يفترشون الأرض ويرفضون إيواءهم بمراكز الحماية الاجتماعية يختفون وراء البنايات المهجورة بالبيضاء أو يحتمون من برودة الطقس بين العمارات... تجدهم في جل أحياء المدينة يطوفون بملابسهم الرثة ويستعينون بأغطية بالية تقيهم صقيع فصل الشتاء. هم مشردون، أغلبهم أطفال، يفترشون الأرض وتحفهم سماء العاصمة الاقتصادية، بعضهم يدعي عدم اهتمام المجتمع بهم، وآخرون يرفضون ولوج مراكز الحماية الاجتماعية بمبررات غير مقنعة. إنجاز: خالد العطاوي ضاعفت موجة البرد القارس التي همت البيضاء، في الآونة الأخيرة، معاناة المشردين، خاصة الأطفال الذين اعتادوا العيش بين جدران المدينة والتجول بين شوارع أحيائها، ولا حيلة لهم لتدفئة أجسادهم الجامدة إلا التسول. ساعات في الجحيم إذا كان بعض سكان المدينة يسارعون مع استمرار الطقس البارد لاقتناء وسائل التدفئة الكهربائية، فإن المشردين يعيشون ساعات في الجحيم، خاصة ليلا بسبب الانخفاض الكبير لدرجة الحرارة بشكل كبير، ولا يجدون وسيلة لدرء برد قارس مؤلم لأجساد أنهكتها عوادي الزمن، في غياب الأغطية والأفرشة اللازمة ومبادرات تخفيف وطأة البرد عنهم في هذه الأيام والشهور االمقبلة بطقس أكثر إيلاما لهم. وفي الوقت الذي ارتفعت أصوات جمعيات مطالبة بإطلاق برامج للتخفيف من آثار البرد بالنسبة إلى هذه الفئة، إلا أن المشردين بدون مأوى، من الجنسين، بدوا الأكثر تضررا من موجة البرد القارس، فيلجؤون إلى أماكن منزوية للنوم، متحملين برودة الطقس وقساوة قلوب مسؤولين غافلين عنهم، باستثناء جمعيات ترأف عليهم بملابس وأغطية تنعش أجسادهم في ليال باردة وموحشة. لا تخفي الحكومة أن وضعية المشردين في البيضاء أشد إيلاما، ففي آخر تصريحات لعواطف حيار، وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، قالت إن الوضعية الاجتماعية بالبيضاء صعبة جدا، لكن هناك مؤهلات في القطب الاجتماعي. وأوضحت، في الملتقى الأول حول المنظومة الاجتماعية، أن البيضاء تعرف وجود أشخاص بدون مأوى "وهذا مؤلم جدا لنا باعتبارنا مغاربة وبيضاويين"، مؤكدة أنه قد حان الوقت لأجل الاشتغال جميعا لمحاربة الظاهرة. وشددت الوزيرة على أن البيضاء تتوفر من ناحية المؤهلات على أكثر من 640 مركزا، يستفيد من خدماتها أكثر من 50 ألف مستفيد. ولفتت المتحدثة نفسها الانتباه إلى أنه بات اليوم مطلوبا توفير بيئة اجتماعية ذكية للبيضاويين، مشيرة إلى أن وزارتها تضع ذلك محورا أساسيا ضمن إستراتيجيتها، إذ تشتغل على رصد البنية التحتية، مسجلة أن الأسرة يجب أن تتحول إلى وحدة متضامنة، مشيرة إلى أنه يتطلب العمل على تكوين الأسر من أجل استقبال هذه الفئات من المواطنين المتشردين، والذين يوجدون في وضعية شارع والبحث عن حلول لهذه الوضعية. ارحموا من في الأرض لا يخفي جمعويون، التقتهم "الصباح" غضبهم لمعاناة مشردين في هذا الجو القارس، وتعاستهم ومدى تهميشهم من قبل المجتمع والدولة التي حملتها مسؤولية ما تعيشه هذه الفئة المنبوذة لقلة دور الإيواء ومبادرات إيوائهم، فهناك أطفال وشباب وشيوخ "يطلبون عونا ورحمة، جاهرين: أغيثونا، ارحمونا، نريد حقنا من المجتمع وعيش حياة كريمة، فمن ننادي وبمن نتصل؟ فلا حياة لمن تنادي". لا يقبل المتحدثون أنفسهم أي حلول ترقيعية بجمع المشردين أسبوعين أو أكثر، قبل فتح أبواب المآوي التي احتضنتهم، إلى جانب المجانين والمرضى النفسانيين، ليعودوا أدراجهم إلى شارع لا يرحم بظواهره وبرده وواقع "الحكرة". لا ينفي المسؤولون عن البيضاء واقع المشردين البئيس، إذ كشفت نبيلة ارميلي، رئيسة المجلس الجماعي للبيضاء، في أحد الاجتماعات الأخيرة، أن مجلسها عمل على تخصيص اعتمادات مهمة، قدرت بحوالي 10 ملايين درهم لفائدة المؤسسات الخيرية على رأسها دار الخير ومركز تصفية الدم، و3 ملايين درهم للجمعيات الاجتماعية، مشيرة إلى أن المجلس الجماعي له طموح كبير للنهوض بهذه الفئة، حيث تضمن برنامج عمل جماعة البيضاء مجموعة من المشاريع الاجتماعية، التي تهم المسنين وذوي إعاقة ومن هم في وضعية الشارع. وتحدثت رئيسة المجلس الجماعي عن إحداث 16 مركزا اجتماعيا في مختلف مقاطعات المدينة، تعنى بالمرأة والأشخاص في وضعية إعاقة والمتشردين، موضحة أن هذه المعضلة التي تعرفها البيضاء تستدعي حلولا ناجعة في إطار مقاربة تشاركية، مؤكدة أن الشق الاجتماعي يتطلب إرادة حقيقية للنهوض به والقطع مع الهشاشة. تصريحات لم تشف غليل المنتقدين من لامبالاة المسؤولين بوضعية المشردين، إذ قال أحدهم إنه مازال ينتظر تنزيل إحدى الاتفاقيات على أرض الواقع، خاصة أنها تضم وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة وولاية جهة البيضاء سطات ومجلس الدار البيضاء ومجلس جهة البيضاء سطات، وتهم العمل على النهوض بالوضعية الاجتماعية لهذه الفئة المهمشة. رفض مراكز الحماية وقفت "الصباح" على مفارقة غريبة في ملف المشردين بدون مأوى، إذ أن أغلب المستجوبين يكرهون سماع كلمة "مركز تيط مليل"، أو حتى الذين اقترحوا وضعهم به من أجل إنقاذهم وانتشالهم من الشارع، تحت مبررات واهية وغير مفهومة. فهؤلاء الأطفال مازالوا متشبثين بفكرة ضبابية عن المركز، حاملين كل ذلك الكره للمكان، إلا أن الأكيد، حسب أحد الجمعويين، أن حرمانهم من المخدرات و"القرقوبي" و"السيلسيون" داخل المركز من أبرز الأسباب، فالهروب من المركز يظل هاجس الأطفال المشردين، مباشرة بعد أن يوضعوا به، رغم أن المشردين أنفسهم يسردون حياتهم في الشارع بمرارة، ويتخبطون في أحضان عالم يفقد فيه الطفل كل براءته، ويصير رجلا قبل الأوان، ويسرق وينتزع قضمة خبز، وقطرات من كحول وحبات من "القرقوبي" تشبع إدمانه. وتتوالى شهادات مؤلمة عن حياة الأطفال بالشارع، إذ يؤكد بعضهم أنهم مباشرة بعد أن تغيب عنهم الشمس، تبتدئ حلقة الاعتداءات عليهم، كما يشتكون من الاعتداءات التي يتعرضون لها في الشوارع المظلمة للبيضاء على يد أشخاص مجهولين أو معروفين، إذ لا فرق بينهم، مادام أنهم لن يحاكموا على ما اقترفوه وأنهم سيختفون كما يغيب الظلام وسط شعاع الشمس، إلا أنهم لا يفكرون في الاستعانة بخدمات المركز، معتبرين أن الحل الأنسب، تأسيس جمعيات أخرى تهتم بهم، وتعيد إليهم حياتهم التي فقدوها بسبب الإدمان، وتنتشلهم من الواقع المر الذي وجدوا أنفسهم يتذوقون مرارته بسبب المشاكل العائلية والاجتماعية، بعد أن تخلت عنهم عائلاتهم. البيضاء الأولى في عدد المشردين كشف أحد تقارير المندوبية السامية للتخطيط، حول الأشخاص دون مأوى بالمغرب، أن معظم المشردين يوجدون في الوسط الحضري، بنسبة تصل إلى 89 في المائة، بناء على نتائج الإحصاء العام للسكان خلال 2014، مضيفة أن المشردين يتمركزون في خمس جهات أساسية، ويتعلق الأمر بجهة البيضاء - سطات، التي يوجد فيها 23 في المائة من الأشخاص دون مأوى، تليها طنجة تطوان الحسيمة بنسبة 14 في المائة، ثم فاس مكناس بنسبة 12.4 في المائة، متبوعة بجهة الشرق بنسبة 12.6 في المائة، وكذلك الرباط سلا القنيطرة بنسبة 11.6 في المائة. وأكدت المندوبية أن الرجال يشكلون أغلب الأشخاص دون مأوى، بنسبة تعادل 86.7 في المائة، مقابل 3.13 في المائة من النساء، مبرزة أن البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و59 سنة، هي الفئة الكبيرة التي لا تتوفر على مأوى، ولا يمثل الأجانب منهم سوى 8.2 في المائة.