تراجع عدد حرفييها من 85 إلى ستة فقط كل واحد منهم أمين على ورشته مثلت العاصمة الإسماعيلية إلى عهد قريب مهدا لمجموعة من الحرف التقليدية المتنوعة، لدرجة اتخذ كل لون منها فضاء خاصا أصبح يحمل، مع مرور الوقت ،اسم النشاط المزاول بين أحضانه، كما هو الحال بالنسبة إلى "السلالين"، الذي كان يؤوي رواد الحرف المرتبطة بمادة القصب، و"النجارين" الذي كان مرتعا لحرفيي النجارة، و"البرادعية" المكان المخصص لصنع "برادع" الدواب، و"الصباغين"الذي كانت تتم به عملية صباغة الصوف، و"الحرارة" نسبة إلى بائعي الحرير، و"القصادرية" الذي كان مخصصا لرواد صناعة المستلزمات المصنوعة من مادة القصدير، و"القبابة"الذي كان حكرا على صناع الأدوات الخشبية كقباب الحمامات التقليدية والقبائب...وكلها أمكنة لم تعد اليوم إلا أسماء جوفاء على غير مسمياتها، بعدما غزتها تجارات وأنشطة بديلة أملتها مجموعة من الظروف، والنموذج يجسده فضاء النجارة الكلاسيكية، أو ما يعرف عند سكان مكناس بـسوق"العوادة"، الكائن بحي "الباب الجديد" بالمدينة العتيقة، الذي تعرضت محلاته في السنوات الماضية لزحف لا يقاوم من قبل أنواع تجارية متنوعة، تتصدرها تجارة الفواكه الجافة وخياطة الأفرشة، دون أن نغفل طبعا، احتلال محيطها من طرف "تسونامي" الباعة المتجولين. حنين إلى أعلام المهنة كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة من صباح يوم (أحد) بارد وقارس من أيام منزلة (الليالي)، عندما تخطت "الصــبـاح" عتبة ورشة الراحل الحاج إدريس الفطواكي، في زيارة بدون موعد، كان الغرض منها الدخول في دردشة خاطفة وممتعة مع أحد ورثة حرفته، في شخص ابنه عبد الخالق (44عاما)، الذي أبى إلا أن يستهل حديثه باستعراض قائمة أعلام ورواد هذه الحرفة، الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، أمثال مولاي المحجوب الرحالي، وسيدي محمد بن إدريس، وسيدي علال الياديني، ومولاي عبد الله الصديقي، وبوبكر الشاذلي، والعلمي زعمون، والهادي المراكشي، والحاج المعطي بومديان، وأحمد النيفاص، وادريس البدوي، وابن الشاد، والحاج محمد أغربي، وبنحليمة، والمسطاسي، والجيلالي البدوي، والعلمي العواد، ولمعلم إدريس الزويني، والحسيني، والغالي، وزدي حسن، وصفندلة، وبوعزة، والحاج بوقنطار، الذي تحمل مسؤولية آخر أمين لهذه الحرفة، التي باتت اليوم في غنى عن منصب الأمانة، بعدما تراجع رقم حرفييها من أزيد من 85 إلى ستة أشخاص فقط، كل واحد منهم أمين على ورشته، على حد تعبير عبد الخالق، الذي لم يمنعه تركيزه في العمل من الرد على استفساراتنا المصحوبة والمدعمة بفضول سبر أغوار هذه الحرفة، التي تلفظ آخر أنفاسها في صمت، مجسدا بهذا الصنيع فحوى المثل المغربي الدارج"حديث ومغزل". "حرفة بوك لا يغلبوك" من داخل ورشته المليئة بمنتوجات مختلفة الأشكال والأنواع، لم يعد يتسع لها المكان على رحابته، يشرع لمعلم ابن ادريس الفطواكي في تقليب صفحات قصته المثيرة مع حرفة الآباء والأجداد، التي شرع في مزاولتها منذ سنة 1986، تاريخ انقطاعه عن مواصلة مساره الدراسي، الذي كتب له أن ينتهي قبل أن يبدأ، بعدما توقف عند حدود المستوى الخامس (الشهادة الابتدائية سابقا)، لأسباب ظل يجهلها حتى حدود هذه اللحظة. يقول ابن ادريس "غداة توقفي عن متابعة مسار الدرس والتحصيل، وجدتني بين عشية وضحاها حبيس جدران هذه الورشة، إلى جانب شقيقي الأكبر عبد النبي (59 عاما) ومعنا مجموعة من المتعلمين، نتتلمذ جميعا على يد والدي الراحل، الذي بدأت أتعلم على يديه أبجديات وتقنيات هذا اللون الحرفي، حيث كان يعاملني معاملة الشيخ لمريده، ساعتها أيقنت أن الأمر لم يعد كما كان عليه من قبل، عندما كنت أقصد الورشة خلال أيام العطل بغرض التسلية ليس إلا". لكن ارتباطه بهذه الحرفة لردح زمني يقارب 29 سنة، لم يمنعه من الإقرار بحقيقة مرة، كونه لم يعد مرتاحا في صنعة لا مستقبل لها، حرفة قال إنها شاخت مثل روادها، إذ يقول"وجودي بهذا المكان لا يعدو أن يكون مضيعة للوقت، بل و تكريسا لمعنى المثل الشهير "حــرفــة بــوك لا يـغـلـبـوك"، رغم أني مغلوب على أمري وسط هذا الفضاء" . أصل التسمية استمدت "العوادة" تسميتها من "العود"، الذي يشكل المادة الأولية والخام للحرفة. وتتوزع أنواع العود التي يشتغل عليها الحرفيون بين (الكاليبتوس)، الذي يتم جلبه من منطقة سيدي يحيى بالغرب (غابة المعمورة)، و(الكريش)، الموجود بكثرة بغابة أزرو، و(التغزاز)، و(الدردار)، و(الصفصاف)، و(البلاتان)، و(بو وريقة)، وهي الأنواع التي تستقدم عادة من ضواحي مكناس، وتحديدا من بساتين و"جنانات" ورزيغة وتاورة، والتي شهدت مساحاتها تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة نتيجة زحف الإسمنت على أجزاء مهمة منها.أما بخصوص كيفية وأثمنة الاقتناء فتختلف من نوع لآخر، فهناك ما يتم اقتناؤه بواسطة (القرطة) كالكريش والصفصاف والدردان، حيث يتراوح ثمن الكيلوغرام الواحد، ما بين درهم ودرهمين، حسب النوع والجودة، وتبعا كذلك لعاملي العرض والطلب، في حين يقتنى الكاليبتوس عن طريق القطعة، وهو ما يعرف عند الحرفيين بـــ "الحبة"، والتي يتراوح سعر الواحدة منها ما بين درهم ونصف ودرهمين، اعتبارا للعوامل سالفة الذكر. منتوج يواجه الكساد أبدعت مهارة الصانع "العواد" وتفننت أنامله الذهبية على مر العصور والأجيال، في إنتاج كشكول من القطع متعددة الاستعمالات، والتي منها ما أوشكت تجارتها على الكساد، حتى وإن بقي عرضها قائما كمشط وقرشال الصوف، وألواح الكتاتيب القرآنية العتيقة، والأقفال الخشبية، والعكازات(البردوات)... ومنها ما قل الإقبال عليها بشكل ملحوظ كمطارح الأفران التقليدية، والفراكات، والوصالي، وناعورات غزل الصوف، والقباب الخاصة بالحمامات، والصناديق والعلب المعدة لتجميع الخضر والفواكه، وبعض المعدات المستعملة في معصرة الزيت الكلاسيكية، والمغارف، وبعض الأدوات المتعلقة بالمجال الفلاحي مثل المحاريث... وذلك نتيجة غزو النهضة الصناعية وما خلفته من ابتكار معدات بديلة ومتطورة كآلات الغسيل، والجرارات وما إلى ذلك، دون أن نغفل دخول صناعة المواد البلاستيكية على الخط. هـــل حـانـت ســاعــة الاحــتـضار ...؟ في مقارنة سريعة بين ماض وهاج، وحاضر معتم، يقول عبد الخالق الفطواكي، وعلامات الحسرة بادية على محياه، "بعدما شكلت العقود والسنوات الماضية العصر الذهبي لحرفة"العوادة"، التي نجح بفضلها جميع روادها في توفير الظروف والمستلزمات، الضرورية منها والكمالية، لتربية وتعليم أبنائهم، ومنهم والدي ادريس رحمة الله عليه، هاهي ذي بوادر أزمة خانقة بدأت تلقي بظلالها على هذا القطاع، إيذانا بدخول جسده النحيل إلى غرفة العناية المركزة... فهل يا ترى حانت ساعة الاحتضار؟ سؤال أترك ليومية "الصـبـاح" حق الرد عليه، بعدما شاهدت بأم عينها كيف أدار زبناء الأمس القريب ظهورهم لهذا الزخم من المعروضات، التي ضاقت بها الورشة بما سعت ورحبت، ما يفسر أن الحرفة تعيش أرذل عمرها، وتلفظ أنفاسها الأخيرة في صمت، بعدما قضت عصرا ذهبيا، لم تبق منه إلا الذكريات وصدى البكاء على الأطلال". منتوجات جديدة حسب الحاجة ظلت منتوجات أخرى محافظة، ولو نسبيا، على رواجها الموسمي (الحرث والحصاد)، والحديث هنا طبعا عن المستلزمات الخاصة بصغار الفلاحين، الذين ظلوا ملزمين بالوفاء لاستعمال الوسائل التقليدية، التي تتطلبها الزراعات المعاشية، ذات المساحات الميكروسكوبية، من قبيل المحاريث الخشبية المجرورة بالدواب، والمدراة... والوصف نفسه ينطبق على الأدوات الخاصة بمجال البناء كعصي (البالات) و(الفيسان).على صعيد آخر، شهدت الحرفة بروز منتوجات جديدة، لم تكن كافية لسد حاجيات ومتطلبات عيش أصحابها، بقدرما عبرت عن تعلقها الكبير بنشاط أفنت فيه زهرة شبابها، ومن بين هذه المنتوجات نذكر مطارح أفران الغاز المنزلية، والهراوات التي يكثر الطلب عليها من طرف حراس الليل وأصحاب السيارات الخاصة وسائقي سيارات الأجرة بنوعيها الصغير والكبير، بهدف استخدامها للدفاع الشرعي عن النفس في حال التعرض للأخطار، وكذا بعض الديكورات التي هي عبارة عن مجسمات صغيرة لمجموعة من القطع التي كسدت تجارتها أو أشرفت على ذلك. ولأنه قادر على الإبداع في كل ما له علاقة بمادة العود، فإن الصانع "العواد" لا يتأخر لحظة في تلبية طلب عازفي آلتي (لوتار) و(الهجهوج)، من خلال صناعة قوالب هاتين الآلتين، أو ما يعرف عند أصحاب الاختصاص بـ (الجبوحة). إنجاز: خليل المنوني (مكناس) تصوير: (عزيز زينرحو)