نافذة الشارقة على خليج عمان تستعيد بهاء الماضي وعراقته تشكل مدينة خورفكان التابعة لإمارة الشارقة، وجها أصيلا لمظاهر الحياة ونمط العيش لجزء من الشعب الإماراتي الذي ما زال حريصا على الاحتفاظ بملامح الماضي الجميل واستمراره. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" في جولة عبر أرجاء هذه المدينة المميزة بتاريخها وتضاريسها المفتوحة على نسائم البحر، وعبق التاريخ والأصالة. إنجاز: عزيز المجدوب (موفد "الصباح" إلى الشارقة) ما إن تضع قدميك على أرض دبي وتجتاز عتبة المطار، حتى تلفحك بحرارتها، ويتسرب دفء الجو خلال الساعات الأولى من الصباح عبر حواسك وينفذ إلى مسامك، معلنا عن مرحلة الانتقال إلى جو الخليج. عبر المسافة الممتدة من دبي إلى إمارة الشارقة والتي لا تتجاوز عشرين دقيقة، تتبدى مظاهر الحداثة والعصرنة التي تسيدت الإمارتين معا، ومنظر العمارات وناطحات السحاب التي نبتت مع الطفرة البترولية التي عرفتها المنطقة في العقود الأخيرة، والتي أفرزت قيما جديدة في السلوك والعلاقات الاجتماعية والمالية، انتقلت بهذا المجتمع بقيمه المحافظة إلى الحضارة في بعدها الخدماتي الاستهلاكي دون التفريط في قيم الخيمة والعشيرة. هذا التمسك بقيم الخيمة والعشيرة، وأيضا مختلف مظاهر الحياة الأصلية التي كانت سائدة في المنطقة قبل قيام دولة الإمارات العربية المتحدة منذ أزيد من نصف قرن، هو الوجه الآخر الثاوي خلف قشرة المظهر العمراني الحديث، الذي ساهمت ثورة النفط في تسريع وتيرته، لتمنح بعدا آخر لهذا البلد تتخلله التجارة والخدمات الفندقية والسياحية، مع ما يرافقها من سمسرة واستهلاك وصفقات ورغبة حثيثة في اللحاق بالعصر. اهتمام بالثقافة وتمسك بالأصالة ظلت إمارة الشارقة متفردة باهتمامها بالثقافة والفنون بكل أشكالها، وهو الأمر الذي يعكس اختيارا استراتيجيا وشخصيا لحاكمها الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، إذ نذرت هذه الإمارة نفسها لخدمة الثقافة منذ حوالي نصف قرن، وهو ما أفرز تراكما كميا ونوعيا من حيث الأنشطة والتظاهرات والمعالم الثقافية التي كرست جهودها لتحقيق إشعاع إبداعي ومعرفي، وتوزعت بين مهرجانات وملتقيات خاصة بالكتاب أو المسرح أو الشعر وغيرها. بالموازاة مع الاهتمام بالثقافة هناك حرص رسمي على التمسك بجذور مظاهر الحياة والثقافة الإماراتية التي كادت تندثر خلف مظاهر التحديث والعصرنة العمرانية، من خلال مجموعة من المشاريع التي احتضنتها مناطق تابعة لإمارة الشارقة، تختزن في طياتها تاريخا عريقا يعكس روح الحياة التي يكاد المرء يعتقد أنها كانت مفتقدة بفعل قساوة المناخ والبيئة الصحراوية والتي لم تزدها مظاهر الحياة العصرية إلا اغترابا، إذ اتضح أن هناك مناطق بالإمارة ما زالت تحمل ملامح الأصالة ووجهها الصامد. مزاج بحري وبنايات واطئة في الوقت الذي تولي فيه إمارة الشارقة وجهها غربا على ساحل الخليج العربي، يممت مدينة خورفكان التابعة لها وجهها شطر الشرق المطل على خليج عمان. هذه المدينة النائمة في حضن سفوح الجبال المحيطة بها. جبال من الصخر الصلد قُدّت منه الطرقات التي شقت في اتجاهها عبر المسافة التي تفصل بينها وبين الشارقة والتي تصل إلى 135 كليومترا. تجعلك المسافة التي تفصل بين الشارقة وخورفكان، تكتشف تنوع التضاريس التي تتراوح ما بين البيئة الصحراوية الممتدة بكثبانها الرملية الساحرة، لتجتاز بعد ذلك السيارة طرقا جبلية تبدو مفاجئة لمن يزور المنطقة لأول مرة، أو يعتاد فقط على التضاريس المحيطة بمدن الإمارات المطلة على الساحل الغربي، لتطالعه الجبال الصخرية الشاهقة التي تنتهي بسفح مطل على البحر تتوسطه خورفكان ببناياتها الواطئة القديمة منها والحديثة. ما يثير انتباه الوافد على المدينة هو كثرة الحصون والأبراج الأثرية المنتصبة في قمم الجبال المحيطة بالمدينة، بعضها اندثر بشكل نهائي ولم تبق منه سوى أطلال بالية، والبعض الآخر جرى ترميمه وإنقاذه وإعادة الحياة إليه ليظل شاهدا على مراحل من تاريخ المنطقة والمدينة التي ظلت محط أطماع وتحرشات الغزاة، منهم البرتغاليون في القرن السادس عشر والفرس وغيرهم من الحضارات المجاورة، الذين أغراهم موقعها الإستراتيجي الذي جعلها واحدة من أهم بوابات الإمارات على خليج عمان ثم بحر العرب والمحيط الهندي، باحتضانها واحدا من أهم الموانئ الذي شكل نقطة ربط بين بلدان شبه القارة الهندية وإفريقيا ودول الخليج حاليا. أول شيء يثير انتباه الزائر لمدينة خورفكان هو اختلاف طابعها المعماري عن بقية مدن الإمارات، إذ تخلو من ناطحات السحاب وتمتاز ببناياتها الأنيقة ومزاجها البحري، الذي ينعكس على جل مظاهر الحياة فيها. إنها "خورفكان" التي اشتهرت أيضا من خلال المسلسل السوري "هناء وجميل" الذي كان يبث نهاية التسعينات، وكانت بطلته "أم محمود" (جسدت دوره الممثلة سامية الجزائري) تردد عبارة "خورفكان" التي هاجر إليها ابنها وهي تنتظره وتنتظر رسائله، لدرجة التبس على الكثير من المتتبعين للمسلسل ما إذا كانت هناك فعلا مدينة فعلا تحمل هذا الاسم، أم هي مجرد مزحة ومحض خيال هذه الشخصية الساخرة. كما تشتهر المدينة بمعالمها السياحية التي تختزن عمقا تاريخيا أعيد له البريق خلال السنوات الأخيرة عبر مشاريع ترميم وإعادة تهيئة، تحركها الرغبة في تقديم نموذج حضاري لما كانت عليه بعض مناطق الإمارات قبل الطفرة البترولية، وتقريب الأجيال الحالية من نمط عيش المواطن الإماراتي في بيئته الأصلية، قبل أن يلحقها التغير والتطور الذي هو من سنن الحياة والطبيعة البشرية. شيص.. سحر بعيد عن الصخب ومن أبرز معالم خورفكان هناك حديقة شيص. ومن أبزر مُميزات منتزه حديقة وادي شيص خورفكان هي المعالم الطبيعية المحيطة بها حيث تقع بين أحضان الجبال الشاهقة حيث الهواء المنعش والنقي بعيدا عن صخب المدينة. تحتوي حديقه شيص خورفكان على ممرات جبلية بها شرفات موصولة بسلالم حجرية مؤدية إلى منصة المشاهدة على ارتفاع يصل إلى 30 مترا من مستوى المنتزه، إذ تتيح لك المنصة تجربة فريدة من نوعها لمشاهدة المعالم الطبيعية للمنطقة من ارتفاعات كبيرة وبطريقة آمنة. كما توجد بالحديقة منطقة العاب خاصة للأطفال فضلا عن فضاء مخصص للعائلات، يسع ما يفوق 32 جلسة عائلية مظللة تحيط بها المناظر الطبيعية من كل مكان. وتعتبر حديقه شيص وجهة خاصة لمحبي الأجواء الشتوية الجميلة ونزهات الشواء بسبب أن المنتزه يتوفر على مكان خاص للشواء معد ومجهز بمعايير عالية للحفاظ على السلامة، وتوجد بها بحيرة صغيرة مع شلال يمكن الزوار من الاستمتاع بمشاهدة تدفق الماء. "سوق شرق"... روح الشرق القديمة يشكل هذا السوق القريب من ميناء خورفكان نواة المدينة الصامدة، التي ظلت تحكي عبر العقود تركز مظاهر العيش والتفاعل الاجتماعي بين مكونات سكان المدينة التي ظلت مفتوحة على التجارة والأنشطة البحرية ومرور العابرين منها. استعاد هذا السوق روحه من جديد بفضل مشروع ترميمه الذي انتهت به الأشغال قبل أقل من سنتين، ليفتح أبوابه من جديد أمام الزوار بحلة تضعهم في قلب العراقة والعتاقة. تشعر وأنت داخل إلى السوق من الباحة التي أعيد تسقيفها بالطريقة التقليدية بالأخشاب وسعف النخيل والقصب، وكأنك في قلب مدينة شرقية من عصر الخلافة الأموية أو العباسية. المحلات التجارية والمقاهي ظلت محافظة على أبوابها الخشبية العتيقة، ورائحة العود والأبخرة المعطرة تقتحم عليك حاسة الشم بلطف وتؤدة. أول ما يطالعك في الباحة الرئيسة هو مقطع شعري يقول "يا حادي الركب طول السير أضناني/ قف بي تمهل فهذي خورفكان.. مدينة السحر قد طاف الجمـال بها/ وماؤها العذب يروي كل ظمآن..." كتب على باب مقهى اتخذت لنفسها شكل المقاهي العريقة باسم "مقهى البندر" تقدم مشروبات محلية مثل القهوة والشاي المعدين على الطريقة الإماراتية، فضلا عن مطاعم تتفنن في تقديم وجبات السمك والفواكه البحرية بلمسة لا تخلو من تمرس في إعداد هذه النوعية من الوجبات بمدينة صنعت تاريخها على ساحل البحر وبين أحضان الجبال. في ركن من الساحة الفسيحة المسقوفة يمتد ممر مسقوف هو الآخر يضم سلسلة محلات تشكل متحفا مفتوحا على الماضي الجميل حين كانت الحرف والمهن في طبيعتها الأولى، وتعتمد بشكل رئيسي على المهارات اليدوية ونمط العيش البسيط الذي كان يميز المنطقة والمدينة. محلات ممتدة على يسار الممر تضم أنشطة مختلفة كانت "خورفكان" مسرحا لها، مثل البقالة والخياطة والمحسّن (أي الحلاق) وبيع الحلوى والطب الشعبي وغيرها من الحرف المندثرة إذ تشكل المحلات متحفا يخلد الأدوات القديمة التي كانت تستعمل في هذه الحرف، بل أيضا مظاهر الحياة الموازية داخلها، مثل أجهزة الراديو القديمة التي كانت تؤنس العاملين والحرفيين والديكورات التي تؤثث محلاتهم. ومن أشهر المهن والحرف التي تميز خورفكان هناك صيد السمك الذي كانت تستخدم فيه أدوات متعددة منها القوارب التي تحمل تسميات محلية مثل "البتّيل" و"الجالبوت" و"الشاحوف" و"الشوش" وهو قارب صغير مصنوع من جريد النخل ومحشو بمواد أخرى. كما تطلق على معدات الصيد من خيوط وصنانير وملحقاتها أسماء مثل "الميادير" والروس والمعاضي والشباك والألياخ واللفاح والتشخيط والضغوة والسالية والمشادة. واشتهر سكان خورفكان أيضا بمهنة الغوص لاستخراج اللؤلؤ، إلا أن هذه التجارة سرعان ما بدأت في الانهيار بسبب ظهور مزارع اللؤلؤ وارتفاع أسعار اللؤلؤ الطبيعي وانتشار الصناعي منه، فضلا عن حرفة "القلافة" أو "الجلافة"، حسب النطق المحلي، التي تتم فيها صناعة السفن والقوارب وصيانتها، باستعمــــــــــال أدوات يدوية، وكانت تعتمد على الخشب المستورد من الدول المجاورة مثل الهند، أو أخشاب محلية. وإلى جانب تلك المحلات التي تعرض جوانب من نمط العيش القديم الذي كان سائدا في خورفكان، فهناك ورشات موازية لتعليم هذه الحرف للأجيال الجديدة، بما يضمن استمرارها، ويعكس تمسكا بروح الماضي الذي لا يمكن لكل مظاهر العصرنة أن تجثته من وجدان الأمم والشعوب.