ثلوج إفران … سياحة ومعاناة

ضعف الإقبال في أول يوم ومهن موسمية في انتظار زيادته والبياض يدفن أسر رعاة تهاطلت الثلوج بإفران، ولو بكمية أقل من المعتاد، وكسا البياض جبلي ميشلفين وهبري، راسما لوحة فاتنة تغري سياحا من مختلف المدن والأقاليم تقاطروا عليها بأعداد متفاوتة منذ الخميس الماضي للاستجمام والاستمتاع والترويح عن النفس. وأنعش سياحة يشكل الثلج رافدا من روافدها الهامة ب»سويسرا المغرب». عجلة الانتعاشة تحركت بعد ركود، وجيوب شباب دواوير أحست بدفء مدخول إضافي هام من مهن موسمية يعولون عليها بدا الإقبال عليها ضعيفا في أول يوم، لكنهم يمنون النفس بارتفاع ممكن، بإقبال أكبر، تزامنا مع العطلة المدرسية، إن لم يذب الثلج فيذيب أحلامهم الوردية. إعداد: حميد الأبيض (فاس)- تصوير: (أحمد العلوي المراني) زارت «الصباح» إفران وتنقلت إلى حيث يوجد البياض مغطيا الجبال الشامخة في هبري وميشلفين. رصدت حيل أسر تكابد لأجل العيش أيا كانت وسائله وطرقه، وإمكانيات الانعتاق من وضع لا تحسد عليه، دون أن تنسى أخرى دفنت الثلوج «براريكها» البلاستيكية وحيث تعيش «ميتة» في انتظار رأفة أفئدة المسؤولين. زحف محدود الجو مشمس والبرد قارس تتجمد له الأبدان. حركة السير ضعيفة بين فاس وإفران، موسم الهجرة إلى حيث الثلج انطلق ذاك الخميس، لكن بوتيرة أقل من المعتاد كلما عم البياض جبال عروس الأطلس المتوسط الزاهية في شتائها وصيفها بسياحة استثنائية. كثيرون لم يعلموا عنها بغير ما خبرتهم الأرصاد الجوية من تساقطات محتملة. عربات قليلة في طريقها إلى إفران، تسير سير سلحفاة خوفا من انزلاق بسبب «جريحة» لم تذبها أشعة الشمس. الزحف يزداد بالدنو من «سويسرا المغرب». والحركة تتكثف عند مدخل جامعة الأخوين وإلى وسط المدينة وما بينهما حيث بدت سيارات مركونة على جنبات الطريق، وأشخاص بعدد محدود يستمتعون بجمال مدينة فاتنة. قرب الضاية على يسار الطريق وإلى عين فيتال صعودا إلى وسط إفران، الحركة أخف من المعتاد. حتى محركو مفاتيح الشقق المفروشة عارضيها للكراء، غابوا ذاك الزوال. أما الأسد الشامخ فبدا كما لو أن زئيره أبعد الزوار. «إيزم الأطلس» حزين محبط، وكأنه غاضب من أرصاد جوية بشرته بثلوج لم تلامس جسده المتجمد بلا إحساس. الأرصاد وعدت بثلوج بمقدار 60 سنتمترا، وما لمس منها ولا ملمتر جسده، لا بياض بمحيطه وكل شبر بالمدينة، إلا بقايا «جريحة» تأبى أن تذوب، صامدة في وجه شمس بأشعة ناعمة. غاب الثلج وذاب أمل قضاء يوم ممتع بين فضاءاتها وجبالها الشامخة، وأحبط كل من قصد المدينة للاستمتاع بنصاعة بياضها، لكنهم تشبثوا بالأمل. لم يلح طيف البياض إلا بقطع كيلومترات في اتجاه الجبل. ذابت صور الخيبة على طول الطريق لأعلى قمته وما تفرع عنها من طرق إلى كيكو وبولمان. كمية الثلوج ضعيفة على الجنبات، لكنها غطت رؤوس أشجار أرز شامخة شموخ جبل تكثفت رقع البياض فيه قبل محطة ميشلفين بنحو 3 كيلومترات، حيث انتشرت صور الفرح والمرح. "الوقت واقفة" الوشاح الأبيض زين الأرض والشجر ولو بشكل متناثر حول المكان لوحة برقع بلوني الفحم والحليب، رسمتها تساقطات ثلجية أقل من المعتاد. سيارات قليلة على جنبات الطريق الجهوية المنكبة مصالح وزارة التجهيز على رمي الرمل بها حفاظا على سلامة عابريها والعربات. "الجريحة" تهدد العربات بالانزلاق وحدوث حوادث. على يسار الطريق عدد قليل من الزوار منهم أطفال منشرحين يلاعبون بعضهم ويرمون أقاربهم بقطع الثلج. أما مالك خيل، فيتوسل رزقه من زوار غير مكترثين بعروضه. لم يكسب درهما إلى الزوال في أول يوم بعد تساقط الثلج الفرصة التي ينتظرها وشباب الدواوير المجاورة للكسب من كراء الخيول وأحذية ومعدات التزحلق. "من الصباح وأنا هنا فالبرد، ما زال حتى ريال ما دخل لجيبي. القضية واقفة" يقول أحمد ابن دوار بجماعة تمحضيت يمني النفس بكسب أوفر في الساعات اللاحقة وبقدوم عدد أكبر من الزوار لحيث اعتاد عرض خدماته بالطواف مع راكب خيله والغناء أحيانا إرضاء لزبون يدفع قدر المستطاع، دون أن يخجل في طلب رزقه. الأمر سيان بالنسبة لزملائه الأربعة في محطة ميشلفين الأقرب حيث رست ثلاث عربات عبارة عن منازل متنقلة لسياح أجانب. لم يكسبوا إلا القليل، كما عارضي وسائل التزحلق من أحذية وقطع خشبية، بدوا محظوظين بالإقبال على كرائها سيما من الأطفال، وبعضهم جهز العشرات منها، في ما يشبه الاحتكار لسوق غير متكافئة. المنافسة تشتد بينهم في هذه المحطة التي عرفت إقبالا أكبر مقارنة مع باقي المواقع على طول الطريق الجهوية بين طريق أزرو وتمحضيت وجبل هبري وميشلفين. وكثير منهم يخفض ثمن الكراء، إرضاء لزبون "شاطر" يساومهم، أملا في كسب يزداد بزيادة عدد الزوار، بعد شيوع خبر تزيي جبال إقليم إفران البهي بالبياض فرحا لا حدادا. محطات ومنافسة الحركة كثيفة بمحطة ميشلفين دون محطات قبلها وبعدها على طول الطريق الجهوية قرب القصر وعلى مرمى حجر منه وبجبل هبري وفي اتجاهي أزرو وتمحضيت حيث يقل البياض تدريجيا. هناك عدد أكبر من السياح وعدة عربات لفظتهم بما فيها حافلة نقلت تلاميذات من مؤسسة تعليمية ببوسكورة في رحلة استجمام مؤطرة. بهذا الموقع عارضو الخدمات أكبر من السياح أحيانا. خيول بعدد هام ومئات الأحذية البلاستيكية وقطع الخشب لتزلج زبناء يقبلون عليها بنسبة ضعيفة. ثمن كرائها متقلب ومتفاوت ويخضع للمساومة، ويفوق 30 درهما أحيانا، ويختلف حسب مدة الاستغلال وطول الجولة وإن كانت مرفوقة بغناء وتصوير ومرح، بالنسبة للخيول. كثرة العدد يقلل حجم المدخول لشباب من دواوير مختلفة بجماعات بنصميم وتمحضيت وإفران، قد تتطور حدة المنافسة بينهم إلى عنف كما حدث في مرات سابقة، رغم تنظيمهم ومحاولة تأطيرهم وتحسيسهم، كما مكري مواقف السيارات بتلك الفضاءات السياحية يصطدمون أحيانا مع زبناء، إلا بتلك التي تشرف عليها جماعات. في ذاك الزوال حاول حراس موقف ميشلفين الأكثر سعة دون جدوى إقناع سائقين بإدخال سياراتهم إليه، بعدما ركنوها على جنبات الطريق ربحا للمال و"راحة البال" طالما أن مكوثهم هناك لن يطول غير مدة قصيرة يستغرقها التقاط الصور للذكرى والاستمتاع بجولة قصيرة وسط الثلج قد تمتد لحيث يطلون على براريك دفنها البياض. تسيير مواقف السيارات تتكلف به الجماعات الثلاث وجمعيات مشكلة من نشطاء دواوير قريبة من كل واحد منها وبشكل يساوي بينهم تلافيا لأي رد فعل مشين، على غرار محلات لإعداد وجبات غذائية سيما بمحطة ميشلفين التي تشرف عليها تعاونية أطنطن إيزم المشكلة من نحو 20 امرأة يعددن أشهى أطباق اللحم والدجاج وغيرها. خيام البؤس أغلب خيام الأكلات الخفيفة بمحطة ميشلفين، كانت مغلقة زوال أول يوم أعقب زيارة الثلوج لجبال إفران، إلا ثلاث منها أثثتها نساء سحناتهن تفضح وضعهن الاجتماعي وفقرهن. يعددن طواجين اللحم والدجاج ووجبات البيض وكؤوس الشاي لمن يطلبها من زبناء لم يطرق أحد منهم أبواب خيامهن المشرعة التي ظللن فيها ساعات من الانتظار. الكساد واضح لا يحتاج اجتهادا لاكتشاف أوجهه و"قلة الشي" تقرأها في وجوههن وأبناؤهن الصغار يركضون ويلعبون وسط الأوحال ومياه سائلة من ثلوج ذائبة، لتدفئة أرجل شبه عارية وأجساد نحيلة لا تغطيها إلا أسمال تستر العورة ولا تقي من البرد القارس يلفحها حيث لا معنى للكرامة لسكان يكدون ولا ينتظرون صدقة أحد. "ما زال ما سفاليت. ها أنت كتشوف. وجدت الطواجن وما زال حتى احد ما ساومني" تقول إحداهن، عارضة كوب شاي مجانا على سائلها. فقرهن لم يقتل كرمهن، كلهن في تلك الخيام البئيسة، مثيلاتها في الكرم والبحث عن "طرف د الخبز"، منهن جارتها أخت أب شابة معاقة ما زالت في انتظار أن ترأف القلوب لحالها. هناك في الفج تعيش هذه الأسرة المدفونة "براكتها" وسط البياض. تطعم الزوار لتساعد زوجا هام في الغابة بحثا عن كلأ لماشية مشغله الكساب القاطن بعيدا بفيلا لا مكان فيها للبرد، بهذه الأرض تتكامل الأسرة في بحثها عن سبل العيش ولو كان مرا، وتتعايش مع ظروف مناخية واجتماعية لا أحد يعي صعوبتها إلا من ذاق من مرارتها. من حسن حظ تلك النساء "المجاهدات لأجل لقمة العيش"، أن بياض الثلج يدفن معاناتهن ولو لفترة محدودة. يكددن فيها لإطعام من يقصد خيامهن، لكسب قليل المال قد ينفع في توفير جزء من حاجيات أسرهن القاطنة في دواوير مجاورة ويعيلها رعاة قطيع كسابة يراكمون الثروة من عرق جبين من ظلمتهم الطبيعة والإنسان. "مخلينها على الله" كل من بالمكان وأمكنة أخرى مستقطبة لعاشقي بياض الثلوج، "على باب الله" في انتظار تحسن المدخول، وهم يرددون في قرارة أنفسهم أغنية بنفس العنوان للفنان المصري حمزة نمرة، راضين بكل الأحوال دون أن يروا في الناس والطبيعة غير جمالهم، "عاقلينها" متوكلين و"مخليينها على الله" كما غنى الفنان المرحوم فريد الأطرش. نساء "الطواجين" المتعاونات وإن بدين غير راضيات على قلة الإقبال على ما أعددنه من أطباق، فهن يمنين النفس بانتعاش وشيك ومدخول أحسن بتزايد الإقبال على المحطة، إن لم يختي الوشاح الأبيض ويذب الثلج فيذيب حلمهن وأملهن في تحسن ممكن، كما مكتري الخيول وكل أدوات التزحلق على الثلج بهذا الموقع وغيره. وقس على ذلك بائعي العسل يقدمونه للزبناء المفترضين "بلديا" منتجا محليا وبأزيلال، وما هو إلا مزيج من السكر وفتات الشهد، كما كل المهن الموسمية التي عادة ما تنتعش نتيجة التساقطات الثلجية التي تزين الجبال وترسم مناظر طبيعية خلابة وتدفئ جيوبهم بمدخول موسمي واستثنائي يحتاجونه لإعالة أسرهم الفقيرة. عشرات الشباب والأسر بدواوير جماعتي تمحضيت وبنصميم وبإفران، "تستفيد من هذه المهن الموسمية خاصة في كراء الخيول وأدوات التزحلق ومحلات الوجبات الغذائية، بمواقع في ميشلفين وجبل هبري وطريق تمحضيت وبودمام، خاصة في ظل أزمة يعيشونها نتيجة الجفاف وغيره" يؤكد محمد ملوك نائب رئيسة جماعة تمحضيت. وأوضح أن للثلوج أثرا إيجابيا وهاما على الفرشة المائية والغطاء النباتي سيما بإقليم يلعب فيه اقتصاد الماشية دورا هاما، لكن دوره في إنعاش قطاع السياحة أهم لأن "سياحة الثلج" مهمة ولا يمكن إغفالها خاصة بالنسبة إلى المستفيدين من تلك المهن الموسمية التي تشكل دخلا إضافيا لعشرات الأسر نسبة مهمة منها رعاة فقراء. الحاجة إلى مبادرات إنسانية الثلوج تضفي جمالا يغطي القمم والسفوح، وينعش الفرشة المائية بما يوفر العلف والرعي لمواش جائعة، ويدفئ جيوب شباب وأسر تقتات أو تستفيد من مدخول إضافي من مهن موسمية مرتبطة انتعاشتها بدرجة إقبال السياح. لكن بياضه يدفن أخرى ويزيد من معاناتها، ويخفي في كثير الأحيان، آلامها تحت "براريك" بلاستيكية. بدوار ميشلفين تدفن الثلوج حق أسر في الدفء يكلفها ما لا طاقة لها به غير جمع حطب يابس من الغابة إن رأف لحالها "بوغابة". بياضها يدفن أحلامها في انعتاق طال هناك وبدواوير متناثرة بجبل هبري وفي الطريقين إلى أزرو وتمحضيت وعلى الطريق الوطنية المؤدية إلى ميدلت والرشيدية، في انتظار أن تلين قلوب المسؤولين لحالها. تغيرت الأزمنة وشاخ الشاب ومات المسن وكبر الصغير وتكررت زيارات "الصباح" لتلك الدواوير كلما كسا البياض الجبال بنفس شموخ صبرهم، وجثم على قلوب المدفونين تحت الثلج، لكن حال تلك الأسر، ما زال على ما هو عليه. بؤس وفقر وحاجة ومعاناة وآلام لا تتغير كما لامبالاة مسؤولين شعارهم "كم حاجة قضيناها بتركها". لا عين نظرت إليهم وشفقت لحالهم. من شهاداتهم تستشف غبنا وحرمانا حتى من بناء "براكة" تسع لأسرة كبر ابنها و"لم يعد ممكنا مشاركته والديه شبرا لا يسع لهما" بقرار قائد قد لا يعي حجم معاناة راشد يشارك والديه نفس الفراش تحت سقف يغطيه البلاستيك يتحمل ثقل وبرد ثلوج تنعش السياحة وتقتل إنسانية هؤلاء. هؤلاء محتاجون لمبادرات إنسانية تخفف عنهم العبء أيا كانت تجلياته، على غرار حملات طبية وخيرية أطلقت الجمعية الإقليمية لتنمية المناطق الجبلية، بعضها بتوزيع مواد غذائية وألبسة للأطفال على أسر بدواوير كنفو وتاغية والكتارات، وإطلاق مشروع للخبازة لفائدة أرامل، مبادرة يتمنى الكل تعميمها وتنويعها على كل الجبل.

ثلوج إفران … سياحة ومعاناة

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أزمة تذاكر تسبق "الموندياليتو"

قرار تحركه دوافع الهيمنة

مقالات ذات صلة