دار القاضي بن ادريس… من الشكايات إلى النفايات

أقدم قصبة بالبيضاء تتحول إلى مطرح للأزبال والاستيطان العشوائي تعد دار القاضي بن ادريس واحدة من أشهر وأقدم معالم البيضاء خارج السور، إذ تعتبر من أقدم البنايات التي ما زالت ترتبط في الذاكرة البيضاوية باسم شخصية شكلت رمزا للنخب المخزنية للنصف الأول من القرن العشرين. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" في جولة عبر أرجاء هذه القصبة التي جار عليها الزمان والخلق. إنجاز: عزيز المجدوب ـ تصوير (أحمد جرفي) لو علم القاضي بن ادريس أن القصبة التي تركها، بعد وفاته مطلع خمسينات القرن الماضي، قد تحولت إلى مطرح أزبال ضخم غير معلن عنه، وإلى واحد من أكبر التجمعات الصفيحية، لفضل أن لا يبارح سكناه الأصلية بحي الأحباس، ولا يفكر أبدا في بناء معلمة، بذل فيها الغالي والرخيص، لتصير بعده عنوانا للتردي التدبيري الذي يفضح ويدين كل المجالس وسلطات الوصاية التي تعاقبت على البيضاء وهي تتفرج وتقتات على رقعة النتانة التي اتسعت وأغرقت جانبا من تراب مقاطعة عين الشق. من يصدق أن مدينة مثل الدار البيضاء التي ظلت منذورة لتكون واجهة للحداثة والتقدم ومختبرا لأحدث صيحات النظريات الهندسية والمعمارية، عادت من جديد لتعانق مظاهر الترييف التي بدأت تغزو معالمها، وتتغلغل في مسامها. ومن يصدق أن منطقة عين الشق التي أغرت الفرنسيين منذ أن وطأت أقدامهم أرض البيضاء، مطلع القرن، الماضي، بموقعها المميز، ومناخها الصحي تصير إلى ما صارت إليه، وهي التي تميزت منطقة بخصوصية جغرافية تميزها عن بقية المناطق التي بنيت فوقها أحياء البيضاء خارج سور المدينة القديمة وأيضا خارج المدينة الأوربية التي تشكلت خلال بداية الحماية الفرنسية مطلع القرن الماضي. خصوصية عين الشق المجالية والجغرافية توجد منطقة عين الشق بموضع يرتفع بحوالي 200 متر عن سطح البحر، وهو ما جعلها تطل على مركز المدينة، إضافة إلى وجودها بملتقى طرق إستراتيجي سعت القوات الفرنسية إلى استغلاله منذ بداية استيطانها للمنطقة لجعله نقطة مراقبة. وخلال اللحظة التي قرر فيها القاضي محمد بن ادريس العلوي، حفيد السلطان محمد بن عبد الله، وابن عم السلطان محمد بن يوسف، أن يشيد قصبته الخاصة خلال مطلع أربعينات القرن الماضي، لم تكن منطقة عين الشق سوى خلاء ممتد تابع لأراضي قبيلة أولاد حدو، لا تخترقها سوى طريق مديونة الذي شيدت به خيرية عين الشق نهاية العشرينات على بعد أمتار من الطريق في موقع عد إستراتيجيا بالنظر إلى وجوده خارج المدار الحضري الآخذ في التوسع آنذاك، خاصة بعد ظهور ما سمي "المدينة الجديدة" وحي الأحباس المحيطين بالقصر الملكي ليشكلا النسيج العمراني المعروف حاليا بدرب السلطان، والذي كانت تفصله عن عين الشق مساحات شاسعة من الأراضي والحقول تنتهي بربوة عالية شكلت موقعا إسترتيجيا لبناء قصبة بمعمار إسلامي ومغربي مميز. على المدخل الجنوبي للبيضاء المعروف بطريق مديونة، كانت هناك نقطة كيلومترية عرفت لدى قدماء البيضاويين ب"القامرة"، في الموقع الحالي لتقاطع شوارع محمد السادس والمنظر العام والوحدة الإفريقية، اتخذت منها سلطات الحماية نقطة تفتيش لكل الوافدين على البيضاء من القرويين المتحدرين من البوادي المحيطة بها، الذين كان بعضهم يخضع لفحوصات طبية ورش بمبيدات لطرد أوبئة محتملة، وإن اقتضى الأمر في بعض الأحيان منعهم من النفاذ إلى داخل المدينة إذا اشتبه في أمرهم. جرائم بيئية ومجالية بمجرد ما تجتاز واجهة المباني المطلة على شارع محمد السادس في مقابل الموقع الحالي لمحطة "ليدك دار التوزاني"، تكتشف أن تلك المباني ما هي إلا ستار يحيط بمجال ما زال مغرقا في الفوضى ومظاهر الترييف، بدءا بسوق عشوائي نبت في ساحة تتوسط المباني المحيطة به وتستره، لكنه رد الجميل إليها بركام من الأزبال التي تزكم أنوف المارين أو تقتحم بروائحها النوافذ والشرفات التي تطل عليه. لا يقتصر الأمر فقط على الأزبال المتراكمة، بل أيضا بجحافل الدواب التي ترتع فوق المطرح من غنم وأبقار وماعز وخيول وبغال وحمير وكلاب ضالة، ما يجعل الفضاء محمية طبيعية لأصناف من الحيوانات والكائنات التي تقتات على مخلفات السوق التي يبدو أن مصالح النظافة التابعة للمقاطعة لا تتفقدها أو لا تعلم أصلا أنها موجودة. ويشكل هذا السوق نقطة سوداء منذ عقود طويلة، إذ لم تفلح كل المجالس التي تعاقبت على تدبير الشأن المحلي في حل مشكله وتنظيمه أو على الأقل التحكم في ما يفرزه من نفايات جعلت المنطقة أشبه برقعة في بلد بدائي ينخره التخلف والتعايش مع الجرائم البيئية. وغير بعيد عن هذا السوق تنتصب بناية دار القاضي بن ادريس، بأحياء الصفيح ومطارح الأزبال المحيطة بها، الناجمة عن عقود طويلة من استيطان آلاف سكان تلك المباني، والتي شكلت احتياطا انتخابيا للعديد من النخب التي تعاقبت على تولي مسؤولية تدبير الشأن المحلي. ما يميز "كاريان القاضي بن ادريس" عن بقية الكاريانات التي كانت منتشرة بالبيضاء، هو أنه لم ينبت في أرض عراء، بل اختار سكانه الأوائل الاستيطان داخل بناية اتخذت شكل قصبة عاشت ماضيها التليد قبل أن يجور عليها الزمان والخلق، وتجد نفسها محضنا لبنايات قصديرية ظهرت فيها، بل واستغلت كل ركن فيها حتى البقايا المسقوفة ليتفاقم الوضع ديمغرافيا ومجاليا، ويتشكل هذا الكاريان الذي ظل واحدا من أكثر النقط السوداء في تاريخ المنطقة. في هذا السياق يقول مراد الناتي، مدير المصالح بمقاطعة عين الشق، إن مشكل تدبير هذا الكاريان ظل مستعصيا على العديد من المجالس التي تعاقبت على المقاطعة، إذ كانت طريقة تدبيره وحل المشاكل التي تفاقمت فيه، يتطلب إيجاد صيغة تجمع بين إيجاد بدائل للسكان وفي الوقت نفسه تحرير المجال الذي يسكنون فيه والحفاظ عليه باعتباره واحدا من معالم المنطقة. وأضاف الناتي، في حديث مع "الصباح"، أن الخطوات الأولى يتمثل في محاولة إخلاء المجال الداخلي للبناية التي تضررت كثيرا من فرط سوء الاستغلال لها، وهي العملية التي استغرقت سنوات طويلة بالنظر إلى تعقد مسطرة تنقيل السكان وإيجاد البديل المناسب لهم، وقد بلغت نسبة ترحيلهم ما يفوق 75 في المائة. أما المجال الخارجي والمحيط بدار القاضي بن ادريس، فما زال هو الآخر يعاني تراكم المساكن القصديرية والمحلات العشوائية ومظاهر الترييف وانتشار الدواب، في الوقت الذي يفضل فيه بعض السكان الذي وجدوا أنفسهم مرحلين خارج البيضاء وفي ضواحيها يعودون من جديد لمجاورة القصبة بعد أن رفضوا كل الحلول التي قدمت لهم لأسباب مختلفة. فـ"البراريك" التي تحتمي بهذه المعلمة التاريخية، تجعل الزوار للمنطقة لا يكفون عن التحديق في الفضاء المثير للانتباه، وإن كانت قلة من الناس يعرفون أن المنطقة في الأصل كانت تتضمن قصرا يخلو من هذه “البراريك”، إلى أن استوطنها أناس قيل إنهم في الأصل كانوا حراسا لهذا القصر. ويضيف الناتي أن فكرة الاهتمام بإعادة الاعتبار لبناية دار القاضي بن ادريس تدخل ضمنه مشروع كبير ظهرت معالمه ضمن تظاهرة شهر التراث التي سبق لمقاطعة عين الشق أن نظمتها، وتم فيها جرد العديد من البنايات والفضاءات التي تشكل جزءا من تاريخ المنطقة، وإن كانت هذه القصبة هي الأكثر تضررا بين هذه البنايات رغم تصنيفها أخيرا ضمن قائمة المباني التاريخية من قبل وزارة الثقافة. القاضي الذي ساند الحلفاء ضد النازية يرى الباحث عبد الله اتهومي أن بناية القاضي بن ادريس تعد المعلمة الوحيدة التي وجدت قبل بناء حي عين الشق النواة منتصف الأربعينات، ما يجعلها جديرة بالاهتمام والحفاظ على مقوماتها. ويورد اتهومي في كتابه "عين الشق.. الحي النواة والامتداد" جوانب من سيرة القاضي بن ادريس واسمه الكامل "محمد ابن إدريس العلوي" (1887 ـ 1951) وكانت تربطه صلة قرابة ومصاهرة بالسلطان محمد بن يوسف. اشتهر الفقيه القاضي بن ادريس كأبرز المحدثين في العهدين اليوسفي والمحمدي وحفظه للقرآن الكريم بالروايات العشر، وتوليه كرسي الوعظ، وممارسته لخطة العدالة بسماط عدول مكناسة، قبل أن يصبح نائب قاضي الجماعة بالمدينة نفسها. لنبوغه المبكر وإلمامه بالنوازل والأحكام، عينه السلطان المولى يوسف قاضيا بزاوية زرهون وأحوازها. عرف القاضي مسارا قضائيا متميزا بعد زاوية زرهون، إذ تولى القضاء بزاوية سيدي عيسى من سوق أربعاء الغرب، ثم مدينة سلا. كما تتحدث بعض المصادر عن مساندة العلامة ابن ادريس لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، استجابة لنداء السلطان محمد بن يوسف، إذ لم يبخل الفقيه بعلمه وماله حيث تبرع في اكتتاب لصالح فرنسا، كما ساندها بخطبه في الجمعة ومحاضراته، لحث الشعب المغربي على المشاركة إلى جانب الحلفاء ضد النازية. كما استقبل العسكريين من قادة قوات الحلف الأطلسي في حفل ضيافة يوم 27 يناير 1943 بمنزله بحي الأحباس بالبيضاء حيث كان سكنه الرئيسي بينما ظلت قصبته بعين الشق بمثابه سكنه الثانوي الذي يستقبل فيه الشكايات. وتميزت القصبة التي شيدها بمنطقة عين الشق بأنها كانت سكنا ثانويا وفضاء يستقبل فيه المشتكين لفض نزاعاتهم من موقعه قاضيا شرعيا، وظلت البناية شامخة بطرازها المعماري المميز الذي يحيل على نمط القصبات التي كانت تحبل بها العديد من مناطق المغرب، في الوقت الذي لا تحتفظ البيضاء سوى بواحدة هي هذه القصبة التي طالتها أيادي الإهمال والتخريب.

دار القاضي بن ادريس… من الشكايات إلى النفايات

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

رحل يستبيحون سوس

مضاعفـات خطيـرة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات