دراسة في القانون : نشر الأحكام القضائية بين الواقع والفكر

دراسة الأحكام القضائية غالبا ما تتم عن طريق تقنية التعليق عليها إثر النقاش المثار مؤخرا حول التعليق على الأحكام القضائية ومراقبة جودتها، والذي كان مصدره بعض التعابير التي صاحبت الإعلان عن مشروع لمراقبة أداء المحاكم، ومن منطلق ردود الأفعال السلبية والإيجابية التي سبق أن تلقيتها منذ تأسيس موقع إلكتروني متخصص في العلوم القانونية الذي يحتوي إلى حدود هذا اليوم على ما يناهز 400 مقرر قضائي، تم الاطلاع عليها لأكثر من نصف مليون مرة ، إضافة إلى المئات من المساهمات التي تعتمد على تقنية التعليق على القرارات والأحكام القضائية ومقاربتها مع النصوص القانونية والتوجهات الفقهية. باعتبار أن القانون والقضاء والفقه بمثابة ثالوث يشكل العمود الفقري لأي بحث أو دراسة في مجال العلوم القانونية، فإنني ارتأيت المساهمة في هذا النقاش من خلا نقطتين:النقطة الأولى : في ضمانات واقع نشر المقررات القضائية.إن الأبحاث القانونية حسب الدكتور محمد الكشبور لا تتوقف على الاستناد على المراجع القانونية، بل لابد من تدعيمها بالاحتكاك الفعلي بالواقع القانوني، سيما أن النشاط القضائي هو الذي يضفي على النصوص القانونية نوعا من الحركة التي تخرجها من جمودها وسباتها عن طريق تطبيقها على مختلف الوقائع المعروضة أمام المحاكم.غالبا ما تتم دراسة الأحكام القضائية عن طريق تقنية التعليق عليها، هذا التعليق الذي يقصد به معالجة قرار صادر عن هيأة قضائية، سواء في إطار القانون الخاص أو في إطار القانون العام، وأيا كانت الهيأة مصدرة الحكم.وعليه فإن مسألة نشر الأحكام القضائية والتعليق عليها سواء كانت مجانبة للصواب أو مصادفة له، وسواء كانت رديئة أو مجتهدة وخلاقة، هو أمر معمول به وسيظل العمل به ما ظل البحث العلمي في مجال العلوم القانونية قائما.ولا مراء أن المجتمع المدني يعتبر شريكا في تفعيل وتنزيل دراسات في هذا الشأن لما يتوفر عليه من آليات عمل وكفاءات لها من القدرة في تقديم منتوج يستفيد منه الباحثون في العلوم القانونية والفاعلون في قطاع العدالة، خاصة أمام إحجام المؤسسات الرسمية عن تقديم مثل هذه الأعمال بشكل مكثف.إلا أن عمل المجتمع المدني في هذا الشأن وبغض النظر عن مساحة الاختلاف حول تفاصيله وجزئياته، يجب أن يكون وفق ضمانات تعطي لمفهوم السلطة القضائية حقه مع الاحتفاظ لها (السلطة القضائية) بما يحميها من أي ضغوطات إعلامية أو شعبية، وتكريس احترام الجميع لها لتظل ملاذا يحقق الأمن القضائي للاجئون إليها.ويقينا لن يكون التعريف بالأحكام الصادر عن هذه السلطة مقللا للاحترام الواجب لها، إذا ما اعتمد المجتمع المدني على معايير يمكن أن تشكل ضمانات لنجاح أي مشروع يروم إلى تتبع منتوج وخدمات السلطة القضائية، هذه الضمانات التي يمكن إيجازها على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي:- إسناد هذه المهمة لأساتذة جامعيين وقضاة وباحثين ومحامين وحقوقيين وخبراء، يشكلون هيأة جماعية لا ترابط بينهم سوى تنزيل المشروع وفق القواعد العلمية المتفق عليها.- جمع أحكام، ودراسة حالات وعينات مختلفة، بشكل لا يخضع لمنطق انتقائي.- تحاشي التعليق، ودراسة الأحكام والقرارات موضوع شكايات أو تظلمات، مفتوحة بشأنها مساطر قضائية أو إدارية، حتى لا تقوم لجنة تنزيل المشروع كبديل عن مساطر التظلم.- عدم اقتصار الدراسة على نوع معين من القضاة أو المحاكم، بمعنى أن تشمل جميع الدرجات والتخصصات، وتغطي جميع جهات المملكة وفقا للخريطة القضائية المعمول بها.- أن تكون التمثيلية المكونة لفريق العمل متوازنة، إذ لا يتم تغليب تخصص ما على آخر.- عدم التركيز في التعليق والدراسة فقط على عمل القاضي، بل استحضار جميع الجزئيات التي تتدخل في مساطر إنتاج الحكم (عمل المحامين والخبراء وكتابة الضبط ) مادام أن صنع الحكم ليس نتاجا لعمل القاضي بشكل منفرد. - التحديد المسبق لخطة العمل، والمنهج العلمي المعتمد في التعليق والدراسة، مع إعلام الرأي العام بشكل دقيق بخطة العمل التي ستبلور، متضمنة لوسائل وأهداف الخطة. - النشر العلني لنتائج الدراسة بشكل تفصيلي على أن تحذف الأطراف والهيأة التي أصدرت الحكم، من الأحكام المنشورة.- التعريف بالممارسات الجيدة والسلبية. - إعادة النظر في مسألة إعلام القاضي بالتعليق المثار على حكمه، والتمسك باعتبار التعليق عملا علميا مجرد .ا- التفكير في بلورة مشروع يهدف إلى تقييم عمل المحامين في مجال المساطر القضائية، ومشروع حول عمل الخبراء الذين يبلورون تقارير يستأنس بها القاضي في تكوين قناعته.النقطة الثانية: في منطلقات الفكر المنتقد لنشر الأحكام .تم الخوض كثيرا خلال الأيام القليلة الماضية في مسألة نشر الأحكام والتعليق عليها، وأوحي للكثير أن المنتقدين لمثل هذا العمل انطلقوا من منطلقات شخصية أو مصالح فردية، وأعتقد أن سببها الحقيقي هو مجرد منطلقات حقوقية محدودة في ظل دستور رفع من مستوى الحقوق والحريات.إن التمثلات الاجتماعية السلبية المتعلقة بالقضاء لدى العديد من المواطنين والمتقاضين ليست من نتاج الخيال، وإنما ترتكز على أسس منبعها الحياة اليومية والتجارب مع فاعلي العدالة،وربما يكون من أسباب هذه التمثلات الاجتماعية صعوبة الولوج إلى المنتوج القضائي، وصعوبة تحديد جودة الحكم من عدمه، وهو أمر يصعب على المواطن المثقف غير المتخصص في العلم القانونية و بالأحرى المواطن العادي. فالقضاء بالنسبة إلى المتقاضي متهم بالقصور وعدم الاكتراث لحقوقه وصيانتها، وهنا مناط أحقية المتقاضي في الاطلاع على الأحكام القضائية، ومناط أحقيته في معرفة رأي المجتمع المدني في جودة هذه الأحكام مادام أنه (المجتمع المدني) هو الذي مثل المتقاضين ضمن الحوار الوطني، وهو الذي يشكل أساس تفعيل المقاربة التشاركية في رصد الاختلالات واقتراح البدائل والحلول باعتماد المعايير والمؤشرات الأساسية لقياس جودة العمل القضائي .وتبعا لهذا فمن منطلق المعايير الأخلاقية، لا يمكن إلا أن نتفق مع من يرفض التربص بالقضاة، والتطاول على المؤسسة القضائية.