الخيمة والقصعة والناقة ثوابت مواسم ركراكة بإقليم الصويرة تتواصل بإقليم الصويرة فعاليات المواسم الربيعية لركراكة الشهيرة بـ "الدور"، ويتعلق الأمر بواحد من أقدم المواسم الدينية في المغرب التي ما زالت محافظة على طقوسها الضاربة في عمق التاريخ، وتحكي قصص وبطولات طائفة اشتهرت عبر التاريخ بأنها من أول الطوائف التي ساهمت في انتشار الإسلام في أوساط القبائل الأمازيغية. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" في جولة عبر محطة الموسم لحظة وصوله إلى منطقة سيدي بولعلام ضمن محطات أخرى تستغرق أزيد من أربعين يوما. إعداد: عزيز المجدوب ـ تصوير: (أحمد جرفي) (موفدا "الصباح" إلى الشياظمة) جرت العادة عند طائفة "ركراكة" أن تنطلق مواسمهم السنوية المعروفة ب"الدور" وفق تقويم دقيق، محدد منذ قرون خلت، خلال الأسبوع الأول من شهر مارس الفلاحي، الذي يتزامن مع الأسبوع الأخير من مارس حسب التقويم الميلادي، أي في مرحلة الاعتدال الربيعي، لتستمر فعالياته إلى حدود نهاية أبريل. لكن في هذه السنة، وكما هو الشأن بالنسبة إلى السنة الماضية، اضطر المشرفون على "الدور" إلى تنظيمه خارج وقته المعهود، بسبب تزامن فترة الاعتدال الربيعي مع شهر رمضان، خلال موسمين متتاليين، وقبلهما توقف "الدور" سنتين بسبب جائحة كورونا وتبعاتها، لتنطلق الفعاليات يوم 5 ماي الماضي، أي على بعد حوالي شهر ونصف على موعده المعتاد. هذا الاضطراب في التقويم الفلاحي لمواسم "ركراكة" كاد أن يؤثر سلبا على كم الزوار الذين اعتادوا "الحج" كل سنة إلى "الدور"، بأعداد متفاوتة تختلف من محطة إلى أخرى، وسط المزارات والأضرحة والزوايا التي يطوف بها ركب "الدور" بإقليم الصويرة وقبائل الشياظمة، لولا أن وفاء المريدين كان أقوى. فضائح طرقية تزامنت زيارة "الصباح" إلى إقليم الصويرة، مع محطة زاوية سيدي بولعلام، حيث تحرك موكب "الدور" إليها الأسبوع الماضي. اسم "سيدي بولعلام" ارتبط بالفاجعة التي هزت أركان المنطقة في نونبر 2017، وجعلت ذكرها يقفز إلى واجهة الأحداث الوطنية والعالمية، بعد أن لقيت 15 امرأة مصرعهن في تدافع من أجل الحصول على إعانات غذائية، كانت توزع سنويا ضمن نشاط خيري مثير للجدل. ظلت تفاصيل الفاجعة مرخية بظلالها على منطقة سيدي بولعلام القروية، وكانت بمثابة ندب وجرح عميق في نفسية أبنائها الذين ظلوا يستحضرون تفاصيل الواقعة والنشاط الخيري المرتبط بها، باعتباره عنوانا لتوطين فعل "التسول" في منطقة ظل سكانها يقاومون واقع البؤس بأنفة وكبرياء. مضت الفاجعة بتنقيلاتها وتوقيفاتها التأديبية في حق بعض المسؤولين عنها، وبالحلول التنموية الترقيعية التي تم اعتمادها بسرعة، منها شق مسالك قروية، سرعان ما انفضحت بنيتها المغشوشة، كما هو الشأن بالنسبة للمسلك الذي يخترق دواوير "المزيوقات" و"آيت إبراهيم" و"الفكيرات" الذي عاد إلى طبيعته البدائية بعد أن انحسرت عنه طبقات "البياضة" الذي غطيت به على عجل "إكراما" لأرواح النساء اللواتي قضين من أجل قفة المساعدة، وبرزت منه الأحجار ناتئة تجعل من السير فوق تلك الطرق حصة تعذيب حقيقية. أما بقية الطرق التي تؤدي من مركز سيدي بولعلام إلى الضريح والزاوية اللتين تحملان اسمه وينظم بهما موسم "الدور"، فلم تكن تقل رداءة عن بقية المسالك التي تخترق هذه الجماعة القروية، بشكل يجعل التنقل فيها عملية شاقة، رغم أن هذه الطريق تتحول سنويا إلى محج لآلاف الزوار الذين يستقبلون موسم ركراكة لحظة مروره هناك. يتوسط ضريح سيدي بولعلام سفح تؤدي إليه معابر من اتجاهات مختلفة، ومحاط بهضاب مرتفعة تطل عليه، وعلى المنازل الحجرية القريبة والمبنية على المنحدرات المحيطة به، والتي ظلت محافظة على شكلها التقليدي الموروث منذ قرون خلت. هذه القرية الهادئة المستكينة لقدرها الذي يضعها خارج التاريخ والتنمية، تحولت لحظة وصول موكب ركراكة إلى فضاء ضاج بالحركة والأصوات، منذ ساعات الصباح الأولى، حيث أخذ الباعة والتجار أماكنهم بالطريقة المتربة والصخرية المفضية إلى الضريح، واضعين سلعهم وبضائعهم. يتحول الفضاء إلى سوق مفتوح في العراء تتخلله الطاولات و"الفرّاشات" التي تعرض سلعا متنوعة بدءا بالفواكه الجافة وملحقاتها والحلي والمجوهرات الفضية والرخيصة، مع حضور بارز لباعة من إفريقيا جنوب الصحراء الذين صاروا يؤثثون جنبات الموسم ويتنقلون معه أينما حل وارتحل، ليندمجوا بسهولة مع سكان قبائل الشياظمة وزوار "الدور". كما يعرض التجار الملابس النسائية الرخيصة فضلا عن الحلوى الشهيرة الخاصة بـ "الدور" والتي لا تكتمل الزيارة إلا باقتنائها، إضافة إلى لعب الأطفال والأرجوحات التقليدية التي صارت متجاورة مع نظيرتها المطاطية التي بدأت تجتاح الدور. بمجرد ما انتصف النهار اكتظ السفح المحيط بضريح وزاوية سيدي بولعلام بالخلق، وتناهت إلى الأسماع أصوات مختلفة للباعة عبر الأبواق، أو لموسيقى شعبية تنبعث من هنا وهناك، في الوقت الذي كان يحرص فيه بعض الزوار على التسلل إلى داخل الضريح الذي كان يشمله هدوء خاص يفصله عن ما يعتمل خارجه من ضجيج وجلبة. حامل الأعلام في الحرب والسلم ومثل أغلب الأضرحة المؤثثة لمنطقة الشياظمة، يحاط ضريح سيدي بولعلام بغرف تأوي طلبة القرآن الذين يتابعون دراستهم بالزاوية الملحقة به، والتي أضيف إليها مسجد بني حديثا بصومعة تشرئب نحو السماء معلنة عن مكان الضريح الذي ظل وفيا لأبنيته الواطئة. يحكي عبد القادر بنحديد، مقدم زاوية سيدي بولعلام، عن جوانب من تاريخ الرجل الذي يرقد جثمانه بالضريح، قائلا إن الأمر يتعلق بواحد من أقطاب طائفة ركراكة، وإن لم يكن واحدا من رجالها السبعة المشهورين، إلا أنه اكتسب اسمه من وظيفته في الحروب التي كانوا يخوضونها من أجل نشر الإسلام في أوساط القبائل الأمازيغية، إذ كان مكلفا برفع الأعلام التي تتقدم مواكبهم في الحرب والسلم خلال القرن الأول للهجرة. ويتابع بنحديد، في حديث مع "الصباح"، أنه تابع دراسته سبع سنوات بالزاوية، خلال منتصف السبعينات، واستفاد كثيرا من الشيوخ الذين تعاقبوا على التدريس فيها، كما تشبع بأجوائها الروحانية والصوفية التي تجعلها واحدة من أشهر الزوايا بالإقليم. الخيمة والقصاع تتوسط الخيمة الركراكية الساحة الخلفية المجاورة لضريح سيدي بولعلام بلونها البني الترابي، والمصنوعة من وبر الجمال، وتحمل على ظهر ناقة تجتاز مختلف محطات الدور في ترحاله عبر إقليم الصويرة. أغلب الزوار الذين يقصدون "الدور" يعتبرون طقس "الفاتحة" والدعاء مركزيا، فالاعتقاد راسخ لديهم بأن الأشخاص المرافقين للموكب الركراكي دعاؤهم مستجاب، فينفحونهم بما تيسر من المال الذي يوضع في صندوق حديدي في قلب الخيمة، ويتم توزيع ما جمعه في آخر النهار بين الحاضرين المنتسبين لزوايا ركراكة. في الوقت الذي اختار بعض الزوار نصب خيام صغيرة تحيط بالموسم وتطل عليه من أعلى، يقضون فيها سحابة يومهم وهم يرقبون المشهد عن بعد، في انتظار أن ينتهي إعداد وجبات الطاجين أو كؤوس الشاي المنعنع، ولا يترددون في دعوة أي غريب أو عابر لمقاسمتهم ما يتناولونه. بمجرد ما تتوسط الشمس كبد السماء تبدأ أفواج "قصاع" الكسكس في التقاطر على الخيمة الركراكية، محمولة على الرؤوس، أو بين الأشخاص، في تسابق محموم لاستعراض قيم الكرم والبذل والعطاء، في أرض كاد أن يغرس فيها البعض ثقافة "التسول" وكأنها منطقة مجاعة. و"القصعة" الركراكية عبارة عن طبق من خشب الجوز يصل قطره إلى مترين، وبإمكانها أن تتحمل كمية كبيرة من السميد، وهو ثقيل لدرجة أنه يحمل بين أشخاص يمسكون بالحبال المزروعة في جنباته. ويتحدث الباحث الأنثربولوجي عبد القادر مانا عن هذا الطقس قائلا، إن العادة جرت في تهييء القصعة الركراكية أن تؤخذ من الإنتاج الزراعي للفلاح: الكسكس يأتي من حصاده، والبيض من دجاجه، وقوالب الزبدة من أبقاره الحلوب، ولحوم دواجنه وأغنامه، والخضر من حديقته النباتية، وهو نوع من "العشور" الذي يفرض على إنتاجه الزراعي، ولكن بدل أن تكون ضريبة إجبارية، فهي عبارة عن عرض تطوعي مقابل التأثير المضاعف للبركة. ويضيف مانا أن ركراكة يعتبرون بمثابة "أسياد" والشياظمة هم خدامهم، يجلبون لهم القرابين والأطباق المزهرة، لكن في المقابل فإن "الأسياد" هم "متسولو" الزيارة ولا يمكنهم مواصلة الرحلة دون المساعدة اليومية لـ "المونة". تجارة وبركة لا يقتصر "الدور" على طقس "الفتوحات" أو"مركزية الخيمة" أو الجانب التجاري الذي ينتعش على ضفافه فحسب، بل تتخلله العديد من الطقوس الأخرى الموازية، لها صلة بممارسات تنتمي إلى مجال التصوف الذي نشأ في حضنه هذا الموسم منذ أزيد من عشرة قرون. إذ لا يخلو "الدور" من حلقات للمديح والذكر تحتضنها الزوايا التي يمر عبرها، إضافة إلى طقوس أخرى تهم الاحتفاء بحفظة القرآن. وليس غريبا هذا عن الموسم، الذي ظل يؤرخ لبدايات ممارسات التصوف بالمغرب، إذ يرتبط بطائفة ظل المؤرخون يجمعون على أنه كان لها دور فعال في انتشار الإسلام في المغرب. بل ذهب بعض هؤلاء المؤرخين إلى اعتبار "الركراكيين" يتحدرون من طائفة كان منها "سبعة رجال" شدوا الرحال إلى الشرق لمقابلة النبي محمد وأسلموا على يديه، وعادوا إلى بلادهم ناشرين الدين الجديد قبيل الفتح العربي لبلاد المغرب الأقصى، وظلت أضرحتهم المنتشرة في ربوع إقليم الصويرة مثار تقديس في أوساط سكان المنطقة وهم: 1 ـ واسمن، و2 ـ أبو بكر أشماس، و3 ـ ابنه صالح، 4 ـ عيسى (الملقب ببوخابية)، 5 ـ عبد الله أدناس، 6 ـ سعيد السابق، 7 ـ يعلى بن واطل. لكن هذه الرواية كانت مثار جدل كبير بين المؤرخين بين من أكدها أو كذبها أو اتخذ موقفا وسطا، إلا أنه بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها، فإنها جعلت "شرفاء ركراكة" يتشكل لديهم اعتقاد راسخ بأسبقيتهم في تلقي الدين الجديد، وهذا المعطى ظل إحدى أهم الركائز التي استند عليها الركراكيون في توطيد مكانتهم السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، وهو ما أرخى بظلاله على علاقة زواياهم بالدول التي تعاقبت على حكم المغرب.