تذكرة سفر إلى العالم الآخر

"الذبيحة" هدية "الملوك" و"الشرفا" لعقد تسويات السلام واتفاقية الهدنة للحم استعمالات كثيرة غير الأكل في المجتمع المغربي، إذ تقدم العجول و»العتارس» وحتى الدجاج، على شكل هدايا إلى الجن وأضرحة الأولياء، أو «الملوك» في السياق المغربي، لأهداف مختلفة، كما تستعمل لإرضاء أرواح «الملوك» التي تتلبس الجسد وتسكنه، وتؤثر على سلوك الذات الإنسانية. وهناك طرق وطوائف كثيرة ومتنوعة، من فرق وأتباع «الملوك» والأولياء الصالحين في المغرب، تختلف طقوسها وممارساتها، بل واختصاصاتها في العطاء والمنع، لكنها تلتقي في نقطة فريدة، تتمثل في طريقة التقرب إليها ونيل رضاها، من خلال تقديم «ذبيحة» بمواصفات معينة، لحيوانات مختلفة، أشرفها العجل، وأقلها قيمة دجاجة أو «فروج». وتختلف ظروف وطقوس تقديم القرابين إلى القوى الفوقية، التي يعتقد الشخص أنها ملكته، وأصبح عبدا لها، ويأتمر بأوامرها، غير أن جريان الدم ضروري، لأنه يحمل قدسية معينة، تحرك دواخل الأتباع والمريدين، إلى درجة أن هناك بعض الطرق، التي تقوم بنحر العجل في موسم السيد أو الولي، بقطع أوردة دموية وإغفال أخرى، لجعله يركض بسرعة جنونية في مضمار طويل، نهايته قبة الولي الصالح، في جو يتجمهر له الآلاف، وبمجرد نحره يسرع في اتجاه القبة، وتتعالى أصوات التهليل والصراخ والنحيب والزغاريد، في جو أشبه ما يكون بأفلام الرعب. وترتبط الذبيحة والدم في المخيال الجمعي المغربي، بالعوالم الخفية المحظورة على الإنس، وتعتبر «الهدية» تأشيرة لخوض غمار هذا البعد غير المرئي، وسبر أغواره والتعرف على شخصياته وسكانه من الجن. وهناك زيارات دورية وسنوية لأماكن استقرار «الملوك» والأولياء، حيث يتقدم المملوك بالذبيحة من أجل نيل مصلحة ما، ولا يتعلق الأمر بما هو معروف في عالم السحر والعرافات، لأن «الملوك» لا يحققون الأمنيات، بل يعقدون تسويات واتفاقيات، إذ الشخص الذي يسكنه «ملك» معين، يقدم له الذبيحة طلبا لإراحته وتهدئة أعراضه. وغالبا ما يشعر المملوك أن جسده مملوك لقوى أخرى، ومن خلال الأعراض، يستطيع، بمساعدة الذاكرة الجماعية والأتباع، أن يحدد طبيعة الجن الذي يسكنه، لأن كل جن له أوامر يصدرها للذات التي تشاركه الجسد، وسلوكات معروفة، ولهذه القوة ذوق جمالي أيضا، إذ منها ما يفضل بعض الألوان ويمقت أخرى، وما لا يتسامح مع بعض الأطعمة، وبعضها لا يقبل بعض الأنواع من الهدايا. وبعد عودة المملوك من زيارة الولي أو مقر «الملك»، يشعر بتحسن كبير حسب زعمهم، وأن أعراض القلق والكوابيس تخف، وهناك من يتخلى عن الأفكار الانتحارية وإيذاء الجسد وتعنيف الذات، كما أن البعض الآخر يصبح له مزاج للعمل والأسرة، لكن بمجرد البعد عن «الملوك» وأضرحة الأولياء، تشتد الأعراض وتسود حياة المملوك، وهنا يعرف أنه حان وقت الزيارة ونحر الذبيحة. وليس جميع «الملوك»، لهم علاقة مباشرة بالذبيحة والدم، لكن بعضهم يستمد منهم هويته، مثل «حمو الكزار»، الذي يعتقد أنه جزار، ومعروف بين أتباعه أنه يحب الدم، وحتى طقوس اتباعه فيها جزء كبير من المازوشية وإيذاء النفس وإذلالها، من شق الرؤوس، وجرح اليدين واللسان، وضرب الأطراف، لكن بعض الأضرحة الخاصة بالأولياء، تميل أكثر إلى التدين والتصوف، ولا تظهر عنفا كبيرا في طقوسها، لكن تبقى الحدود غير واضحة بين «الملك» الجني والولي الصالح صاحب الكرامة، إذ يعجز الشخص أحيانا عن تمييز هذه الحدود بدقة. عصام الناصيري

تذكرة سفر إلى العالم الآخر

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

طقس متجذر

احتـواء سخـط المواطنيـن

مقالات ذات صلة