“دولــة” ليـسـاسـفـة

ضمن 118 نقطة في جدول أعمال جماعة البيضاء لدورة أكتوبر 2024، لم يحظ أكبر تجمع سكاني بمقاطعة الحي الحسني، سوى بمشروع «يتيم»، عبارة عن إلغاء اتفاقية وتعويضها باتفاقية جديدة لإعادة ترميم وهيكلة وإصلاح سوق السعادة والمركب التجاري والحرفي بليساسفة، في حين حظيت مناطق ومقاطعات، تحسب على «الثلث الناجي» من المدينة، بأكثر من ثلاثة مشاريع لكل واحدة. وتعكس هذه «البرمجة»، معطيين أساسيين، الأول، المساحة الضئيلة التي يحتلها حوض ليساسفة، المدر للثروات والناتج الداخلي الخام، في ذهن مسؤولي المدينة، وثانيا، ضعف المنتخبين المحليين الذين فشلوا، إلى حد الآن، في الترافع عن منطقة تعاني «أقسى» أنواع التهميش والإذلال و»الحكرة»، تنعكس على جودة حياة آلاف السكان، في «نقطة» جغرافية توجد على بعد خطوات من ثالث قطب مالي بالخليج وشمال إفريقيا، وتعتبر بوابة البيضاء من الناحية الجنوبية. إعداد: يوسف الساكت-تصوير (عبد اللطيف مفيق) لم تمض إلا أشهر قليلة على انتداب شركة البيضاء للتهيئة، من قبل ولاية جهة البيضاء-سطات والمجلس الجهوي ومجلس المدينة ومجلس مقاطعة الحي الحسني لترميم وإصلاح المركب التجاري والحرفي ليساسفة، الذي سرت بمشاكله وعاهاته الركبان، حتى توقف كل شيء من جديد، بعد أن انتبه المسؤولون إلى أن الاتفاقية (موضوع مقرر 144/2024)، بشكلها الحالي غير قابلة للتنفيذ ماليا وتقنيا، دون تعديلات وإضافات جديدة، أهمها إلحاق سوق السعادة بها، ما برر عدم إدراجها في دورات لاحقة لمجلس الجهة، الذي كان له رأي في الموضوع. وتحول المركب التجاري والحرفي، على مدى سنوات، إلى "همزة" انتخابية، يتسابق عليها منتخبو المدينة الذين يغرقون التجار والمهنيين في سيل من الوعود، قبل أن يتبخر كل شيء مع طلوع فجر اليوم بعد إعلان النتائج، حيث يتفرغ الجميع لحسابات تشكيل الأغلبيات والمكاتب وتوزيع غنائم المناصب والتفويضات. ومن يسمع مشروعا واتفاقية بمليار و800 مليون سنتيم بمساهمة مجلسي المدينة والجهة، يعتقد أن الأمر يتعلق بـ"فتح عظيم"، والحال أن الموضوع برمته لا يتجاوز تهيئة فضاءات عمومية وترميم البنايات بسوق السعادة، وإصلاح الأسقف وقنوات الصرف الصحي وإصلاح الإنارة العمومية وتبليط الممرات بالنسبة إلى المركب التجاري والحرفي. الشجرة والغابة الواقع، أن مشكل المركب التجاري والحرفي وسوق السعادة وغيرها من التجمعات التجارية الأخرى (ومعها معضلة الباعة المتجولين)، ليس سوى الشجرة التي تخفي غابة الاختلالات والتجاوزات وأشكال التهميش والدونية التي يعانيها آلاف المواطنين الذين حكمت عليهم الظروف أن يكونوا جزءا من مجال ترابي، يتعرض إلى العقاب منذ أكثر من عقدين، وبالضبط، منذ إقرار تقسيم إداري جائر، قضى بإلحاق بلدية ليساسفة بمقاطعة الحي الحسني. فعلى مدى سنوات، شكلت "ليساسفة"، بجميع أعطابها التنموية واختلالاتها المجالية، ضيعة اصطناعية لزرع بذور المعاناة، وسقيها باللامبالاة والتواطؤ، لحصد غلة "مقاعد" ورتب أولى في انتخابات، تباع فيها أصوات الناخبين بالجملة، عن طريق سماسرة يتحدثون لغة أسواق البهائم، حين يشبهون صوت المواطن بـ"الراس". ووسط أجواء موبوءة بالتوتر الاجتماعي والنفسي والاكتظاظ القاتل، والبطالة المزمنة وروائح الأزبال، يعيش آلاف السكان، فقدوا أي أمل في التنمية، وشمروا على سواعدهم من أجل التقاط لقمة عيش، كيفما اتفق، ولو تطلب ذلك اعتراض سبيل المارة، وتكوين عصابات إجرامية صغيرة تقطع الطريق والأزقة، بحد السيوف، أو ترتمي في أحضان المخدرات والقرقوبي و"البوفا" وماء الحياة، استهلاكا وتجارة محفوفة بمخاطر حملات أمنية محدقة، تنتهي بأصحابها إلى السـجن. ويملك شباب أحياء ليساسفة عشرات الأسباب لتبرير انحراف، يقولون إنهم لم يسعوا إليه، بل فرض عليهم، وفتحوا أعينهم وسطه، ووجدوا آباءهم وأبناء جيرانهم يفعلون الشيء نفسه، بسبب أشكال العنف المادي والرمزي التي تحيط بهم في مجال ترابي. وأحسن هؤلاء، من اختار طريقا آخر، أي البحث عن عربة مجرورة وبهيمة، والتوجه باكرا إلى سوق الجملة للخضر والفواكه، أو درب عمر، لجلب بضائع متنوعة يعيد فيها البيع بالتقسيط، في أسواق عشوائية وسط الأزقة الضيقة، والشوارع وجنبات الأحياء السكنية، حتى يخيل إليك أن ليسفاسة، عبارة عن معرض مفتوح للباعة المتجولين الذين تزداد أعدادهم ومشاكلهم، عند كل أزمة اجتماعية (كوفيد 19 مثل قريب). درس التاريخ فـ"قبل أن يظهر حي اسمه ليساسفة كانت المنطقة تسمى "نيميرو تسعود" (الرقم 9)، وتدل على النقطة الكيلومترية المحددة للبعد عن قلب البيضاء، كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى عين حرودة التي تسمى بـ17"، يقول بوشعيب جميلي، فاعل جمعوي. وأكد جميلي أن "نيميرو تسعود كانت عبارة عن مجموعة من الدواوير المتفرقة (طوما ولوسيان وولاد عبو والفحيلات والحاج صالح )، وهي أسماء لمعمرين فرنسيين ومواطنين مغاربة استغلوا خيرات مقالع المنطقة سنوات الاستعمار، وما بعده، إذ كشفت الآثار التي تم العثور عليها خلال عمليات حفر تجزئة الخزامى قدم هذا الحي لملايين السنين (الموقع الإيكولوجي ليساسفة). وكبقية مناطق المقالع في المغرب، ترك المستغلون خلفهم عددا كبيرا من العمال الذين اتخذوا من هذه الدواوير سكنا لهم، وتزوجوا وأنجبوا أبناء وكونوا أسرا واستقروا في المكان نفسه الذي كان يضم أيضا منازل أخرى لأعيان المنطقة". ترابيا، كانت "التسعود"، وليساسفة من بعد، تابعة للجماعة القروية دار بوعزة، وتضم تجهيزات ومرافق على أطراف الأصابع، منها قيادة ومستوصف صغير ومدرسة ابتدائية. ترحيل معاق ظل الحال كما هو عليه في منطقة منسية على هامش البيضاء، عبارة عن قرية صغيرة، إلى سنوات الثمانينات، حين انطلق المشروع الكبير الذي دشن للقضاء على دور الصفيح بالبيضاء، بتعليمات من جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، خصوصا، بعد إضرابات يونيو 1981، فكانت البداية من حي للامريم بمولاي رشيد، ثم جاء الدور على ليساسفة الذي شهد ولادة قيصرية لعدد من المشاريع السكنية دون هندسة وتصميم في الغالب (بقعة مساحتها 64 مترا مربعا لكل أسرة تفعل بها ما تشاء)، لإعادة هيكلة الدواوير الموجودة (التي تفاقم الوضع فيها بسبب توالي الهجرات القروية بسبب الجفاف)، وإلحاق دواوير أخرى، مثل الشوك و"نيميرو ثمانية" وباقي أحياء القصدير الأخرى بأطراف المدينة بمئات الأسر. وتميزت عملية الترحيل، التي استمرت طيلة عقد الثمانينات، بطابعها "المرتبك"، إذ كان الهدف هو إسكات أصوات الغضب وإخماد بؤر الحرائق الاجتماعية، وعزل المهمشين في هذه الركن القصي من البيضاء، دون استحضار لفلسفة التخطيط الحضري وحاجة السكان إلى تجهيزات للقرب ومرافق عمومية (منشآت ثقافية وملاعب رياضية ومؤسسات للتعليم ومراكز صحية وفضاءات للتسوق والحرف والتجارة ومساحات خضراء...)، إلى جانب توفير الســــــكن. بمعنى أن التفكير، منذ البداية، كان منصبا على تنفيذ مقاربة معاقة، تستحضر طرفا واحدا من معادلة السكنى والسكن، بتغليب الأولى على الثانية، فكانت النتائج كارثية مع مرور السنوات، ومازالت المنطقة تدفع ثمنها على مدى 40 سنة. ومع مرور السنوات، انتبه المسؤولون إلى تداعيات أكبر جريمة تعمير ارتكبت في حق منطقة تعتبر، إلى جانب سيدي معروف وبوسكورة، أحواض البيضاء وامتدادها الغني، فقررت وزارة الداخلية، خلال مشروع التقسيم الإداري لـ1992، إحداث عمالات جديدة، ضمنها عمالة الحي الحسني-عين الشق، وعزل ليساسفة عن الجماعة القروية لدار بوعزة، وتمتيعها بالصفة الاعتبارية (بلدية) تابعة للعمالة الجديدة نفسها، دون أن يحل ذلك أي مشكل على الإطلاق، رغم المجهودات المبذولة من قبل العمال المتعاقبين والرئيس الوحيد (محمد اليوسفي الشقيق الأكبر للطاهر اليوسفي الرئيس الحالي لمقاطعة الحي الحسني). لعنة المدخل الجنوبي يحكي الفاعل الجمعوي "مع بداية التقسيم الجماعي 199، شهدت ليساسفة ميلاد مشاريع محتشمة توقفت في منتصف الطريق، بسبب الإشكاليات التي واجهها المسيرون الجدد في الشق المتعلق بالأوعية العقارية، وهي إشكاليات مازالت مستمرة إلى اليوم بطرق مختلفة". وبعد تداول عدد من المقترحات ضمن دورات المجلس البلدي، تم الاتفاق على ردم المقالع التي كانت تتوسط الأحياء السكنية (مقلع السلباوي نموذجا)، وهي العملية التي استغرقت وقتا طويلا ، بسبب ضعف واضح في الإمكانيات (مقر البلدية نفسه كان عبارة عن بناية من قصدير تم إحداثها لمواكبة الحاجيات الإدارية للسكان الذين كانت أعدادهم تزداد بشكل مطرد فاقمها إنشاء وحدات صناعية للنسيج لعائلة الجامعي استقطبت يدا عاملة من العالم القروي في نهاية التسعينات). ويمكن القول إن إنشاء وحدات صناعية للنسيج، كانت بداية مشروع نهضة اقتصادية بالمنطقة، استقطبت عددا من رجال الأعمال الذين ساهموا في ميلاد مناطق صناعية، بتشجيع من البلدية، دون أن يواكب ذلك عمل قاعدي من المجموعة الحضرية، خصوصا في المجال الاجتماعي والتجهيز المحلي للقرب وتصفية العقارات لتمكين الوافدين الجدد من الاستقرار في شروط تتوفر على الحد الأدنى من التخطيط الحضري وثقافة المرفق العام. والنتيجة، يقول جميلي، أن تحول حوض ليساسفة الغني بمساهمته في الاقتصاد الوطني والمحلي، إلى بقرة حلوب، تركت إلى حالها في بوابة المدخل الجنوبي للمدينة، إذ كان يسهل استهدافها بموجات جديدة من الهجرات القروية، هروبا من الجفاف وبحثا عن الشغل في المناطق الصناعية، بموازاة انطلاق الجيل الجديد من الدواوير والبناء العشوائي وخرق قانون التعمير والرخص والترامي على الملك العمومي والطرق والأزقة، ما أنتج فسيفساء من أحياء سكنية شديدة الضيق والكثافة السكانية، خصوصا بليساسفة2. مشاريع معلقة - البناية المهجورة الأمانة 2 بليساسفة العليا قرب إعدادية ابي القاسم التي يأمل السكان في أن تتحول إلى مساحة خضراء. - تعزيز البنية الصحية والتوزيع العادل لمؤسسات التعليم، يتناسب مع النمو الديمغرافي والسكني (عمارات السكن الاقتصادي وتجزئات سكنية)، إذ لا تتوفر ليساسفة 1 و 2 و 3 وليساسفة العليا سوى على أربع مؤسسات، هي مدارس الفلاح والزرقطوني والانبعاث وأبو القاسم الزياني الابتدائية، ويوسف بن تاشفين الإعدادية. - بناء مزيد من المرافق العمومية وتجهيزات القرب بتجزئات السكن الاجتماعي بليساسفة. - محو الفوارق بين ليساسفة العليا والخزامى وليساسفة 2 الأكثر كثافة ومشاكل وأعطابا، إذ لا يفصل بين المنطقتين سوى شارع "طريق الجديدة" سابقا وعبد الله إبراهيم حاليا، لكن تفصلهما على مستوى العدالة المجالية سنوات ضوئية. - معالجة مشكل الاكتظاظ بشارع عبد الله إبراهيم، بسبب انتشار محطات سيارات الأجرة الكبيرة وحافلات النقل الحضري، رغم العجز الكبير في خطوط الحافلات التي لا تصل إلى التجزئات السكنية. - الإسراع في إنجاز المشاريع المدرجة في برنامج المقاطعة وتفعيل مقتضيات تصميم التهيئة وتنفيذ المشاريع الخاصة بالمنطقة المنصوص عليها في برنامج عمل جماعة البيضاء، ومجلس الجهة ومجلس العمالة. "غيتو" بسبب التهميش وترك الحبل على الغارب، والتعاطي مع المنطقة باعتبارها مصدرا للمداخيل وجنة للضرائب، تحولت ليساسفة إلى "فافيلا"، أشبه بمدن الضواحي بأمريكا الجنوبية، متاخمة للعاصمة الاقتصادية، عجزت أعتى برامج التنمية عن إعادة إدماجها، من جديد، في مجالها الحضري الطبيعي، رغم إلحاقها في بداية القرن الجديد (في إطار تقسيم إداري جديد) بمقاطعة الحي الحسني، في إطار نظام وحدة المدينة الذي انطلق، عمليا، في 2003. وانطلقت أولى محاولات الإصلاح قبل عشرين سنة، بإحداث تجزئات سكنية في إطار السكن الاجتماعي، زادت من تفاقم الوضع، بسبب عدم احترام دفاتر التحملات وتصاميم التهيئة ووثائق التعمير، سيما في ما يتعلق ببناء عدد كاف من المساحات الخضراء والمدارس والمستوصفات، فتراكمت المشاكل دون أية حلول واقعية في مساحة تتجاوز 45 كيلومترا مربعا وكثافة سكانية مهولة، ضمت قاطني مشروع المحج الملكي وحي النسيم إلى جانب المستفيدين من السكن، والمرحلين في مشروع جنان اللوز لإحداث القطب المالي أنفا.

“دولــة” ليـسـاسـفـة

"فافيلا" في المدخل الجنوبي للعاصمة الاقتصادية تحتجز آلاف السكان المحرومين من أسباب التنمية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مشاهد من "المغرب الذي كان"

أخنوش يمثل الملك في القمة التاسعة عشرة للفرنكوفونية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات