رجال ونساء وأطفال يموتون بالعشرات في آبار الفحم أو بسبب الأمراض لا تتوقف حوادث موت الرجال والنساء والقاصرين في جرادة، فبمجرد نسيان فاجعة تطفو أخرى جديدة، دون أن تتدخل أي جهة لإيقاف النزيف، ودون وضع إجراءات سلامة لحماية العمال المعترف بهم أو الذين يعملون سرا في الآبار بحثا عن قوت يومهم من الفحم... إنجاز: محمد المرابطي (وجدة) - تصوير: عبد المجيد بزيوات جرادة مدينة فقيرة تقع على بعد كيلومترات من الحدود الجزائرية شرق المغرب، تستيقظ وتنام على مناجم الفحم الحجري، تقفز بين الحين والآخر إلى واجهة الأحداث كلما ودعت ضحايا جددا للآبار المنجمية المعروفة ب"الساندريات". تعددت الأسباب والموت واحد ليس في هذه المدينة أي مورد آخر للعيش لطبيعة شروط ولادتها مدينة منجمية، بدأت مشاكلها لما قررت السلطات المعنية بموضوع المعادن إقفال المناجم قبل عقدين ونصف من الزمن عندما غادرتها شركة "مفاحم المغرب"، مما ترك سكانها بلا مورد أو عمل أو مستقبل. على ارتفاع 1200 متر يعمل السكان اليوم بشكل غير شرعي في هذه المناجم، في ظروف عمل قاسية وخطيرة مقابل سبعين درهما تقريبا للقنطار الواحد المستخرج من هذه "الساندريات". أسباب الموت كثيرة في أعماق هذه "الساندريات"، لا تقتصر فقط على الاختناق بالغاز، بل غالبا ما تفيض الفرشة المائية الموجودة بكثرة في الجبال المحاذية لجرادة على العمال الذين يعملون على أعماق قد تتجاوز الثلاثين مترا، يواجهون في مرات عديدة انهيارات مفاجئة للتربة المعدنية الهشة أصلا في هذه الآبار التي حفرها العمال، بدلا من أنفاق مناجم شركة مفاحم جرادة التي أغلقت نهائيا مع مجيء 2001، ويتجاوز عدد هذه الآبار الـثلاث آلاف بئر، ما بين النشيطة أو المتخلى عنها، وتتناسل يوما بعد يوم، ينشط بها بشكل مسترسل ومتواصل عمال من كل الفئات والأعمار. الفحم مهنة الجميع في المآسي عادة لا تنفع المقارنات. فمأساة العاملين في "الساندريات" واحدة ولا تختلف كثيرا في تفاصيلها، فهنا أيضا تعاني عشرات النساء والقاصرين في صمت، ولا أحد يذكر سيرة عشرات النساء اللواتي يشتغلن في الغربلة وشحن الأكياس. للقاصرين حظهم من المأساة، فحسب المعطيات المتوفرة، فإن العشرات من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الخمس عشرة سنة يعملون هم أيضا في "الساندريات" لتوفير مصاريف عائلاتهم، لأن الكل هنا يعيش بالفحم، الأطفال والنساء والرجال، غير أن سنوات الألفيات دفعت القليلين ممن حالفهم الحظ إلى الهجرة إلى اسبانيا، بيد أن الأزمة التي استبدت بالجار الأيبيري جعلت المدينة تتحول إلى مقاطعة إسبانية صغيرة، لا وجود فيها إلا لسيارات تحمل الترقيم الإسباني. الأزمة الاقتصادية بالجارة الشمالية ضربت أيضا جرادة ، ودفعت الكثير من شبابها إلى العودة إلى المدينة وممارسة أنشطة تجارية أخرى تقيهم الحاجة . الدولة ..."العين بصيرة واليد قصيرة" تبدو الدولة إلى حد ما مدركة لحجم التوترات الاجتماعية التي من الممكن أن تشتعل بالمدينة إذا تم إيقاف "الساندريات"، وتدرك جيدا أن التنمية المستدامة التي وعدت بها سابقا خلال تصفية النشاط المنجمي الرسمي، ذهبت ولم يتحقق منها شيء. ما لا تقدره الدولة أو بصيغة أخرى ما لا تقدر خسائره، هو سماحها بالاستفادة من المحيط البيئي للمدينة وتدميرها تدريجيا، مقابل امتصاص حالة البطالة على ما يبدو، لأن إغلاق المناجم شكل صدمة قوية لم يستوعبها السكان إلى حدود اللحظة، فالدولة بعد أن استنزفت كل شيء غادرت المنطقة ولم تفكر يوما في إيجاد بدائل تنموية أخرى. الموت بـ"السيليكوز" وكما يقال ، فمن لم يمت في الآبار مات ب"المرض المهني" كما يسميه الأطباء الذين أشرفوا على علاج مرضى جرادة لسنوات، وهم يعدون أرقام الذين يحصدهم الموت بسبب "السيليكوز" المخيفة جدا، ولا غرابة أن يستحضر مسؤول طبي ل"الصباح" واقعة حدثت في العشريات الماضية، حين اتصل مسؤولون كبار بوزارة الصحة بالسلطات الصحية بجرادة للتأكد من الأرقام التي أرسلت لهم حينها، إذ لم يصدقوا أن "السيليكوز" يقتل 50 شخصا سنويا، ولم يصدقوا كذلك أن عدد الذين يخضعون للعلاج يتجاوز 6000 شخص، ناهيك عن الحالات التي كانت حينها لا تتوفر على بطائق تسمح لها بالعلاج، إذ هناك العشرات من الضحايا الذين لم يحصلوا على بطائق بمقرر قضائي، لأن أعراض المرض لم تظهر عليهم إلا في سنوات لاحقة إثر تصفية شركة "مفاحم المغرب"، كما ذكر المصدر الطبي وهو يستحضر وقائع لاتزال تحمل راهنيتها بشكل آخر. شركات استغلال لا "غبار"عليها تفيد معطيات الاستغلال أن بضع شركات، تشتغل في إطار قانوني، هي التي تتوفر على ترخيص من الوزارة الوصية، وغيرها لا أحد يمتلك رخصة استخراج وتسويق الفحم، كما تفيد المعطيات التي حصلت عليها "الصباح" أنه بالإضافة إلى هذه الشركات، هناك عشرات" الجهات " غير المرخص لها تشتغل في السوق السوداء، وبعضها في شكل تعاونيات استحدثت، أخيرا، تعمل بدورها على شراء حصص كبيرة من كميات الفحم وتتوفر على مخازن بالمنطقة، حيث يتم تسويق الفحم على المستوى الوطني. هذا التسويق الشبكي يكشف بعض الخيوط المتشابكة في موضوع الاستغلال والرقابة المفترض وجودها على أطراف الإنتاج والتسويق، إذ لا يمكن أن نقفز على ملاحظة أساسية وهي أنه رغم توفر بضع شركات على ترخيصات من الوزارة الوصية، فإن مصادر "الصباح" ترى أن تلك الشركات المرخص لها تعمل على فرض نوع من الاحتكار على استخراج وتسويق الفحم ، بدليل أنها هي الوحيدة التي "استطاعت أن تحصل على الترخيصات بسبب علاقاتها المتشعبة بالسلطة ومع أصحاب مراكز القرار"، كما عبر المصدر، مما يجعل علاقة الإنتاج قانونية ولا "غبار"عليها.