مشاهد من عاصمة الكامرون التي تعكس المزاج الاستوائي المتعدد حلت "الصباح"، أخيرا، بياوندي، على هامش مهرجان "شاشات سوداء" الذي تحتضنه العاصمة الكامرونية وتتواصل فعالياته إلى غاية 21 أكتوبر الجاري. في هذا الربورتاج ننقل إليكم مشاهد من فضاءات مختلفة من المدينة، وجانبا من معالمها وتاريخها المبني على التعدد ورواسب الإرث الاستعماري. إنجاز: عزيز المجدوب (موفد "الصباح" إلى ياوندي) تنبسط بنايات ياوندي من شرفة الفندق، تتخللها الخضرة من كل ناحية. في كل مساحة أرضية فارغة مشروع غابة استوائية، بأنواعها النادرة التي لا يستقيم وجودها إلا فوق تربة أراضي العاصمة الكاميرونية. المدينة متأهبة في شهر أكتوبر لاستقبال المطر في كل لحظة، ما إن تنقشع الغيوم وتظهر عبرها الشمس باسطة أشعتها عبر الأفق، حتى تتلبد السماء مجددا وتغزوها الدكنة. "نحن نعيش هنا تقريبا فصلين فقط: الشتاء والربيع" هكذا تحدث السائق الكاميروني الذي يقود السيارة التي تقلنا من الفندق، نحو المطعم الذي سنتناول فيه وجبة الغداء، قبل أن يضيف "نجد أنفسنا متعايشين مع واقع الأمطار التي تهطل بغزارة معظم أيام السنة، دون أن تتوقف الحياة بالضرورة في انتظار الصحو". مدينة الفصلين كانت السيارة تعبر شوارع وأزقة ياوندي المكتظة بالسيارة والدراجات النارية والراجلين، ولا قانون فيها إلا لسرعة بديهة السائقين، كل يتحرك على هواه وكأنهم اعتادوا على هذا الوضع، والبقاء للأكثر مرونة وقدرة على تفادي الاصطدام. زميلي الصحافي الكاميروني "جان بول" قال لي إن حوادث السير مرتفعة هنا بياوندي بشكل مهول، ولا توجد عائلة ولا أسرة لم تفقد عزيزا لهذا السبب، بل هو نفسه فقد زوجته الشابة منذ حوالي سنة، في حادثة سير، تاركة له طفلين لا يتجاوز أكبرهما الرابعة من عمره. تركت الحكاية المفجعة أثرها على محيا المرافقين لنا في الجولة، سرعان ما بددها "جان بول" بابتسامة بريئة حاول أن يداري بها الحزن العميق الذي اعتراه لمجرد استحضار هذه الذكرى، قبل أن يوجه انتباهنا للبنايات التي تظهر لنا من نافذة السيارة على امتداد الطريق. تضم ياوندي تشكيلة مختلفة من البنايات والعمارات والأحياء، تحضر فيها اللمسة الكولونيالية بشكل واضح، خاصة في وسط المدينة، كما تتخللها لمسات أخرى محلية باستعمال الألوان التي تنسجم مع طبيعة المناخ الاستوائي. "تعاقب على احتلال ياوندي التي توجد وسط غرب الكاميرون، على ارتفاع 720 مترا على مستوى سطح البحر، العديد من القوى الامبريالية منها البرتغال والألمان والبريطانيون والفرنسيون، وكل غازٍ ترك بصمته وأثره في البنية العمرانية والثقافية للمدينة" يقول "جان بول". ويضيف "توسعت المدينة عبر تاريخها الطويل، على سبعة تلال، جعلت المباني والأحياء تظل مفصولة بمساحات خضراء مورقة وتعتلي تضاريس تجعل كل منطقة منها تطل على الأخرى. على امتداد السير تتراوح المشاهد بين المباني الأنيقة، وأخرى مهملة، إضافة إلى أسواق شعبية عشوائية على قارعة الطريق، تقدم فيها معروضات مختلفة بعضها منتوجات زراعية محلية، لا يهتم باعتها بالأمطار المتهاطلة عليهم، حتى إنهم لا يحتمون منها لا بمطريات ولا بالاختباء في الأماكن المغطاة. في البدء كانت القشريات بمجرد وصولنا إلى المطعم، كان في استقبالنا عماله الذين يرحبون بالزائرين بوجوه بشوشة وابتسامات تكشف عن ثقافة ترحاب خاصة لدى أهل ياوندي. دون تردد اختار أغلبنا فواكه البحر والقشريات المعروضة في قائمة الطعام، وهنا استغل النادل الفرصة ليؤكد اختيارنا، وهو يقول إن كلمة "كاميرون" أصل اشتقاقها اللغوي برتغالي، وتعني "القشريات" وسبق لهم أن أطلقوا على المنطقة خلال حملات الاستكشاف التي بدؤوها في القرن الخامس عشر ميلادي ب"ريوس دوس كاميروس" نسبة إلى الثروات السمكية الهائلة التي تتمتع بها شواطئ الكاميرون وأوديتها وأنهارها وبحيراتها. ورغم أن ياوندي توجد في أعالي المرتفعات البعيدة عن البحر، إلا أن طبيعة المعروضات السمكية الطرية التي تقدم في مطاعمها يجعل المرء يخال نفسه في مدينة ساحلية، خاصة أن هناك تقاليد راسخة ومرعية في تهييئ أطباق الأسماك وفواكه البحر بنكهة إفريقية خاصة، تجعل مذاقها لا ينسى ويحفز حواسك الذوقية ويطبع ذاكرتها بطابعه المحلي المشبع بالتوابل. «مفوغ بيتسي»... حيوانات ونباتات وأنت في قلب مدينة محاطة بمختلف الغابات التي تتخلل حتى مجالها العمراني والحضري، وتكاد تطبق عليها من كل ناحية، لا بد أن تستحضر الحياة البرية المتنوعة في البلد، وترسخ الصورة النمطية لإفريقيا الاستوائية بحيواناتها الضارية. كانت الوجهة هذه المرة نحو واحدة من أقدم حدائق الحيوانات بياوندي ويتعلق الأمر بحديقة الحيوانات والنباتات "مفوغ بيتسي" وهي واحدة من أعرق الفضاءات والمنتزهات لاكتشاف الكائنات النادرة والغريبة، وكذلك النباتات والأشجار الاستوائية التي تزخر بها الكاميرون. كان في استقبالنا شاب بدين، لكن حركته ونشاطه يغطيان على بدانته، إذ بدا متأهبا لاستقبال الزوار، ومتمكنا من وسائل عمله، ومعلوماته التي كان يستعرضها بثقة وترتيب متناهيين. كشف الشاب أن الفضاء الذي اجتزنا مدخله يعود تأسيسه إلى مطلع الخمسينات من القرن الماضي، خلال الحقبة الاستعمارية، وكان في البداية أشبه بمركز لرعاية الحيوانات البرية المقتنصة من الغابات الكاميرونية، قصد تهييئها للتصدير إلى الحدائق الأوربية خارج المجال الطبيعي الذي نشأت فيه. على يمين المدخل يمتد حائط مطلي بالأبيض، وعليه رسومات للحيوانات الإفريقية التي يوجد بعضها داخل الحديقة. قادنا المرشد إلى الأقفاص التي تضم بعض الكائنات المعروضة، منها سلحفاة تعد من أضخم أنواع السلاحف بالقارة الإفريقية والتي تشتهر بها غابات الكاميرون، وأحد الخنازير البرية المسماة "بوتاموشير". واستمرت الجولة عبر الأقفاص التي تهالك بعضها بفعل الإهمال وتعاقب الأمطار عليها، ما جعل جدرانها تخضرّ بسبب الرطوبة والمياه المتسربة إلى داخلها ويعلو الصدأ قضبانها الحديدية، كما هو الشأن بالنسبة إلى القفص الذي يضم لبؤة إفريقية، كانت مسترخية بكسل، بعد أن تناولت وجبتها اليومية التي لا تقل عن عشرة كيلوغرامات من اللحوم حسب ما أوضح المرشد الشاب. وتوالت الحيوانات الإفريقية المعروضة بالأقفاص بين الضبع وأنواع مختلفة من القردة، في كل قفص على حدة، إضافة إلى التماسيح، والغزلان والظباء، فضلا عن فضاء خاص بالزواحف والثعابين والأفاعي السامة الموضوعة في أقفاص زجاجية. وخلال الجولة لم يغفل المرشد أن يثير انتباهنا إلى الأشجار والنباتات التي تتخلل الحديقة، وتشكل جزءا من المعروضات التي لا تقل أهمية عن الحيوانات والكائنات الحية الأخرى. ويتوسط حديقة "مفوغ بيتسي" كوخ خشبي على الطراز الإفريقي، يضم متحفا من نوع خاص يحتوي على معروضات، عبارة عن بقايا جماجم وهياكل عظمية لحيوانات مختلفة، إضافة إلى أخرى محنطة أو سلخت جلودها، وزينت بها الجدران، مثل الأفاعي الضخمة، أو أسد إفريقي محنط بطريقة بدائية كادت تتلف ما تبقى منه، إضافة إلى نعامة وسلحفاة ضخمة، إضافة إلى زواحف وثعابين وأفاع موضوعة في قنينات زجاجية بها محاليل سائلة للحفاظ عليها. إعادة التوحيد بلمسة فنية غادرنا حديقة "مفوغ بيتسي" بعد أن أرغمتنا الأمطار على ذلك قبل نهاية الجولة، وفي المسافة الفاصلة بين الحديقة، والساحة التي تضم نصب "إعادة التوحيد" توقفت الأمطار، لتترك لنا مجالا لزيارة هذه النصب، وهو عبارة عن تمثال وبرج حلزوني ضخم. وهنا توقفت مرشدة كانت ترافقنا، لتشرح لنا جانبا من قصة هذا النصب والبرج، الذي يعود تشييدهما إلى النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، ويعدان، في عرف الكاميرونيين، رمزا لتنوع البلد وتعدد ثقافاته وأعراقه. وقبل أن يتم تشييد هاتين المعلمتين أطلق أحمدو أهيدجو الرئيس السابق لجمهورية الكاميرون المتحدة، مسابقة وطنية ودولية لتقديم عمل فني وهندسي يعكس هذا البعد التاريخي والحضاري المتعدد للكاميرون، التي عانت كثيرا قبل توحيد أطرافها والتخلص من الإرث الاستعماري الثقيل. ويجسد التمثال الذي أنجزه النحات الكاميروني مباندو جيديون، خمسة أطفال يريدون التوجه نحو شعلة اللهب التي يمسكها رجل عجوز. وهذه المجموعة من الرموز لها معنى عميق. إذ ترمز إلى الوحدة حول الأسرة: فالرجل العجوز يمثل جيل الكاميرونيين الذين ناضلوا من أجل إعادة التوحيد، ويؤكد الأطفال، من جانبهم، على تكافؤ الفرص المتاحة للفتيات والفتيان في الوقت نفسه الذي يتم فيه إعطاء مكانة الصدارة للفتيات الصغيرات بشكل خاص وللنساء بشكل عام. وشيد هذا العمل الفني بثلاثة وخمسين طناً من الخرسانة على ارتفاع سبعة أمتار تقريبا. أما البرج الحلزوني فهو من توقيع المهندس المعماري أرماند سالومون، فيتكون من ثلاثة مستويات: الطابق السفلي وهو عبارة عن قاعة دائرية كبيرة مصنوعة من اللوحات الجدارية للأب إنغلبرت مفينغ، والبلاط المزخرف بلوحات جدارية خشبية من قبل إيتولو إيا. وفي وسط الغرفة عمود كبير ينبثق من الأرض وينتهي من الخارج بمجسم أشبه بفرشاة. وتوجد في الطابق الأرضي أربعة أعمدة مصنوعة من النقوش تصف تجارب سكان "العصور الثقافية الخمسة" للكاميرون وتوقيع مصممي ومديري النصب التذكاري. وفي الجزء العلوي من البرج، توجد نقطة التقاء المدخلين الشرقي والغربي، مما يرمز إلى الوحدة الكاملة بين الجزأين الكبيرين الناطقين باللغة الإنجليزية والناطقين بالفرنسية في الكاميرون.