وداعا شيخ الأنقياء

محمد بنسعيد أيت يدر يودع بعد مسيرة عطاء ونضال وأمل وعفة امتدت لأكثر من ثمانية عقود في الساعة الأولى من صباح أمس (الثلاثاء)، أسلم محمد بنسعيد أيت يدر، أول أمين عام لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الروح إلى باريها، بعد رحلة قصيرة مع المرض، واجهها "خالد" بعناد المجاهدين. مات الرفيق والمؤسس والمجاهد والزاهد والأب الرمزي والروحي لليسار المغربي بعيدا عن مسقط الرأس (بقرية بني منصور، إقليم شتوكة أيت باها)، ومسقط القلب (البيضاء). كتب السطر الأخير فوق سرير بالمستشفى العسكري بالرباط، قريبا من "رفاق" السلاح، وهو الذي حمله شابا يافعا، وقائدا عسكريا لجيش المحاربين والمحررين الأوائل في فيافي الصحراء والمدن والمداشر ضد الوجود الفرنسي والإسباني. ودع محمد بنسعيد في سن 99 سنة، بعد أن تأكد أنه أدى الرسالة كما يفعل كبار المبعوثين من أجل الإنسانية. نطق الشهادتين، ونظر مليا في سقف الغرفة الأبيض، ثم أفرج عن ابتسامة رقيقة لا يعرفها كنهها، سوى الموغلين في القرب من "قديس" أحب الحياة، كما اشتهى الشهادة. لم يبخل هذا الأمازيغي الشامخ بقوميته وعروبيته بساعة واحدة من حياته من أجل وطن حمله معه شرايينه، مثل كريات، وطواه في حقيبته، وجال به فيافي الاغتراب والغربة، حين كان منفيا ومطاردا، وممنوعا من جواز سفر وتذكرة. انخرط بنسعيد، تقريبا، في جميع المعارك، وخاض، على مدار ثمانية عقود، جميع الحروب من أجل الاستقلال والحرية ومواجهة الاستبداد والتغول والتطرف السياسي والديني بأنواعه وتوسيع الهامش الديمقراطي، ودافع باستماتة عن حقوق الناس في الكرامة والعيش الكريم والعدالة والاجتماعية، ورافع من أجل القضايا الإنسانية الكبرى، من فلسطين إلى حدود فيتنام ومن أفغانستان والشيشان، إلى كوسوفو ولبنان الجريح وعراق الرافدين. في كل تلك المراحل، التي انطلقت من قرية صغيرة بسوس العالمة، ثم مدرسة للمختار السوسي بمراكش، والكلية والاعتقال، وجيش التحرير وحزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية واليسار ومختلف واجهات النضال الأخرى، عاش بنسعيد من أجل الآخرين (تزوج في سن 56)، زاهدا في متاع الدنيا وملذاتها، مكتفيا بالنزر القليل، بعفة الشرفاء الذين كانوا يقرنون القول بالفعل، والمبدأ بالتطبيق اليومي. فلم يسجل عليه، يوما، أنه خان عهدا، أو أدار ظهره إلى قضية، أو تراجع إلى الخلف، أو بلع لسانه من أجل نصرة حق، حتى في أشد سنوات القمع حلكة، منذ الكلاوي إلى أوفقير والدليمي وإدريس البصري، ولم يكن أحدا غيره يستطيع أن يقف وسط قبة البرلمان، ويقول لوزير الداخلية "هناك معتقلون ومختطفون في سجن تازممارت يجب أن تفرج عنهم". كتب بنسعيد سيرته وشهادته بقلمه في عدد من الكتب، وفي حوارات طويلة لجرائد وقنوات عربية ودولية. وكان يعرف أن حفظ الذاكرة وصونها من الانحراف هي مهمة المناضلين أيضا. كان بنسعيد يعرف أن الموت لن يؤجل عمر أحد، لكن كان على يقين أن التاريخ يكتبه الأنقياء، وهو شيخهم.. فوداعا أيها الرفيق... وسلام عليك حيا بيننا إلى آخر العمر. يوسف الساكت

وداعا شيخ الأنقياء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إقبار قانون "شراء الحبس"

رؤساء يغرقون أنديتهم بغطاء رفع المنع

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات