ضحايا الزلزال… حياة تحت رحمة الخيام

"المحرومون" من الدعم يكتوون بالحر والقر وأسر تعيش وسط الركام وتداوي جراحها بالصبر على بعد 10 أشهر من زلزال الحوز، الذي أفجع جميع المغاربة، وأودى بحياة المئات، وشرد الآلاف، كان منتظرا بعد هذه المدة تحقيق تقدم ملموس في انتشال الضحايا من حياة التشرد، غير أن عجلة عودة الحياة الطبيعية إلى قرى مرتفعات الأطلس الكبير، تسير ببطء، بل إنها متوقفة في بعض المناطق، وما يزال السكان، خاصة الذين لم يحصلوا على دعم، يعيشون حياة الأيام الأولى التي تلت الكارثة، في خيم مهترئة ووسط ركام المنازل المنهارة. إنجاز: عصام الناصيري / تصوير (عبد اللطيف مفيق) (موفدا الصباح إلى الحوز) يبعد مركز أمزميز عن مراكش بحوالي 56 كيلومترا، وهو من بين المناطق التي دمر الزلزال أجزاء منها، لكن حجم الدمار لا يظهر على وجه هذه المدينة الصغيرة، عند دخولها والتقدم في شارعها الرئيسي، لكن بمجرد الدخول إلى أطرافها، يصدم زائر المنطقة بهول الفاجعة، إذ أن أحياء بكاملها أصبحت مهجورة، وكأنها ساحة معركة حرب طاحنة. توديع الأحياء من المألوف أن يودع الناس بعضهم البعض، لكن أحد سكان حي السور الجديد بأمزميز، كتب على مباني الحي المنهارة، "باي باي السور الجديد" بلون أسود طاغ يستوقف كل من دخل بين الركام، وكأنه يرثي ويودع الحي الذي كتبت فيه سطور طفولته الأولى، وأزقة وبيوت رحلت معها الذكريات. ويتحسر أحد السكان الذي رافقنا في جولة بين الدروب المنهارة، في كل مرة يشير فيها إلى أكوام الركام، مرددا كان هنا مسجد، أو كان هنا حمام ومعبد اليهود، وهذا مكان الملاح، لكن بالنسبة إلينا كان المشهد رتيبا ومتكررا، عبارة عن أكوام من الركام وفضاءات بلا معالم، وشقوق عميقة في الجدران، وصوت جريح يتذكر الصورة الأولى لهذه الدروب. خيام النجدة في الجهة المقابلة من المدينة، وفوق مرتفع تلي نصب بعض الضحايا خيامهم، للاحتماء من العراء بعدما وجدوا أنفسهم بدون مساكن، ولم يستطيعوا تأمين مسكن في أمزميز، الذي أصبحت فيه منازل الكراء عملة نادرة، وتصل سومتها إلى 2000 درهم وأكثر. يخترق الطريق عشرات الخيام، التي استقرت فوق هذا المرتفع، الذي يطلق عليه "دوار الدجاج"، وتتوسطه ساحة وضعت فيها مراحيض متنقلة، موصولة بالماء والكهرباء، كما هو الوضع بالنسبة إلى باقي الخيام. يقول شاب يبدو في عقده الثالث، كان يجلس أمام خيمته، التي تؤويه هو وأبوه وجدته المسنة، التي كانت بدورها تجلس فوق كرسي، وتضع نظارات طبية قديمة، ويزين وجهها وأطرافها وشم قديم، (يقول) "من الزلزال وحدنا هنا فالطبيعة والقياطن". ويضيف الشاب، الذي لم تؤثر الكارثة على ملامحه البشوشة، "جاءتنا المساعدات في البداية، وبعد خروج الدعم، فإن الوضع تحسن نسبيا، لكن غير المستفيدين هم من يعانون الويلات". وتابع الشاب حديثه قائلا "هناك من قضى أسابيع في الخيام وبعدها لجأ للكراء، والذين ظلوا هنا، إما غير مستفيدين من الدعم، أو لم يجدوا منازل للكراء، إذ أن جميع المناطق المحيطة انعدمت فيها منازل الكراء، وارتفع فيها سعرها بشكل جنوني، بسبب الطلب الكبير عليها". داخل خيمة هذه الأسرة كرسي مغطى بأطراف من الفراش، يمثل البهو أو مكانا لجلوس الضيوف أو أحد أفراد الأسرة عندما يعود من الخارج، أمامه مطبخ عبارة عن موقد نار وطاولة صغيرة وضعت فيها بعض الأواني، وفي الداخل مكان للنوم. ويقول الأب الذي يبدو في عقده الخامس، "استفدنا من الدعم الشهري ودعم المنزل، ونقضي أيامنا داخل هذه الخيام في انتظار الفرج"، مضيفا أن الدعم غير كاف، إذ أن الابن يحترف الجبس، مبرزا أن أكبر مشكل يعانيه هو الحر داخل الخيام، إذ لا يمكن المكوث فيها لدقائق في النهار، وأن النساء والأطفال يطاردون الظل طيلة اليوم، في حين يلجأ الرجال إلى المقهى. صرخة المحرومين من اليسير أن يطلق بعض المسؤولين الحكوميين، تصريحات غير محسوبة، وتنم عن جهل بالواقع، مثل من دعا سكان الخيام إلى الخروج منها وكراء منازل، إذ أن هناك بعض الأسر التي لم تستفد من الدعم، وتعيش وضعية صعبة، كما هو الأمر بالنسبة إلى أسرة تعيلها امرأة، تعيش داخل خيمة صغيرة، و"تقاتل" يوميا لضمان عيش أطفالها. تقول هذه المرأة التي كانت تغسل ملابس أطفالها أمام خيمتها، مستعينة بآلة غسيل عادية، "ألفنا العيش داخل الخيام رغم قسوتها، إذ لا نستطيع البقاء فيها بسبب الحرارة في النهار، وندخلها فقط في الليل، رغم أننا نخاف من أن يدخل علينا أحد ما". وأضافت أن رجال الدرك الملكي يقومون بين الفينة والأخرى بجولة داخل المخيم، لكن رغم ذلك يبقى الخوف. وتضيف المتحدثة، التي رفعت كميها إلى المرفقين، إذ كانت ما تزال منهمكة في غسل الملابس، "لم أستفد من أي دعم رغم أني أعيل أسرة وحدي، ولدي أطفال صغار". وسبب عدم استفادة هذه الأسرة، أنها كانت تسكن في منزل الورثة، وعندما انهار وتشردت الأسرة، لم تجد ما تدلي به للسلطات من أجل تمكينها من الدعم الشهري على الأقل، خاصة أنها ضحية وتغيرت حياتها رأسا على عقب. وقالت المتضررة ذاتها، في حديثها مع "الصباح"، "اضطررت إلى السفر إلى مراكش من أجل العمل في تنظيف المنازل، وما أربحه أعيش به لأيام هنا أنا وأطفالي وأعيد الكرة مرة أخرى، إذ لا أستطيع العمل بشكل متواصل، كما لا يمكنني الاكتفاء بالاعتناء بأطفالي". عمر طويل كان الرجل المسن يحكي قصته مع الزلزال، ويقول "في ليلة الكارثة، عدت للتو من مراكش، بعدما أجريت عملية جراحية، وألححت على ابني الذي يسكن بالقرب مني من أخذي لمنزلي، لأني مريض ولا أتحمل صراخ الأطفال، غير أنه أصر على أن أمضي معه تلك الليلة، وهو الأمر الذي أنقذ حياتي، ومنحني فرصة جديدة للحياة، إذ أن منزلي المكون من طابقين انهار بالكامل، كما هو الأمر بالنسبة إلى باقي منازل الجيران". وفي الوقت الذي كان يحكي فيه هذا الرجل قصته، مرت بالقرب منه ابنة عمه، ونادى عليها لترافقنا إلى خيمتها، إذ أن هذا الدوار لم يبق فيه أي منزل صالح للسكن، والجميع لجأ إلى الخيام. من الوهلة الأولى يتبين أن حجم المعاناة يتضاعف كلما توغلنا وسط الجبال، إذ أن هذه المرأة بدورها توفي زوجها، ولديها ابنان، يسكنان الخيمة نفسها، إذ قالت في حديثها مع "الصباح" "أسكن في هذا الركن أنا وابني، وفي الركن الآخر تسكن ابنتي وزوجها، التي تزوجت حديثا ولا تجد أين تقيم بدورها". كل الخيام تتشابه تقريبا، إذ لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أو أربعة أمتار، وأحيانا أقل، وفيها كل ما تبقى لدى الأسر من أثاث وأوان وملابس، وأماكن مشتركة وضيقة للنوم. يقول ابن هذه المرأة، التي تكافح رفقة أبنائها في هذه الظروف الصعبة، إن الحرارة تشكل شبحا للسكان هنا، إذ هناك من أصيب بأمراض نتيجة الحر، وهناك مواليد جدد مهددون بأمراض، كما أن هناك مجموعة من الأشخاص المقصيين، علما أن السلطات تعتمد على الأعوان في تحديد لوائح المستفيدين، وكانت هناك تجاوزات. وأوضح هذا الشاب، الذي انقطع عن الدراسة عقب الزلزال، من أجل مساعدة والدته، أن منزلهم انهار كليا، لكن عند خروج الدعم فوجئوا أنهم استفادوا من دعم المنازل المنهارة جزئيا، والذي يقدر بـ 80 ألف درهم. تعايش مع الوضع رغم المعاناة الكثيرة لسكان "أزكور"، إلا أنهم تعايشوا مع هذا الوضع، ويبدو أن الزمن سيطول بهم داخل الخيام، إذ أن بعضهم يشيد غرفا أخرى داخل الخيام، كما هو الأمر بالنسبة إلى رجل كان يبني غرفة بالأخشاب، التي تجمعها زوجته من بين الركام، وتحملها إلى الخيمة. ولم تبدأ السلطات في هذا الدوار في إزالة الركام بعد، الأمر الذي منع السكان من الشروع في البناء، إذ أن الدفعة الأولى التي استفادوا منها لن تكفيهم في إزالة الأنقاض. وسط عشرات الخيام، التي بنيت في واد يضمن بعضا لطافة الجو، تجد نساء منهمكات في غسل الملابس ومباشرة باقي أشغال البيت، كما أن الأطفال يلعبون، ونساء يتبادلن أطراف الحديث، وهناك مواليد جدد رؤوا النور بعد الزلزال في القرية، في استمرار للحياة وسط هذه الجبال الشاهقة، التي لم تقهر السكان رغم قسوة الحياة فيها، ومتشبثون بالعيش في أرضهم وعدم مغادرتها، كيفما كانت الأوضاع. وهناك الكثير من السكان، غير المستفيدين من الدعم في هذا الدوار بدوره، رغم أنهم متضررون ويعيشون داخل الخيام، ومنهم من يعيل أسرا، ويرعى مسنين وذوي الحاجيات الخاصة، ما يسائل معايير الاستفادة من الدعم، والتي تقتصر على ملكية المنزل، في حين أن هناك أشخاصا من غير الملاك، لكن ضررهم ثابت ويعيشون ظروفا صعبة، تستدعي من السلطات إعادة النظر في تلك المعايير، وتسائل أيضا المحسنين والجمعيات، التي انقطعت وانشغلت بأمور أخرى، بعد أشهر من الكارثة. منسيون وسط الجبال رغم أن مركز أمزميز يعج بالقصص والمآسي، قررت "الصباح" التوغل بين الجبال، للوقوف على واقع سكان القرى، الواقعة بين جبال الأطلس الكبير الشاهقة، إذ في صباح يوم مشمس، سلكنا طريقا متعرجا وضيقا، يؤدي إلى قيادة "أزكور"، التي تبعد بحوالي 20 كيلومترا، لكن الوصول إليها صعب جدا، بسبب ضيق المسالك ووعرتها، إذ يشبه المسلك ثعبانا ملتفا حول جذع سميك، وأي خطأ يمكن أن يهوي بالسائق إلى فجاج ومنحدرات بعمق كيلومترات. كما هو الأمر بالنسبة إلى أمزميز، فإن واقع الدمار لا يظهر في الوهلة الأولى بمركز "أزكور"، رغم أن أول ما يستقبل الزائر، مخيم أو دوار تزكي، حيث وضعت لوحة على الطريق للمحسنين، من أجل إدخال المساعدات إليهم. سألنا أحد التجار عن المناطق المتضررة، فقال إن مركز القيادة لم يتضرر بشكل كبير، ودلنا على طريق مؤدية إلى بعض القرى التي هدمت بالكامل وسجل بها عدد من الضحايا، وكانت مشاهد الدمار صادمة وغير متوقعة. وسط أكوام التراب والأحجار والأخشاب، يظهر رجل مسن يتكئ على عكازه، ويرتدي "فوقية" بنية تميل إلى الأسود بسبب تراكم الأوساخ عليها، متحسسا طريقه المليئة بالعقبات والمطبات. كان الشيخ المسن متجها نحونا، وبادر بالحديث دون مقدمات، بلغة أمازيغية عتيقة، قبل أن يفطن في لحظة، ويتساءل إذا كان من بيننا من لا يتكلم الأمازيغية، والابتسامة تعلو محياه.

ضحايا الزلزال… حياة تحت رحمة الخيام

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المغاربة والخمر.. تاريخ من الدوخة

كحول العقاقير... القاتل الصامت

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات