مهمتهم استرجاع بقاياه من متلاشيات الورشات والمصانع وبإمكانيات بسيطة نافسوا الأتراك قبل 20 سنة، قرر عدد من حرفيي الذهب الاستثمار بإمكانياتهم المتواضعة في مهنة جديدة، تعرف باسم "الرافيناج"، أو "الكناسة". مهمتهم جمع كل مخلفات ومتلاشيات ورشات ومصانع الذهب، لاستعادة بقايا وفتات الذهب التي ضاعت خلال عملية صنع الحلي والمجوهرات. ظلت المهنة غير معروفة لدى العموم خلال هذه الفترة الطويلة، إلى أن ذكر اسمها، أخيرا، في دورية للجمارك، ما اعتبر نصرا لأصحابها الذين يأملون من الدولة التدخل لتنظيمها ووضع قانون خاص بها. إنجاز : مصطفى لطفي - (تصوير أحمد جرفي) "الكناسة" أو "الرافيناج"، جزء أساسي في مهن الذهب وآخر حلقة فيها، إذ بعد اقتناء الذهب الخام وتحويله في ورشات ومصانع إلى حلي ومجوهرات وعرضها للبيع في الأسواق، يأتي دورها لجمع ما يسمى بـ"الطيوح"، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الذهب وغباره، تسقط على الأرض أو تعلق في نفايات ومخلفات، فيتم كنسها وإخضاعها لعملية تدوير خاصة لاستعادتها، بعد فرزها باستعمال مواد كيماوية فلاحية. مجهودات خاصة للحرفيين كان لـ"الصباح" لقاء مع "التهامي"، في الخمسينات من العمر، ويعد أحد الوجوه الشهيرة في حرفة "الرافيناج" وأكثر تعصبا للدفاع عنها، لدرجة أنه مستعد للتضحية بكل شيء من أجل أن يرى مهنته تحظى بتقدير واحترام الجميع. بثقة كبيرة في النفس أكد أن ما يميز المهنة، أنها ليست في متناول الجميع، إذ تعد تخصصا قائم الذات، لدرجة أن بعض المهنيين حاولوا تجريب حظهم في هذا التخصص، إلا إنهم فشلوا. شرع "التهامي" في عرض بعض الأدوات البسيطة التي تستعمل في عملية التدوير، قبل أن يواصل حديثه بنوع من الفخر، " المهنة شهدت تطورا كبيرا في صمت، ودون تدخل من الوزارة الوصية، إذ راهن محترفوها على مجهوداتهم الشخصية، بداية باقتناء محلات ضواحي البيضاء ومعدات خاصة بسيطة، بل وصل الأمر، إلى حد الاستعانة بأساتذة جامعيين في الكيمياء للإشراف على دورات تكوينية في طريقة استعمال مواد كيماوية لاستخراج الذهب، رغم أنها ليست خطيرة، بحكم أنها معدة للفلاحة". نفايات تبيض ذهبا في السابق، كانت متلاشيات المصانع وورشات الذهب، تفوت بشكل مجاني إلى أشخاص مع قبلة على رأسهم من قبل مسيريها، لأن همهم الأكبر كيفية التخلص منها بعد الانتهاء من كل عملية صنع الحلي، وتنظيف المكان استعدادا لعملية إنتاج أخرى. لم يتوقع المشرفون على المصانع والورشات أن نفاياتهم "تبيض ذهبا"، إلى أن تنبهوا للأمر صدفة، عندما حامت شكوكهم حول سر لهفة أجانب عليها، سيما الأتراك، الذين كانوا لا يترددون في عرض مبالغ مالية مقابل الحصول عليها، وعند البحث في سر هذا اللغز، تبين أنهم يستخرجون منها بقايا ذهبهم، لتتغير المعادلة منذ ذلك الوقت. كانت المتلاشيات أو ما يعرف لدى المهنيين بـ"التراب"، تجمع بكميات كبيرة وتصدر إلى تركيا على الخصوص وبثمن بخس. كانت السلطات، خصوصا الجمارك، تتعامل مع هذا النوع من التجارة بنوع من الاستخفاف، واستغراب كبير بسبب تكديس النفايات في الحاويات والحرص الشديد على تصديرها، دون أن يعلموا أن الأتراك يستخرجون منها كميات كبيرة من الذهب، تصل إلى خمسة كيلوغرامات في الطن الواحد، يؤكد مصدر مهني. إلا أنه عندما وصل الخبر إلى الصناع بالمغاربة، تطوع البعض للإشراف على هذه المهمة، تحت شعار "خيرنا ما يديه غيرنا"، وفعلا كانوا في مستوى الحدث، سيما بعد أن كسبوا ثقة العديد من مهنيي القطاع، وبعد أن كان الأتراك يستفيدون من الذهب المغربي مجانا، صارت كمياته تتناقص في شحنة بعد أخرى، إلى أن قرروا وقف استيراد المتلاشيات بعد تكبدهم خسائر مالية. الضرب تحت الحزام تراجع تصدير المتلاشيات إلى تركيا بسبب "الكناسة"، وهو ما أربك المهربين، فخاضوا حربا شرسة ضدهم باستعمال سلاح الإشاعة. كان أبرزها أن "الكناسة" يستعملون مواد كيماوية خطيرة، قد تؤدي إلى حدوث انفجارات كبيرة أو اختناق للسكان المجاورين لمحلاتهم. تفاعلت السلطات المختصة بجدية كبيرة مع هذه الإشاعة، وبعثت على الفور لجنة تفتيش إلى ورشات "الكناسة"، فتبين بعد تفتيش دقيق ومعاينة صارمة، زيف تلك الادعاءات، وأعدت تقارير جاء فيها أن المواد المستعملة فلاحية، ومرخصة ولا تشكل خطرا على البشر والحيوان والحجر. فشلت تلك الخطة في شل عمل "الكناسة"، لتوجه لهم تهمة جديدة، وهي التواطؤ مع شبكات، قيل إنها تهرب التبر من مناجم مغربية صوب محلاتهم، لتعود السلطات من جديد، مرفوقة هذه المرة بالمصالح الأمنية، وتبين مرة أخرى عدم صحة الخبر، ليواصلوا عملهم في صمت من جديد. لم يتوقف التحرش بهذه الفئة عند إخوانها المغاربة، بل جاء هذه المرة من قبل الأتراك أنفسهم، الذين قرروا الانتقال إلى المغرب وتأسيس شركات متخصصة في "الرافيناج"، وبآلات متطورة جدا، إلا أنه رغم هذه المنافسة تمكن "الكناسة" من ضمان حصة من سوق "الرافيناج"، بمساعدة ودعم كبير من المهنيين في القطاع، سيما أنهم نجحوا في مهامهم باستعادة الذهب من المتلاشيات، وبأسعار أو نسب مقبولة مقارنة مع الأجانب، فصار صناع الذهب المغاربة قادرين على المنافسة، لاستعادتهم كميات من الذهب الضائعة، وإعادة استغلالها من جديد في الدورة الإنتاجية. تضامن الجمارك كان لتضامن مهنيي الذهب مع "الكناسة"، الأثر الإيجابي الكبير، الذي دفع جهات في الدولة إلى تقديم دعم معنوي لهذه المهنة الجديدة/ القديمة، ويتعلق الأمر بإدارة الجمارك، التي وصف قرار لها بالشجاع، والذي تقر فيه بتقنين المهنة، من خلال دورية لها تعترف بها مهنة مستقلة، وذكر فيها ممتهنوها إلى جانب باقي الفاعلين في قطاع الذهب، لتوجه مناشدة إلى باقي السلطات، سيما وزارة الداخلية لتقديم يد المساعدة للانتقال بهذا القطاع غير المهيكل إلى قطاع منظم، يلتزم بأداء الضرائب وتسجيل العاملين فيه في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويخضع لقانون الشغل والاستفادة من التأمين عن المخاطر. عناء من أجل حفنة من الذهب عمل "الكناسة" لا يتحمله أي كان، فهو متعب لدرجة كبيرة ويتطلب صبرا وجلدا خارقين، من أجل حفنة من الذهب، في مناسبات لا تستحق كل هذا العناء، لكن كما قال التهامي" هذا قدرنا، ويجب التضحية إلى حين رد الاعتبار لهذه المهنة". أول الصعوبات التي يصادفها "الكناسة" أن مهنتهم شبه موسمية، بمعنى أن على مزاولها ترقب ما بين ثلاثة أشهر وستة أشهر للحصول على فرصة عمل، عندما يناديه صاحب ورشة أو مصنع لجمع المتلاشيات. متابعة "الكناسة" خلال عملية جمع النفايات، والتي تختلف مدتها ما بين أسبوع وشهر أو أكثر، حسب مساحة الورشة أو المصنع، تؤكد أن العملية شاقة وتحتاج لصبر غير عاد، إذ تبدأ بكنس الورشة كاملة وبدقة وحرص شديد، مع الاحتفاظ بأي نفاية ولو كانت "كلينيكس" تخلص منه صاحبه المصاب بالزكام. بعدها تتم عملية غسل جميع الأواني والقنينات البلاستيكية والمعدنية الموجودة بالمحل داخل إناء كبير مملوء بالماء، لإزالة كل ما علق بها من غبار، بحكم أنه خلال عملية التصنيع بآلات خاصة، يتحول جزء من الذهب إلى مسحوق دقيق بسبب الاحتكاك، لا يرى بالعين المجردة، ويتناثر في كل الاتجاهات. بعد عملية الكنس، يتم الانتقال إلى مرحلة ثانية، وهي تنظيف الورشة أو المصنع بالكامل باستعمال قطعة قماش (جفاف)، إذ تشمل العملية أرضيتهما وجدرانهما. وبعد ذلك تنقل جميع المخلفات والمتلاشيات، وحتى الماء الذي نظفت به الأواني والقنينات إلى الورشة بضواحي البيضاء من أجل العملية الثانية والأهم. بعدها تبدأ المرحلة الحاسمة والهامة في المهنة، والتي تتطلب مهارة عالية ودقة لاستخراج كميات أكبر من الذهب. تتم المهمة بمكان خاص، الانتقال إليه يكشف المعاناة اليومية لمزاولي المهنة للوصول إلى مقر عملهم، إذ عليهم سلك طريق معبد ضواحي البيضاء، وبعدها مواصلة الطريق عبر طريق عشوائية غير معبدة كثيرة الحفر، وبعد الالتفاف يمينا ويسارا، يتوقفون أمام بناية عشوائية كبيرة. داخل البناية تتغير الفكرة، إذ في جولة فيها مع "لامين الكناسة"، "سي الجيلالي"، تجاوز الستين من العمر، نكتشف أن هناك أزيد من 10 ورشات، كأنها صممت لتكون قلعة منيعة للحماية. بدت بعض الورشات خلال معاينتها متواضعة جدا، تتزين بأوان حديدية مكسوة بالسواد لاستعمالها الدائم في حرق المتلاشيات، بجانبها براميل ماء، وتجهيزات أخرى بسيطة جدا، منها "مهراز" و"غربال"، وغيرها من الآواني المنزلية. في ركن خاص داخل الورشة وضعت مادة فلاحية، تستعمل لتكوين تفاعل كيماوي لفرز الذهب عن باقي المخلفات. رغم التضحيات وأهمية الحرفة في قطاع الذهب، بحكم أنها توفر احتياطا مهما من الذهب الخام، يؤكد "سي الجيلالي"، أن مزاولتها تحتكم لمنطق غريب، وهو ترقب الحرفي ثلاثة أشهر أو ستة للحصول على فرصة عمل، وخلال تلك فترة التوقف الطويلة عن العمل، عليه تدبر أمره ونفقات عائلته. ساعات في الجحيم من حسن حظ "الصباح" أن العمراوي، في الخمسينات من العمر، الذي يعد من أمهر الحرفيين، حصل على متلاشيات من ورشة للذهب، وكانت فرصة لمتابعة عملية فرز الذهب بشكل مباشر والوقوف على جميع مراحل العملية. وضعت النفايات جميعها في قدر حديدي كبير، وسارع بإضرام النار فيها وأسفل القدر. وبجانبه، كان هناك سطل مملوء ماء، قال العمراوي إنه نظف فيه كل ما لا يمكن حرقه، سيما القنينات البلاستيكية والمعدنية وقطع حديدية، وأنه بعد الانتهاء من حرق النفايات التي تتطلب دقة ومراقبة مشددة، سيضع مادة كيماوية في الماء ستعمل على فرز الذهب. عملية حرق النفايات تستغرق أزيد من أربع ساعات، تجعل العمراوي مجبرا على مراقبتها والتدخل لضمان أن تتم وفق الخطة المرسومة لها ولا تستثني شيئا، إذ في كل فترة يتدخل بحديدة لتحريك النفايات لضمان احتراقها. بعد انتهاء الحرق، ينتظر العمراوي إلى حين برود مخلفات العملية، وقد يطول الانتظار ساعتين، بعدها يضع المكونات في "مهراز" كبير ويشرع في دقه بكل قوة إلى حين أن يتحول المزيج إلى مسحوق دقيق، وبعدها يوضع في غربال لحصر القطع الكبيرة، حتى يعاد طحنها جيدا. وبعد الانتهاء من تلك العملية، يتم وضع المسحوق في إناء كبير مملوء بالماء، وبعدها تضاف المواد الكيماوية الفلاحية، حيث يساهم التفاعل الكيماوي في فرز الذهب عن باقي المخلفات الأخرى، يتم سحبها من الإناء صافية لامعة تسر الناظرين.