الفنان السوري يستعيد قصته مع موسيقار الأجيال وغيرة عبد الحليم منه حل الموسيقار والفنان السوري صفوان بهلوان، أخيرا، بالمغرب، حيث أحيى سهرة بالبيضاء رفقة الفرقة المغربية للموسيقى العربية برئاسة المايسترو صلاح المرسلي الشرقاوي. وخص الفنان السوري "الصباح" بهذا الحوار الذي استعاد فيه جانبا من علاقته بالموسيقى والغناء وتراث محمد عبد الوهاب، إضافة إلى أعماله الخاصة، من أغان وتآليف موسيقية. في ما يلي نص الحوار: أجرى الحوار: عزيز المجدوب ـ تصوير: (فدوى الناصر) مع توالي زياراتك للمغرب وسهراتك به، ما هو الإحساس العارم الذي تولد لديك عن هذا البلد؟ هو إحساس مفعم بالشوق والغبطة في كل مرة ألتقي فيها جمهور المغرب الحبيب، رغم أن زيارتي الأخيرة تزامنت مع الأحداث المأساوية التي تعيشها سوريا بسبب الزلزال الذي ضرب مناطق فيها، إلا أنني حاولت أن أغطي على شعوري بالحزن لأنسى نفسي وأنا أقف في حضرة هذا الجمهور الذواق، كما أن الغناء عموما ليس تعبيرا عن الفرح فقط، بل تعبير عن المشاعر الإنسانية في كل حالاتها، كما أن تهيبي من الوقوف للغناء أمام الجمهور ما زال يعتريه نوع من القلق والرهبة والخوف، إذ ما زلت أعيش مشاعر القلق والاضطراب خاصة خلال التداريب والبروفات المطولة على الأغاني، وكأنني أول مرة أقف فيها أمام الجمهور، وهذا شيء طبيعي لدى أي فنان يعتبر مواجهته للناس بمثابة اختبار متجدد. القاسم المشترك في جل حفلاتك بالمغرب هي الفرقة المغربية للموسيقى العربية كيف يمكن أن تلخص لنا علاقتك بها؟ هي علاقة تمتد إلى سنوات طويلة، نسجت خلالها مشاعر أخوة وتماه وانسجام مع أفرادها من الموسيقيين، كما أن صلاح المرسلي الشرقاوي رئيس الفرقة لا أعتبره مجرد مايسترو بل أشعر بتفاهم غريب وكأن شريانا يصلنا جميعا، وهو ما ينعكس على الحفلات التي نقدمها ومستوى العزف الذي يرافقونني به وهم يقدمون معي روائع غنائية تستغرق بروفاتها ساعات طويلة. منذ ما يقارب نصف قرن وأنت تعيش على ضفاف محمد عبد الوهاب، منذ أول أسطوانة سجلتها تحت إشرافه.. ما الذي يتجدد في علاقتك بهذا الموسيقار وإرثه الغنائي؟ الموسيقار محمد عبد الوهاب سيظل ملهمي وهو أستاذي، وكان لي شرف أن يقدمني للجمهور لأول مرة بصوته على الإذاعة، واستأمنني على استعادة تراثه الغنائي وترك لي حرية التصرف فيه بالتوزيع والإضافات التي أراها مناسبة، من منطلق ثقة كبيرة نشأت بيننا، ورغم أنني ألفت أعمالي الخاصة بي، إلا أنني أحرص دائما على تقديم أعمال عبد الوهاب بل وأوثره على نفسي، لدرجة التماهي مع أغانيه التي أعيد غناءها وحتى الإضافات الطفيفة التي أدخلها عليها تظل بروح عبد الوهاب نفسه وكأنني استبطن ما يفكر فيه وأتخيل ما يمكن أن يضيفه على تلك الأغاني لو أعاد غناءها، فإقامتي وسط أعماله اختيارية. ما هي الأغنية التي فتحت أمامك عوالم عبد الوهاب؟ كانت أغنية "الهوى والشباب" وهي الأغنية التي سجلها عبد الوهاب أصلا رفقة آلة العود فقط، وسجلتها أنا أيضا على هذه الآلة، وفي بداياتي تعلمت العود وتعلقت به تعلقا شديدا، والدي كان أول من اكتشف صوتي واستغرب لإصراري على سماع محمد عبد الوهاب دون غيره في تلك المرحلة المبكرة من عمري. درست الموسيقى فقط؟ اخترت الموسيقى ليس تقليدا لأحد في بلدتي بجزيرة "أرواد" التي لم يكن فيها أحد مشهورا بتعاطيه الموسيقى، وتلقيت مبادئها على يد معلم لقنني الكثير، إلى أن تقدمت نهاية الستينات إلى برنامج "نادي الهواة" بالتلفزيون السوري، ففزت بالرتبة الأولى غناء وعزفا رغم أنه لم تمض على دراستي الموسيقى سوى سنة واحدة، كما تعلمت العزف على العود في بضعة أسابيع. هل كنت تتوقع في هذه الفترة المبكرة من عمرك أن تلتقي محمد عبد الوهاب؟ حكاية اللقاء الأول أن المذيع اللبناني رياض شرارة كان سببا فيه، وكان هذا المذيع مولعا بأغاني عبد الوهاب ومن فرط إعجابه بصوتي لجأ إلى عمل مونتاج بين صوتي وصوت عبد الوهاب في أغنية "الهوى والشباب"، خاصة أن الموسيقار الكبير سجلها فقط على العود، فسجلتها أنا أيضا رفقة الآلة نفسها، وجعل رياض شرارة من هذه المسألة موضوع مسابقة إذاعية فاجأ بها المستمعين مطالبا إياهم بتمييز المقاطع التي غنيتها عن المقاطع الأصلية، فاستعصى الأمر على كبار "الوهابيين" منهم توفيق الباشا والرحباني، فتقاطرت الاتصالات الهاتفية على البرنامج، ومن بينها اتصال هاتفي للموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي عبر عن رغبته في لقائي، وحدث اللقاء فعلا بقرية "أشتورا" في لبنان، حيث اعتاد الموسيقار قضاء عطلة الصيف، ولم أكن مصدقا نفسي يومها لدرجة أن الارتباك سيطر علي، فأخذ عبد الوهاب يمازحني، بحضور زوجته نهلة القدسي، حتى يشجعني فغنيت أمامه "الهوى والشباب" و"يا لوعتي يا شقايا" لدرجة أنني لما فرغت من الغناء لمحت دمعة تنساب على خده اعتبرتها شهادة ظللت أعتز بها. رغم هذا الإعجاب لم يمنحك لحنا خاصا بك؟ أعطاني في البداية أغنية "مريت على بيت الحبايب" لإعادة توزيعها من جديد رفقة الموزع الموسيقي اللبناني رفيق حبيقة، وأشرف عبد الوهاب نفسه على التفاصيل الدقيقة والتسجيل، بل عندما طبعت الأسطوانات تولى الموسيقار الكبير تقديمها إلى مستمعي الإذاعة بصوته، وأذكر بالحرف أنه قال "إنني أقدم أغنيتي هذه التي غنيتها من زمن بعيد، وأقدمها اليوم بصوت الفنان الشاب السوري موزعة بطريقة جديدة وأرجو أن يجد بها الجمهور ما هو جديد..."، وكان ذلك في بداية السبعينات. وأذكر أنه خلال الفترة التي سجلت فيها الأسطوانة، وتركت صدى طيبا ورواجا كبيرا، قرأت بمجلة "الشبكة" للصحافي اللامع جورج إبراهيم الخوري أن لقاء حدث في بيته حضره محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وعلي أمين ورفيق حبيقة وروبير الخياط وآخرون لسماع أغنية "مريت" بصوتي على الأسطوانة، فتراوحت آراؤهم بين تأييد التوزيع الجديد للأغنية ورفضه، وكان عبد الوهاب يحبذ المسألة ومتحمسا لها، في حين أن عبد الحليم كان عكسه وضد الفكرة ككل واستمع إلى الأغنية بانقباض وامتعاض، وسألوا عبد الوهاب عن سر تمسكه بصوتي فقال إنه معجب به، إلا أن عبد الحليم قال إنه يخشى أن يفسرها الناس على أنها فخ للإيقاع بالمطرب الشاب، بل كان العندليب يسخر مني في ذلك اللقاء الذي نشرت تفاصيله على مجلة "الشبكة" بقلم جورج إبراهيم الخوري. هل فسرت الأمر بأنه غيرة من عبد الحليم؟ ربما كذلك وهذا ما يفسر عدم تقديم عبد الوهاب أي لحن لي بحكم أن العندليب كان شريكه، وتفادى الموسيقار أن يدخل في أي صراع معه فاكتفى بأن يسمح لي بإعادة غناء أغانيه القديمة خدمة له ولي. ألا تعتقد أن عبد الحليم لم يرقه أن تكون مقلدا لعبد الوهاب؟ لا ليس هذا بالتحديد ثم إن مسألة وصفي بمقلد عبد الوهاب لا تزعجني خاصة أن عبد الوهاب أكرمه الله بأن يمد في عمره الفني من خلال عمري، أنا أقدم للناس فن عبد الوهاب ولو أرادوا الاستمتاع بصوته هو فقط، لما قدموا إلى حفلاتي، كما يذهب المستمع في أوربا لسماع أغنيات "فيردي" أو "بوتشيني" أو "فاغنر" بصوت "بافاروتي" لأن هذا الأخير أضفى بشخصيته على نتاج هؤلاء العباقرة. هل سبق أن التقيت عبد الحليم؟ نعم، وكان اللقاء بيننا جافا خاليا من أي ود لا من طرفي أو من طرفه، وهذا ما أكد الانطباع الذي كونته عنه في ما قبل بسبب ما تناهى إلى علمي عن موقفه في اللقاء المعلوم. كان ذاك أواسط السبعينات، بأستوديو 46 بالقاهرة، ثم إن غناء عبد الحليم لم يكن يستهويني. ما هي قصة سمفونية "الربان والعاصفة" التي قدمتها فرقة برلين السمفونية؟ هذا العمل الموسيقي الضخم جاء بعد أن قدمت مطلع الثمانينات قصيدتين هما "جبهة المجد" للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري وغنتها المطربة السورية ميادة الحناوي، بعد أن اعتذر الموسيقار بليغ حمدي عن تلحينها معتبرا إياها قصيدة فصيحة مستعصية على التلحين، فكان أول تحد بالنسبة إلي في تطويع هذا النص موسيقيا بلحن جمع بين روح المقامات الشرقية واستخدام التوافق الموسيقي بالآلات النحاسية والخشبية النفخية، ثم قصيدة "يا شام" للشاعر مانع سعيد العتيبة، التي كانت بمثابة تجربة نهلت من الحداثة الموسيقية دون إفراط، والسفر الموسيقي بين أكثر من حضارة، وخلال الفترة نفسها كنت مشغولا بفكرة تنفيذ عمل سمفوني كبير، وهو الأمر الذي كان من خلال تأليفي لسمفونية "الربان والعاصفة". كيف وصل هذا العمل إلى ألمانيا؟ كان ذلك عن طريق المايسترو السوري نوري الرحيباني الذي راجع مخطوط العمل، وكان مقيما بألمانيا، فاستهواه، واشتغلنا عليه سويا بالمراجعة والتنقيح حتى استوى، فدفع به إلى فرقة برلين السمفونية وكورالها الضخم، فتم تقديم السمفونية مطلع 1987 بألمانيا لأول مرة، وظل هذا العمل الذي يستعيد حكاية جزيرة "أرواد" وملكتها "هيليصة" ونشيد البحارة الأرواديين، يقدم إلى يومنا هذا في افتتاح الموسم الموسيقي ببرلين إلى جانب أعمال موسيقية لمؤلفين عالميين. لماذا لم تعد إلى مثل هاته التآليف الموسيقية الكبرى؟ انتهيت أخيرا من تأليف عمل موسيقي ضخم بعنوان "النبي إبراهيم" استغرق مني سنوات طويلة من الاشتغال والتنقيح، ودخلت من خلاله في غياهب التاريخ العربي والإسلامي والإنساني موسيقيا، في انتظار العثور على من يتبنى هذا العمل إنتاجيا. العجوز يتفوق على الغواص في اختبار النفس هل تتذكر واقعة معينة جرت لك مع محمد عبد الوهاب خلال لقاءاتك به؟ خلال الفترة التي كان يلقنني فيها أسلوب أداء أغنيته "مريت على بيت الحبايب" توقفنا عند مقطع "وقفت لحظة هنية.. من غير عزول أو رقيب" كان صوتي يتدهج ويتقطع رغم أنني كنت غواصا ماهرا في طفولتي وأتمتع بنفس طويل بفضل هذه الرياضة، فقال لي عبد الوهاب ما الذي جرى لك يا صفوان فأنا العجوز أؤدي المقطع دون توقف وأنت ابن جزيرة أرواد لا تقوى عليه؟... فقلت له إنني أغني أمام عبد الوهاب لو كنت أنت نفسك أمامه لوقع لك ما وقع لي فضحك عبد الوهاب من هذا الجواب، بعدها تعودت عليه واستفدت منه كثيرا في زياراتي المتكررة له. أعمالي مستقلة عن موسيقار الأجيال هناك من يرى أن إقامتك وسط تراث عبد الوهاب أعاقت مسارك الفني وحجبت مواهبك في التلحين والتأليف الموسيقي رغم أنها كانت مختلفة؟ > فعلا حرصت أو ربما جاء ذلك بشكل عفوي على أن أقدم أعمالا خاصة بي مختلفة تماما عما كنت أردده وأستعيده من تراث محمد عبد الوهاب، سواء في الأعمال الموسيقية الخالصة أو في القصائد، التي إذا استمعت إليها لا ترى فيها بصمات عبد الوهاب، وهذه المسألة أستغرب لها شخصيا، بل يمكن أن تجد آثارا سنباطية أو روافد موسيقية أخرى تأثرت بها منها "فرانز ليست" في متتالياته الموسيقية والأبعاد الملونة "الكروماتيك" في موسيقاه.