي لعائلة الفاضلي الفنية إلى جانب والده الفنان الراحل عزيز الفاضلي وشقيقته حنان الفاضلي. < درس الإخراج السينمائي في المعهد الحر للسينما الفرنسية كما درس في معهد متخصص في السمعي البصري. < أخرج العديد من الأعمال التلفزيونية منها سلسلة "في انتظار أكسيون" وسلسلة "لابريكاد" ومسلسلات "خط الرجعة" و"حياة" و"شيب وشباب". < من أشهر أفلامه التلفزيونية "ولد الحمرية" و"فندق با موسى" و"البركة فراسك" و"حجار الواد" إضافة إلى شريط سينمائي قصير بعنوان "حياة قصيرة". < حاز شريطه الروائي الطويل "أبي لم يمت" على الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم وجوائز الإنتاج والإخراج والتصوير والصوت والموسيقى الأصلية.