تراث وطني احتضن مختلف التظاهرات والرياضات على مر عقود من لا يعرف تاريخ "الفيلودروم" بمنطقة أنفا بالبيضاء، سيحسبه اليوم حديقة ترفيهية جميلة، يمارس فيها السكان رياضاتهم، ويلعب فيها الأطفال، ويحج إليها كل من يرغب في لحظة صفاء ذهني، لكن هذا الفضاء لا يوفر فقط تلك الخدمات، بل يخفي قصة ملحمية، لسكان أنفا المعاصرين، سواء تعلق الأمر بالفرنسيين الذين أنشؤوها، أو المغاربة الذين حافظوا عليها وطوروها، واستغلوها على مر العقود في احتضان مختلف التظاهرات، الرياضية منها والترفيهية والفنية، كما أن منصة ومضمار هذه الحلبة وأبنيتها، شاهدة على جزء من التاريخ الاجتماعي للبيضاويين، وهو ما جعلها تحظى باهتمام الجهات الرسمية، ومشروع وزيارة ملكيين. إنجاز: عصام الناصيري / تصوير (أحمد جرفي) تقع حلبة "الفيلودروم" بحي راسين، بمقاطعة أنفا بالبيضاء، شيدها الفرنسيون منذ قرن من الزمن (1922)، واحتضنت على مر العقود والمراحل، أنشطة ترفيهية وثقافية ورياضية مختلفة، قبل أن تتحول في السنوات الأخيرة إلى حديقة صغيرة، وسط المباني الفاخرة والشوارع الفخمة، واستطاعت الصمود في وجه سماسرة العقارات، قبل أن تحصن في 2013، بعد تصنيفها تراثا وطنيا لكل المغاربة، واليوم ما تزال تحافظ على دورها، في منح الأجيال الحالية فسحة جميلة، للمشي والركض واستنشاق الهواء النقي والاستمتاع بالهدوء. حديقة مثالية بعيدا عن الجوانب التاريخية لحلبة "الفيلودروم"، التي كانت إلى وقت قريب تقام فيها مسابقات وطنية ودولية للدراجات الهوائية، وسباقات الكلاب، فإنها حديقة مثالية، ليست كبيرة بما يكفي لاستقبال عدد كبير من الزوار، بسبب حجمها وموقعها، الذي لا يضم اكتظاظا سكانيا، إضافة إلى أنها توفر للزوار تجربة ممتعة ومختلفة، لما تقدمه من خدمات مختلفة، من مسارات للركض ومقاعد للجلوس، ومقهى للوجبات الخفيفة، وألعاب متنوعة للأطفال. في زيارة قادت "الصباح" إلى حديقة "الفيلودروم"، بعد سنوات من إعادة تأهيلها، ما تزال الحلبة تحافظ على أناقتها وهدوئها ونظام محكم، عكس باقي الحدائق العمومية التي تخضع إلى التخريب التدريجي من قبل زوارها، وضعف أشغال الصيانة وجودة الإصلاحات، إذ تستقبل زائرها بلوحة معلقة على الباب الرئيسي، ملونة بالأبيض والأخضر، وكتب عليها بخط جميل أوقات العمل. وبمجرد تجاوز بوابة الحديقة، يجد الزائر نفسه وسط المساحات الخضراء، ومنظر بديع للمضمار والمنصة، وتستقبله لوحة تعريفية بالحديقة، تعرض شرحا مفصلا للخدمات التي تقدمها، ويتعلق الأمر بمطعم للوجبات السريعة وباحة للألعاب وفضاء رياضي، إضافة إلى مطعم ومتجر ومضمار الدراجات الهوائية ومنصة، كما أنها تقدم أيضا شرحا للسلوكات الممنوعة في الحديقة، من قبيل التدخين وجلب الواجبات الجاهزة وإشعال النار، كما يمنع أيضا إدخال الحيوانات والدراجات والسيارات. وهناك روح وشعور مختلف داخل حديقة الفيلودروم، خاصة بالنسبة إلى من يعرف قيمة هذا التراث الوطني، ويعي حجم الملاحم الرياضية والفنية التي مرت من المضمار والمنصة، اللذين حافظ عليهما مشروع التأهيل، اعترافا بهذا البعد التاريخي، إذ أصبح فضاء يختزل الأنشطة والمراحل التي مرت منها البيضاء، في 100 عام الأخيرة. اهتمام ملكي حظي هذا الفضاء باهتمام ملكي، إذ خصص له مشروع وزيارة ملكية أعطى خلالها الملك انطلاقة إعادة تأهيلها، إذ رصدت له استثمارات بقيمة 15 مليون درهم، في إطار إستراتيجية شاملة لحماية وتثمين الموروث الثقافي المادي واللامادي والطبيعي للبيضاء. وهم هذا المشروع مساحة إجمالية قدرها 2.1 هكتار، وشمل إحداث حديقة حضرية تضم فضاءات للرياضة والترفيه، وبحيرة مصغرة، ومسارات للمشي والركض، وفضاء للعب الأطفال، ومضمارا للتزلج، وفضاءات خضراء ومحلات تجارية (مقهى، مطعم). وتم إنجاز هذا المشروع في ظرف 23 شهرا بكلفة مالية تناهز 30 مليون درهم، ساهمت فيها وزارة الداخلية (المديرية العامة للجماعات الترابية) بقيمة 20 مليون درهم، ووزارة الثقافة والشباب والرياضة سابقا، وجهة الدار البيضاء سطات بـ 10 ملايين درهم مناصفة. تاريخ من البطولات رغم أهمية المشروع الجديد الذي أقيم في حلبة "فيلودروم"، إلا أنه في 2018 حينما شرعت السلطات في أشغال الهدم، أثار المشهد سخط كثيرين، ممن كانوا متشبثين بهذه الحلبة، معتبرين أن الحديقة ستقضي على معلمة تاريخية رياضية، احتضنت بطولات عالمية، ونافس في مضمارها أبطال عالميون في سباق الدراجات الهوائية، في فترة الحماية الفرنسية وبعد الاستقلال. كما تعتبر حاضنة الدراجة المغربية، إذ اتخذتها الجامعة الملكية المغربية للدراجات مقرا لها، منذ سبعينات القرن الماضي، وحصد المغرب بفضلها عشرات الميداليات في الميدان. بيت جامعة الدراجة وضعت سلطات الحماية الفرنسية، في 1919 اللبنات الأولى لـ "فيلودروم" البيضاء، وفتحت أبوابه في وجه عشاق سباق الدراجات رسميا في 1923. وفي هذا السياق يقول مصطفى النجاري، المدير التقني بالجامعة الملكية المغربية للدراجات، والدراج العالمي السابق، في تصريح لـ "الصباح"، "حلبة فيلودروم تصنف ضمن المعالم الرياضية العريقة بالمغرب، إذ أجريت داخلها منافسات إفريقية وعالمية، واستقبلت أبطالا عالميين من قبيل الإيطالي بارتالي وغيره". ومن جانبه أكد محمد كاتم، نائب رئيس الجامعة الملكية المغربية للدراجات، أن "فيلودروم البيضاء معلمة تاريخية، لكنها لم تعد تساير التقدم الحاصل على مستوى هذه الرياضة، إذ أنجزت بمواصفات القرن العشرين، وفي الوقت الراهن، أصبحت تواجهنا مشاكل في التدريب حينما تكون هناك تساقطات مطرية، ونطمح إلى حلبة بمعايير دولية، تكون مساحتها 250 مترا، مصممة بالخشب وليس الإسمنت". وتراهن الجامعة الملكية المغربية للدراجات، على المقر والحلبة الجديدين، اللذين يرتقب إنجازهما في السنوات المقبلة في منطقة أولاد صالح ضواحي البيضاء، غير أنها ستعاني بضع سنوات في انتظار اكتمال الأشغال، خصوصا أن مشروع بناء حلبة ومقر ومرافق أخرى تفاوض الجامعة السلطات بشأنها، سيستغرق سنوات عديدة. في السياق ذاته، قال كاتم لـ "الصباح" "إن أشغال البناء ستستغرق على الأقل خمس سنوات، لذلك طالبنا في الاجتماعات التي عقدتها مع والي البيضاء بمقر مؤقت، من أجل عقد اجتماعاتنا والقيام بالأعمال الإدارية، وكذا بمخزن توضع فيه الدراجات، أما الحلبة فسنضطر إلى انتظار إنجازها". سباقات الكلاب لم تكن حلبة فيلودروم في فترة الحماية الاستعمارية مخصصة فقط لسباقات الدراجات، بل كانت هناك أيضا سباقات الكلاب، التي تشارك في مسابقات يومية، يمكن أن تصل إلى 5 جولات في اليوم، ومنذ تاريخ تأسيسها عاشت سباقات الكلاب والدراجات أزهى أيامها في المغرب، وحافظ المشرفون على الحلبة، على هذه الرياضات لما يقرب قرنا من الزمن، إذ ظل الدراجون المحترفون يتدربون فيها، ويشاركون في مسابقات وطنية ودولية داخلها. والأمر نفسه بالنسبة إلى رياضة كلاب الرهان، التي نقلها الفرنسيون إلى المستعمرات الإفريقية، بالنظر إلى أن هذه الرياضة لها جمهور فرنسي كبير، وتدخل ضمن إرث الأسرة عند بعض العائلات، التي تتوارث هذه الرياضة، غير أن هذه السباقات اختفت برحيل الفرنسيين من المستعمرات، ونجحت فيلودروم البيضاء في الصمود، رغم رحيل الفرنسيين، وتأثر المغاربة بهذا النشاط وظلوا يزاولونه إلى حدود السنوات القليلة الماضية. وكانت الحلبة شاهدة على آلاف السباقات الخاصة بكلاب الرهان، إذ كانت المنصة تعج بالزوار والمراهنين، الذين يرشحون كلبا للفوز في السباق، ويتابعونه بشوق لمدة لا تتجاوز ثلاثين ثانية، التي تكون كافية لبلوغ الكلاب خط النهاية، ويتم تحديد الفائز والإعلان عنه.