عاصمة "المال والأعمال والاستثمار" تغرق في الاكتظاظ والبشاعة وسوء التنظيم عادت البيضاء إلى فوضاها "اللذيذة"، مباشرة بعد مغادرة الموكب الملكي حدودها الشمالية في اتجاه الرباط. استعادت المدينة أزبالها وأوساخها وطرقها المحفرة وممراتها الشاحبة، وشوارعها البشعة، وجحيم حركة السير والمرور بها. هي أيام بيض معدودات على أطراف الأصابع، انسحب، بعدها، عمال الصيانة والصباغة والترميم والتلحيم من المشهد "البيضاوي" العام، وجمع أعوان البستنة أشجار النخيل وأصص النباتات ومزهريات "النوار" الضخمة، ووضعوها في شاحنات البلدية، وعادوا بها إلى المخازن، في انتظار أوامر جديدة بتحريك هذه الترسانة "الافتراضية". أيام فقط، ثم غادر المياومون وعمال الإنعاش الوطني إلى منازلهم، بعد أن نجحوا في أداء أدوار "التضليل" على أحسن ما يرام، وتقاضى الأعوان ومستخدمو الكنس اليدوي والميكانيكي رواتبهم، وألقت السلطات المحلية كلمة الختام، وطلبت من الجميع العودة إلى مواقعهم، في أفق الاستعداد إلى مناسبة أخرى. انتهت زيارة الملك، وما عاد المواطنون يلقون تحية الصباح على عمال شركة "ليدك"، وهم "يتشعبطون" في أعمدة الكهرباء لإصلاح مصباح معطل، وما عاد المتوجهون إلى الحي الحسني والرحمة يحلمون بمدينة الأضواء والطرق التي تشبه مداخل باريس، وما أضحى وجه شاطئ عين الذئاب يتطلع إلى حصة "دوش" يومي في الصباح الباكر، وأخرى بعد غروب الشمس. فجأة انتهى كل شيء، واستفاق الناس من الحلم، وفركوا جيدا أعينهم على واقع بشع لا يرتفع، مهما حاولت السلطات العمومية تجميله بالأشجار جاهزة الغرس والقلع. هنا البيضاء، التي تشبه حوتا ضخما في أعماق البحار، كلما التهم أطنانا من الأسماك، كلما فتح فمه لطلب المزيد، في دورة سيزيفية لا تنتهي حتى تبدأ من جديد. لم تستفد كل المدن المغربية مجتمعة من حجم الاستثمارات في البنيات التحتية ومشاريع الطرق والأنفاق والطرق المدارية ومنظومة للنقل والتنقلات، كما استفادت البيضاء، آخرها مبادرة الدولة التي عبأت 33.6 مليار درهم لتنفيذ 14 اتفاقية إطار في خمس سنوات. لكن في الوقت الذي تتقدم فيه مدن أخرى بميزانيات شبه عادية وتنحو أكثر إلى التنظيم الجيد والحكامة الفضلى وتربط إنجاز المشاريع بالأثر المباشر على المواطنين، تتأخر البيضاء، أو على الأقل تظل في مكانها، في عملية مستحيلة على الفهم، حتى بالنسبة إلى مدبريها أنفسهم. فلا يمكن مقارنة المدينة بجارتها الرباط، التي يتكلف بها رجال سلطة لا ينامون ولا يذهبون إلى العطل والاستراحات، في غياب مجلس الجماعة (تقريبا) الغارق في صراعاته التافهة، كما لا يمكن مقارنتها أيضا بطنجة ومراكش وأكادير التي وضعت اللبنات الأساسية لنهضة واعدة تليق بعاصمة وسط المملكة. لقد كُتب على عاصمة المال والاقتصاد والاستثمار أن تفرح في المناسبات الكبرى، وتحزن في باقي أيام الله الأخرى، مثل كتاب حياة الفنان المصري حسن الأسمر الذي يحتوي على سطرين من الفرح، والباقي كله عذاب في عذاب. يوسف الساكت