لكن أيضا من المنطلق الحقوقي لا يمكن لأحد أن يعدم روح الدستور الذي صوت عليه الملك والعديد من الموطنين، دستور أعطى الحق للمواطنين في الولوج إلى المعلومة القانونية والقضائية، وهو حق لا يمكن تقييده إلا بمقتضى القانون، لا بمقتضى أوامر، أو بمقتضى أفكار قيدت نفسها مسبقا بتعطيل الحق في المعلومة بمسببات بعيدة عن التأطير القانوني.ذهب الدكتور محمد الأعرج إلى أن «الانتقال بالحق في الولوج إلى المعلومة كيفما كان نوعها من مبدأ إلى ممارسة مجتمعية، يمر عبر تغيير عميق لثقافة المرفق العام، مما يتيح للإدارة إمكانية تحسين مستوى أدائها و إعادة بناء الثقة مع المواطن بغاية تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وتغيير الطريقة التي ينظر بها المواطن إلى الإدارة وتنظر بها الإدارة إلى المواطن، إلا أن ذلك يبقى رهينا بقدرة المشرع على وضع الإجراءات المصاحبة لتفعيل ودعم الحق في الحصول على المعلومة والتعريف بمداه لدى المواطنين وتنظيم طرق الطعن عند عرقلة ممارسته «.فهذا التوجه نفسه، ينطبق على منتوج السلطة القضائية التي تصدر أحكاما تصبح في ملك العموم بمجرد النطق بها، ونشرها يعتبر من الحقوق العامة، ومن الآليات الفعالة للمراقبة الشعبية الجدية على العمل القضائي، مادام أنه عمل بشري غير معصوم من الخطأ ويخضع للنقد والمناقشة.متفقون على أنه لا يجوز بأي حال أن يتضمن التعليق على أحكام السلطة القضائية، الطعن في نزاهة القضاء أو استقلاله أو نزاهة القضاة واستقلالهم والمس بشخصهم، فهذه جريمة يعاقب عليها القانون وغير مقبولة أخلاقيا، لما يترتب عليها من إضرار ومخاطر في إسقاط هيبة القضاء في النفوس، والتحريض على عدم الامتثال لأحكامه، مما يؤدي بالناس إلى الفوضى و اختلال الأمن. لكننا مقتنعون بأن هذا كله لا يصح إلا بـ :1 - تكريس استقلال فعلي وحقيقي لسلطة قضائية محمية من أي تدخل أو ضغط أو تأثير غير مشروع.2 - تنزيل حقيقي لروح الفصل 27 من الدستور المتعلق بالحق في الولوج إلى المعلومة.متفقون على أن للبلاد تاريخا قضائيا صنعه رجالها وملوكها ومؤسساتها، لكننا مقتنعون بضرورة مواجهة واقع ممدود عن طريق الاستغناء عن الفكر المحدود لضمان استمرارية سيرورة تاريخ بلادنا بسلبياته وإيجابيته، قصد تغليب الإيجابيات على السلبيات، ولن يكون ذلك إلا بفكر منفتح يستوعب عن حق معنى سياسية التنمية البشرية التي تستهدف الإصلاح العام للمجتمع بجميع مكوناته وفي جميع تفاصيله، قصد الوصول إلى مستقبل يستفيد من عملية تغيير المجتمع وتحديثه، ودمقرطته، وبناء دولة الحق والقانون التي تعتبر وفقا لكلمة الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء سنة 2002 خيارا إستراتيجيا لا رجعه فيه، ودعم القضاء في مساهمته الفعالة والحاسمة في مواجهة التحديات المصيرية لن يكون إلا باعتماد المقاربة التشاركية لا بتكريس الفكر المحدود والإقصائي. بقلم: نبيل محمد بوحميدي ,باحث في العلوم القانونية والشؤون القضائية

دراسة في القانون : نشر الأحكام القضائية بين الواقع والفكر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

شكاية ضد عصابة بالبيضاء تكلف مالك مقهى السجن

الخلفي يقيل الصايل من المركز السينمائي

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات