لا نحترم ذاكرتنا ومبدعينا

الموسيقار عبد الوهاب الدكالي قال إنه كتب مذكراته راويا لا أديبا أفرج الموسيقار عبد الوهاب الدكالي، أخيرا، عن الجزء الأول من مذكراته التي اختار لها عنوان "شي من"حياتي... ثلاثية الحب والفن» عن منشورات دار التوحيدي. والذي يحكي فيه عن جوانب من مساره الفني والشخصي وطفولته بفاس. عن هذه المذكرات وعن علاقته بالكتابة والأدب ورموزه، يتحدث صاحب «مولد القمر» في هذا الحوار الذي خص به «الصباح». في ما يلي تفاصيله. أجرى الحوار: عزيز المجدوب ـ تصوير (فدوى الناصر) < راودتني هذه الفكرة خلال رحلة عودتي من مصر، أواسط الستينات، بعد أن قضيت فيها أزيد من ثلاث سنوات، كانت من أخصب السنوات في مساري واستفدت منها كثيرا على المستوى الشخصي والفني. واخترت العودة على متن باخرة، لتستغرق الرحلة حوالي تسعة أيام، جعلتني أعيش حالة من الضجر والملل انضافت إلى حالة الحزن الشديد التي كنت أعيشها بعد أن فارقت مصر والقاهرة دون أن أودع أحدا، تفاديا للألم الذي تخلفه لحظة الوداع. المهم أنني وجدت نفسي في رحلة العودة محاطا بالبحر من كل جانب، حتى الأحاديث والوجوه التي قابلتها على متن الباخرة، استنفدت معها كل الأحاديث، لأجد نفسي أعيش وحدة قاتلة وضجرا، لم أجد سبيلا إلى تبديدهما سوى بالتسلي بالكتابة وتسطير أشياء على الورق تدخل في باب المذكرات واسترجاع ذكريات الطفولة. < استرجعت تفاصيل من طفولتي، خاصة أنني كنت قريب العهد بها، إذ كنت شابا في العشرينات آنذاك، وما زالت صور ومشاهد الطفولة حاضرة بقوة، بكل شقاوتها وبراءتها وأفراحها وجروحها، بل وجدت نفسي أخوض تمرينا في الكتابة والتدوين ومحاولة الإمساك ببعض التفاصيل حتى لا تنفلت من الذاكرة، وتصير عصية على الاسترجاع بعد مرور الزمن، وهكذا ولدت فكرة هذه المذكرات، وولدت معها علاقة خاصة لدي مع الكتابة والتدوين والتوثيق منذ هذه الرحلة. < نعم، بل وصرت مداوما على تحرير مذكراتي ويومياتي في كل مرة أشعر فيها بالرغبة في ذلك، وفي أماكن مختلفة سواء ببيت العائلة بفاس حيث يتفجر نبع الذكريات كلما اجتزت عتبة بيتنا القديم ب»عقيبة بن سوال» بالمدينة العتيقة، أو بطنجة أو فرنسا وسويسرا حيث أذكر أنني مكثت في ضيافة صديق، أياما، وسط الطبيعة الخلابة والجبال الشاهقة، أسود صفحات من ذكرياتي، وكنت أعود لما أكتب وأعيد الاشتغال عليه كما هو الشأن بالنسبة إلى بروفات أعمالي وألحاني، واستشير في الصياغة أصدقاء مقربين، لأن الكمال لله وحده، فأنا في النهاية لست أديبا، بل راويا فقط. < لا أخفيك أن أول وأكثر كتاب تأثرت به هو «ألف ليلة وليلة» بالدرجة الأولى، فقد قرأته مرات عديدة وفي نسخ وطبعات وترجمات مختلفة، إذ أحرص على العودة إليه باستمرار والاستغراق في عوالمه السردية التي تجمع بين الخيال والواقع والقصص الغرائبية، التي تشعر أنها ليست مقصورة على فئة عمرية معينة بل يمكن أن تعود إليها دون أن تشعر أن الزمن قد تجاوزها، إذ يظل هذا النص استثنائيا وذا بعد إنساني وكوني، ولا أنسى أبدا نصوصا أخرى تأثرت بها مثل كتابات الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي وعباس محمود العقاد وطه حسين والطيب صالح، الذي تعرفت عليه في ما بعد،وأسماء أخرى لاحقا مثل الطاهر بن جلون وفاطمة المرنيسي وياسمينة خضرا، فضلا عن مطالعات أخرى باللغة الفرنسية، التي كنت مولعا بترجمة ونقل المعاني منها إلى اللغة العربية. < كثيرون على رأسهم عباس محمود العقاد ونجيب محفوظ وعبد الرحمن صدقي، فضلا عن أسماء صحافية كنت مهووسا بكتاباتها مثل أنيس منصور وكمال الملاخ وجليل البنداري وكامل الشناوي ومحمد حسين هيكل، دون نسيان الشعراء الكبار بينهم أحمد رامي وصالح جودت وعبد الوهاب محمد وحسين السيد ومرسي جميل عزيز دون الحديث عن الفنانين ورموز الموسيقى والغناء مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهم ممن جمعتني معهم علاقة خاصة، لدرجة أنني ما زلت أتساءل هل فعلا كنت مع هؤلاء أم أنني كنت أحلم فقط؟ "شيء من حياتي" < أستحضر في هذا السياق قولة لتولستوي مفادها «أجمل شيء في الحياة هو أن يكتب الإنسان قصة حياته»، ورغم أنني كتبت المذكرات بشكل ذاتي، إلا أنني راجعتها مع بعض الأصدقاء، علما أن عملية التذكر الذاتي صعبة ولو أنني كنت أحتفظ بقصاصات ومسودات ليومياتي وخواطري، إلا أن عملية التنقيح متعبة، فضلا أن التذكر دون تفاعل مع الآخر بتقنية المحاورة وسؤال جواب، يجعل هذه العملية شاقة، وقد أضيف أجزاء أخرى على الأجزاء الثلاثة المقررة، لأتدارك ما فاتني تذكره إذا لزم الأمر. < حرصت على أن أظل صادقا مع نفسي، لكن من المؤكد أنني لم أقل كل شيء لأنني لم أتذكر كل شيء، لهذا أسميت هذه المذكرات «شيء من حياتي»، وفيها محاولة لتوثيق محطات وذكريات عشتها، بنظرة الفنان، وليس بنظرة الأديب والكاتب، فالإنسان الذي يسكنه الفن، من الطبيعي جدا أن يطرق أبوابا مختلفة منه، فالفن واحد لكن له صور متعددة، فليس عيبا أن تجرب نفسك في أكثر من مجال إبداعي دون أن تجيد بالضرورة على الدرجة نفسها، وأعتقد أن الاسم الاستثنائي في التاريخ الذي استطاع أن يجمع المهارة في مجالات إبداعية مختلفة على القدر نفسه من المهارة والتوازن هو شارلي شابلن، الذي يعد فنانا شاملا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو أحد الأساتذة الثلاثة الذين يلهمونني في الفن إلى جانب الموسيقار محمد عبد الوهاب وبتهوفن. < مثلا في أغنية «مولد القمر» تجد أرواحهم حاضرة في ألحان هذا العمل ومقدمته الموسيقية، فقد استلهمت مقطعا من رائعة «نشيد الفرح» لبتهوفن أعدت توظيفه بطريقتي الخاصة، بشكل يجعلك تشعر بروح هذا الفنان نابعة من هذا المقطع. عبد الوهاب أرسل لي "من غير ليه" لأغنيها < ربطتني علاقة خاصة بأنيس منصور الذي كان كاتبا مميزا يجمع بين الأسلوب الأدبي والعمق الفلسفي، ومسحة خاصة من السخرية والنقد اللاذع، كما كان مقربا من الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر الذين كانوا يستشيرونه في أمور كثيرة، وأذكر أنه زار المغرب، ذات مرة في الثمانينات، واتصل بي من فندق «رويال منصور» بالبيضاء، ليخبرني بأنه يحمل لي أمانة من الموسيقار محمد عبد الوهاب، فاكتشفت أنها عبارة عن شريط يحمل تسجيلا لرائعة «من غير ليه»، ومعها رسالة مفادها أنه إذا أردت أن أعيد غناءها فلا مشكل لدى صاحبها، وهكذا كتب لي أن أستمع لهذه الرائعة الغنائية قبل أن تشتهر بين الناس. < غنيتها في مناسبات عديدة، بل قدمت مقاطع منها ليلة تتويجي بالجائزة الكبرى لمهرجان الأغنية العربية بالقاهرة خلال التسعينات، تكريما لروح الموسيقار عبد الوهاب، ولم أسجلها على شريط خاص لأني لا أحبذ التقليد. الصديقي عبقري لم ينل حقه << وضعت أخيرا الموسيقى التصويرية لمسرحية «موليير.. أو حبا في الإنسانية» للراحل الطيب الصديقي.. ما سر ذلك؟ < هذه المشاركة جاءت اعترافا بإسهام واحد من عباقرة هذا البلد لم ينل حقه، وهو المرحوم الطيب الصديقي الذي جمعتني به صداقة وطيدة، وكذلك أعمال مشتركة، منها ملحمة «المولى إدريس» خلال السبعينات، إذ أنجزت الألحان والموسيقى الخاصة بها، وعزفتها أوركسترا مكونة من 120 عازفا مغاربة وأوربيين، عندما تواصلت مع نجله أخيرا اكتشفت أنه تم اختيار اسم الطيب الصديقي ليكون حاضرا ضمن احتفالية عالمية لموليير بفرساي، من خلال مسرحيته «موليير أو حبا في الإنسانية» التي سبق أن قدمها في التسعينات، وعندما أعدت قراءة النص وجدت إبداعا لا متناهيا في تملّك الصديقي لناصية الكتابة عن شخصية مثل موليير وتحدى الفرنسيين بلغة فرنسية تمتح من لغة عتيقة قبل أزيد من أربعة قرون، فضلا عن الوجه الشعري للصديقي وهو يصوغ مقاطع هذا النص العظيم، الذي كان لي الشرف أن أساهم فيه بالموسيقى ليمثل المغرب في هذه الاحتفالية. أنا مدمن على "من أجل عينيك" < أكيد لا يمكن أن أقطع صلتي بالاستماع للموسيقى لأن هذا جزء من حياتي، ويشكل لي لحظة تطهير وصفاء روحي وذهني، ولا أخفيك أن هناك أغنية لا أكاد أمل من الاستماع إليها، بل صرت مدمنا على ذلك قبل الخلود إلى النوم، وهي رائعة «من أجل عينيك» التي لحنها الموسيقار رياض السنباطي للراحلة أم كلثوم، وانتبه إلى عبقرية هذا الرجل في فهم وسبر أغوار وأسرار حنجرة كوكب الشرق التي سايرها عقودا من الزمن وأبدع لها أروع الألحان على المقاس، بل واستخرج منها أحلى ما فيها من نقط قوة ومجد وخلود. < فعلا معك حق، فهذه المذكرات استكمال لمشروع «المتحف الخاص» الذي سيفتتح قريبا، بعد أن تأجل ذلك بسبب جائحة كورونا، ويضم لوحاتي الفنية إضافة إلى هدايا تلقيتها في فترات سابقة، منها آلة عود للموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، فضلا عن صور ومخطوطات نادرة، لشخصيات قابلتها في مساري الفني، إضافة إلى الجوائز والميداليات والتذكارات وأشياء أخرى عديدة، فضلا عن مشروع آخر عبارة عن كتاب يضم مختلف المقالات والحوارات التي كتبت عني في الصحافة بعنوان «أنا والصحافة»، فضلا عن ترجمات المذكرات إلى اللغات الفرنسية والانجليزية والصينية، وأشياء أخرى أطمح لأن أتركها لجمهوري وعشاقي وأصدقائي وعائلتي، لأنهم هم الذين جعلوا مني ما أنا عليه. < هذا الذي يفترض أن يكون في دولة تحترم ذاكرتها ومبدعيها، لكن الواقع شيء آخر، أشعر بالرغبة في الانفجار وقول أشياء كثيرة ومؤلمة قد تصدم القارئ لذا أفضل أن لا أقول المزيد، وأكتفي بالإشارة إلى أسماء كثيرة أعطت لهذا البلد لكنها رحلت في ظروف مأساوية دون أن تحفظ ذاكرتها، مثلا الراحل العربي بنمبارك هل هناك أعظم من لمس الكرة مثله في المغرب أو خارجه، فقد رحل وحيدا هنا قريبا مني بحي بنجدية، دون أن يكتشف أحد الأمر إلا بعد مرور خمسة أيام على وفاته، وقس على ذلك كثيرا من الأسماء التي تستحق أن تكتب أسماؤها بالذهب في تاريخ المغرب، لذلك فهذه المبادرة مني جاءت بعد أن شعرت أنه لا يمكن لأحد أن يهتم بتوثيق تجربتك مثل نفسك، رفقة الأحبة والأصدقاء والعشاق الذين يهتمون بهذه التجربة. في سطور ـ من مواليد 1941 بفاس. 1985: الجائزة الكبرى خلال الدورة الأولى لمهرجان لالاغنية المغربية بالمحمدية. 1991: انتخب شخصية العام العربي من قبل هيأة الإذاعة البريطانية في لندن. 1993: الجائزة الكبرى خلال الدورة الثانية لمهرجان المغرب الدولي بمراكش. 1995: جائزة مدينة أتلانتيك سيتي الفخرية. 1996: حصل على لقب أفضل مبدع موسيقي من لجنة تحكيم مهرجان القاهرة الدولي للأغاني. 2001: حصل على اللقب الفخري لعميد الأغنية المغربية بمناسبة تقديم رباب أور. 2004: نال الجائزة الذهبية للفنون والحرف من وزير الثقافة والاتصال الفرنسي جان جاك إيلاجون. 2004: حصل على جائزة الاستحقاق الذهبية من يوحنا بولس الثاني. 2004: حصل على الميدالية الذهبية من الاستحقاق والتفاني الفرنسي. 2005: حصل من بنديكتوس السادس عشر على ميدالية ذهبية. 2006: الجائزة الفرنسية الكبرى للإنسانية. 2008: تسلم مفتاحا رمزيا لمدينة فاس في مهرجان للموسيقى العالمية العريقة. 2011: حصل على دكتوراه فخرية من بندكتس السادس عشر. 2013: حصل على وسام المكافأة الوطنية من درجة قائد، وتم تكريمه من طرف الفاتيكان في مناسبتين.

لا نحترم ذاكرتنا ومبدعينا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"تسهيلات" للإفلات من الضرائب

احتفالية خاصة بالمريني في أكادير

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات