تارودانت … مشاريع متعثرة

تارودانت، المدينة العتيقة التي تنام على صفحات التاريخ وتستيقظ على هموم الحاضر. مدينة تتنفس عبق الحضارات وتئن تحت وطأة الإهمال. واحدة من أعرق الحواضر المغربية التي سطرت مجدها في دفاتر الزمن، بأسوارها العتيقة، وأسواقها الشعبية، وكنوزها المعمارية والتراثية الفريدة، لكن هذا المجد القديم بات اليوم يواجه تحديات متراكمة. مشاريع تنموية متعثرة. بنية تحتية مهترئة. مشاكل بيئية متفاقمة، وقطاع صحي في وضع لا يليق بتاريخ المدينة ومكانتها. تعيش تارودانت مفارقة صارخة بين تاريخ يصرخ بالحياة وواقع يختنق بالإهمال. إنجاز : عبد الجليل شاهي (أكادير) بعد سنوات عجاف عاشتها تارودانت في ظل تجربة حزب العدالة والتنمية، علق سكان المدينة آمالهم على فترة جديدة بقيادة عبد اللطيف وهبي، الذي وعد بإخراج المدينة من دائرة التهميش والإهمال، ورفعت معه التطلعات بأن تستعيد المدينة مكانتها، وتخرج من سنوات الضياع التي أنهكتها، لكن وبعد مرور أربع سنوات على توليه رئاسة المجلس الجماعي، وجد المواطنون أنفسهم أمام واقع صادم. الركود ذاته، والمشاكل تتكاثر، والمشاريع الكبرى لا تزال تراوح مكانها أو تتعثر دون تفسير مقنع، رغم رصد ميزانيات وخطط طموحة. مشاريع كثيرة وضعت على الورق، لكن الواقع يروي حكاية أخرى. برنامج عمل الجماعة كان يفترض أن يكون نقطة تحول في مسار التنمية المحلية، فقد ضم 39 مشروعا موزعة على ست سنوات، تمس مجالات حيوية، من تأهيل الشوارع، وبناء منشآت فنية على واد الواعر، إلى إحداث طرق مدارية ومواقف سيارات، مرورا بتوسيع شبكة الصرف الصحي وإنشاء محطة تصفية، وبناء خزان للماء بحي أكويدير، وسوق الجملة بأولاد الغزال، وتأهيل الأسواق الشعبية كسوق جنان الجامع وسوق فرق الأحباب. كما شملت اللائحة أيضا مشاريع اجتماعية وثقافية، من بينها بناء دار الشباب. ومعهد موسيقي ومراكز تربوية واجتماعية وناد نسوي مع حضانة ومركز استقبال ومخيم للأطفال، إضافة إلى إحداث مركز جامعي لكرة القدم وملاعب قرب، والمسبح الجماعي الخاص بالنساء. لم تغفل الخطة الجوانب التراثية والبيئية أيضا، من ترميم سور المدينة وأبوابها التاريخية، إلى تهيئة المدارات السياحية والساحات والمساحات الخضراء، فضلا عن مشاريع لتحديث الإنارة العمومية وتجهيز البنايات الجماعية والإدارية، واقتناء الآليات الضرورية لتيسير العمل اليومي. لكن كل هذه المشاريع بقيت، في الغالب، حبيسة الرفوف أو عالقة في مراحل أولية، وكأنها لم تكن سوى أحلام موسمية في حملة انتخابية، لا تفسير واضح من المجلس الجماعي، ولا تواصل يبدد غموض التأخير، فيما يتزايد الإحباط وسط السكان الذين يرون مدينتهم تفقد بريقها، وتغرق في بطء تنفيذ لم يعد يحتمل. محطة الفوضى رغم موقعها الإستراتيجي وتاريخها العريق، لا تزال تارودانت تفتقر لمحطة طرقية تليق بمكانتها، وتجاري المعايير الحديثة من حيث البنية التحتية والخدمات والسلامة، ففي قلب المدينة، وتحديدا عند باب الزركان، تتكدس الحافلات وسيارات الأجرة في فضاء عشوائي مفتقر لأبسط شروط الراحة والكرامة، حيث يعيش المسافرون فصولا متكررة من المعاناة، وسط غياب شبه تام للمرافق الأساسية، والتجهيزات الضرورية، والأمن، والنظام. تحولت محطة باب الزركان التي يقصدها سكان أزيد من 89 جماعة بإقليم تارودانت، إلى ما يشبه سوقا فوضويا، بلا إشراف أو تنظيم، حيث يعاني المسافر قبل الانطلاق وبعد الوصول، واقعا مريرا يقف في تناقض صارخ مع الوعود المتكررة التي أطلقتها المجالس الجماعية المتعاقبة على المدينة، التي أعلنت منذ سنوات عن قرب إحداث محطة طرقية جديدة بمواصفات عصرية، بل وذهبت بعيدا في تحديد موقعها بمحاذاة الطريق الوطنية رقم 10، على بعد أمتار قليلة من المحطة الحالية، في بقعة أرضية تابعة لوزارة الأوقاف، والتي أبدت بدورها انفتاحا على مختلف الصيغ المقترحة لتسوية وضعيتها العقارية. وفي خطوة زادت من آمال السكان، صادق المجلس الجماعي، الخميس 20 فبراير الماضي، على مشروع إقامة محطة طرقية من الجيل الجديد، عند المدخل الغربي أولاد الغزال للمدينة (جهة واد سوس)، في إطار اتفاقية شراكة مع وزارة النقل واللوجيستيك، ومجلس جهة سوس ماسة، بميزانية إجمالية تقدر بـ46 مليون درهم، كما شهدت المرحلة السابقة عدة لقاءات، أبرزها اجتماعان مع المدير العام للشركة الوطنية للنقل واللوجيستيك، الذي أبدى موافقة مبدئية على المشروع، بل واقترح إنشاء مرافق موازية كمستودع للحافلات، وفندق صغير، ومرافق تقنية لاحتضان الحرفيين والمهنيين، إلى جانب موقف للطاكسيات والعربات التقليدية. غير أن كل هذه المبادرات والتصريحات الطموحة، ظلت مجرد حبر على ورق، وذهبت أدراج الرياح. ضعف الترويج السياحي رغم ما تزخر به تارودانت من مؤهلات طبيعية وتاريخية وثقافية وإيكولوجية نادرة، فإنها لا تزال تعيش ركودا اقتصاديا خانقا يعكسه الواقع الميداني، حيث أغلقت أبوابها عدد من الوحدات الفندقية العريقة التي كانت بالأمس قبلة للسياح والمشاهير من مختلف أصقاع العالم. من بين هذه المعالم المغلقة فندق "الغزالة الذهبية"، الذي لطالما استضاف شخصيات عالمية بارزة، على رأسها الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، إضافة إلى فنادق تاريخية أخرى مثل قصر السلام، والسعديين، والأطلس، فضلا عن العشرات من الرياضات التقليدية التي وئدت في صمت قاتل. لقد تحول القطاع السياحي بتارودانت، الذي كان ينتظر أن يشكل قاطرة للتنمية المحلية، إلى قطاع شبه مشلول، يئن تحت وطأة الإهمال المؤسساتي وضعف الرؤية الإستراتيجية. رغم تميز المدينة بتراثها المعماري الفريد، كسورها العظيم، وقصبتها السلطانية، وأسواقها التقليدية، وزواياها العتيقة، وفنونها الشعبية، وحرفها اليدوية الضاربة في الجذور، إضافة إلى طابعها البيئي الذي يؤهلها لأن تكون وجهة متميزة للسياحة الإيكولوجية، إلا أن كل هذه الكنوز ظلت رهينة غياب سياسة ترويجية فعالة تستثمر هذا الرأسمال اللامادي في الدفع بعجلة الاقتصاد المحلي. ويعزى هذا الوضع إلى قصور المجالس الجماعية والمجلس الإقليمي للسياحة، التي فشلت في بلورة تصور شامل لتسويق المدينة وجهة سياحية ذات هوية متفردة. كارثة بيئية تعاني تارودانت وضعا بيئيا خطيرا يهدد صحة السكان ويؤثر سلبا على جودة حياتهم. فبدلا من أن تكون المدينة وجهة للسياحة والهدوء، أصبحت تعاني روائح كريهة ناتجة عن المطرح العشوائي ومجاري الصرف الصحي المتدهورة، وسط صمت غير مفهوم من الجهات المسؤولة. في حي الزرايب، يعيش السكان معاناة يومية بسبب تعثر أشغال إصلاح قنوات الصرف الصحي، التي يشرف عليها المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، هذه الأشغال تسببت في انهيارات بجانب بعض المنازل، إضافة إلى انقطاع مياه الشرب بشكل كامل، ما دفع السكان إلى تنظيم عدة وقفات احتجاجية، لكن دون أن يجدوا آذانا صاغية. وتزداد الأمور سوءا بسبب ضعف الرقابة على هذه الأشغال، ما ساهم في تعميق الأزمة التي لم تعد تقتصر على حي واحد، بل امتدت لتشمل أحياء أخرى من المدينة، خاصة في ما يتعلق بتدهور البنية التحتية البيئية. أما في محيط باب تارغونت، فإن المارة يضطرون إلى تغطية أنوفهم بسبب الروائح الكريهة المنبعثة من المكان، في مشهد يعكس فشلا واضحا في تدبير الشأن البيئي، كما تحولت بعض جوانب الأسوار التاريخية، التي كان يفترض أن تحظى بالعناية، إلى أماكن للتشرد والتبول. ورغم كثرة الشعارات التي ترفع عن تنمية المدينة وتحسين ظروف العيش فيها، لا تزال تارودانت تفتقر إلى أبسط شروط النظافة والتدبير البيئي. هذا الوضع يعمق شعور السكان بالتهميش، ويزيد من خطر انتشار الأمراض. تردي الخدمات الصحية يشهد المستشفى الإقليمي المختار السوسي بتارودانت وضعا صحيا مقلقا، يعكس واقعا مترديا للخدمات الطبية المقدمة لسكان أكثر من 89 جماعة بإقليم تارودانت، ويثير استياء واسعا في صفوف المواطنين، الذين يجدون أنفسهم في مواجهة معاناة مزدوجة، المرض من جهة، وغياب التجهيزات والموارد الطبية الأساسية، من جهة أخرى. فهذا المستشفى، الذي يفترض أن يكون مؤسسة حيوية للعلاج والتطبيب، يعاني خصاصا حادا في المعدات الطبية الضرورية، ما يضطر عددا من المرضى إلى التنقل لمسافات طويلة صوب مستشفيات المدن المجاورة بحثا عن العلاج. كما يشكو المستشفى من قلة الأطر الطبية والتمريضية، وهو ما ينعكس سلبا على جودة الخدمات وسرعة الاستجابة للحالات المستعجلة. وتزيد قلة الموارد البشرية من حدة الأزمة، وغياب أطر طبية مختصة في الطب العقلي والنفسي بالمستشفى، كما تشهد المصالح المختلفة اكتظاظا كبيرا، مع طول أمد المواعيد الطبية التي قد تمتد لأشهر في بعض التخصصات، ما يجعل المرضى في مواجهة مباشرة مع الألم دون أمل في علاج قريب. من جهة أخرى، يفتقر المستشفى للأدوية بشكل كاف، خاصة تلك المرتبطة بالأمراض المزمنة، مثل السكري وارتفاع الضغط الدموي، ما يضطر المواطنين إلى اقتنائها من الصيدليات الخاصة بأسعار تفوق طاقتهم، أو التعايش مع مضاعفات صحية خطيرة، بسبب عدم الالتزام بالعلاج المنتظم. الغياب المتكرر لوهبي عبرت مستشارة جماعية عن حزب الحركة الشعبية، خلال دورة ماي العادية لمجلس جماعة تارودانت، عن استيائها من الغياب المتكرر لرئيس المجلس، عبد اللطيف وهبي، واعتبرت أن هذا الغياب يعطل سير عمل المجلس ويخل بالمسؤولية السياسية الملقاة على عاتقه، وقد دفع هذا الوضع عددا من الأعضاء إلى إعلان مقاطعة دورات المجلس، احتجاجا على ما وصفوه بـ"الفراغ القيادي" داخل المجلس. وتصاعد التوتر داخل الجلسة التي عقدت يوم تاسع ماي الجاري، بعد أن نبهت المستشارة، خلال تدخلها في إطار نقطة نظام، إلى خرق القانون التنظيمي رقم 113.14، حيث اعتبرت أن عقد الدورة في اليوم التاسع من الشهر، بدلا من الأسبوع الأول، يعد خرقا قانونيا، كما انتقدت ضعف جدول الأعمال وغياب أي مستجدات مهمة تتعلق بتنمية المدينة، رغم اقتراب نهاية الولاية الانتدابية. لكن النائب الأول للرئيس، الذي ترأس الجلسة، التي انطلقت متأخرة عن موعدها بـ 56 دقيقة، وبعد اكتمال النصاب القانوني، قاطع مداخلة المستشارة مع بداية الجلسة، بحجة خروجها عن موضوع النقاش، ما أدى إلى جدل واسع داخل القاعة، وفي خضم ذلك التوتر، أعلنت المستشارة انسحابها من الجلسة ومقاطعتها للدورات المقبلة، باسمها وباسم عدد من المستشارين المنتمين لحزب التجمع الوطني للأحرار ولائحة "تارودانت أولا"، كما التحقت المستشارة المنسحبة بكتلة اليسار داخل المجلس، والتي تضم خمسة مستشارين من حزبي الاتحاد الاشتراكي واليسار، سبق أن أعلنوا مقاطعة هذه الدورة عبر بلاغ رسمي، احتجاجا على ما وصفوه بـ"استمرار اختلالات في تسيير الشأن المحلي"، محملين الرئيس مسؤولية ذلك، بعد أن تم تنبيهه سابقا بشكل رسمي.

تارودانت … مشاريع متعثرة

بنية تحتية مهترئة وغياب الرئيس وهبي يجر المدينة إلى المجهول

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

حزن "فيسبوكي" على رحيل بوحمالة

7000 تذكرة لقمة الكوكب وبركان

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات