ماذا بعد؟

يتابع الرأي العام، منذ أيام، مسلسلا جديدا من الاعتقالات والمتابعات والتحقيقات الأمنية والقضائية، في حق رؤساء جماعات ومهندسين وتقنيين وموظفين ومستخدمين وأصحاب شركات ومؤسسات عمومية، للاشتباه في ارتكاب أفعال لها علاقة بتبديد المال العام. ففي ظرف وجيز، أعلنت النيابات العامة، بعدد من محاكم الاستئناف، عن نتائج الأبحاث والتحريات التي انكبت عليها الفرق الأمنية المختصة منذ أشهر، كما توصل قضاة التحقيق بملتمسات من أجل التحقيق مع عشرات المتهمين، وضع بعضهم رهن الاعتقال الاحتياطي بالسجن، بينما أخضع الباقون إلى تدابير الوضع تحت المراقبة القضائية، المشروط بإيداع كفالات مالية، أو إغلاق الحدود. وإذ نثمن الانخراط القوي لمختلف أجهزة الرقابة المالية والإدارية وتعاونها الوثيق مع مؤسستي الأمن والقضاء للتصدي لكل أنواع الجرائم المرتبطة بالمال العام والفساد المالي، نعتبر، في الوقت نفسه، أن كل ما يبذل من مجهودات جبارة في إطار الأبحاث والتحريات والتحقيقات وإعداد المحاضر والمساطر، لا يمثل سوى خطوة واحدة في ألف ميل للدفاع عن أموال الشعب. فقد يكون مهما، من وجهة نظر تخليق الحياة العامة، تحريك المتابعات وإصدار قرارات الاعتقالات في حق المتهمين والمشتبه فيهم وإصدار أحكام قضائية في حقهم، لكن الأهم بالنسبة إلى المواطنين إرجاع أموالهم المنهوبة إلى أماكنها، ووضع الضمانات القانونية والإدارية الصارمة حتى لا تمتد لها أيادي النهب مرة أخرى. فقديما قالوا "المال السايب يعلم السرقة"، وهو حال عدد من صناديق الدولة المفتوحة على مصراعيها للنهب من قبل مشرفين عليها، وأحيانا بطرق "قانونية" تحار أعتى التحقيقات الأمنية والقضائية في فك طلاسمها. ويجب أن نتفق على أن كل ما قد تصل إليه الفرقة الوطنية للشرطة القضائية وباقي الفرق الأمنية الأخرى المكلفة بجرائم الأموال، لا يمثل سوى الجزء الظاهر من جبل الفساد الغارق في محيط مظلم من الأساليب والعمليات والتحويلات و"نماذج" دفاتر التحملات والصفقات العمومية التي تمر بطريقة "برق ما تقشع". إنه الفساد الأكبر الذي يستمر في الانتشار والنمو والتكاثر والتحور مثل فيروس خطير، مستفيدا من حملات تفتيش انتقائية في المكان والزمان، في وقت كان مفروضا أن ننكب جميعا على مسارين، يشكلان ضربة قاضية له: أولا، تقوية الترسانة القانونية للرقابة المالية والإدارية على المستويين القبلي والبعدي، وسد الثقوب والمجالات التي تتسرب منها "نوايا" النهب وتبديد المال العام. ثانيا وأساسا، وضع آلية قانونية واضحة لاسترجاع الأموال المنهوبة وتوقيع غرامات باهظة، تجعل مجرمي المال العام "عبرة"، وليس "نموذجا" للصوص يغادرون السجون مرفوعي الرؤوس، وفي خزائنهم "ثروات" من "فلوس" الشعب. إن المطالبة بالحرص على استرجاع الأموال المنهوبة ليس مجرد تدبير قضائي، بل ينبغي أن يرقى إلى مستوى قرار سياسي، من أجل تخليق جذري وشامل للحياة العامة. دون ذلك، سنكون أمام مسلسل رمضاني بعنوان العبث. مسلسل قد يكون مسليا لبعض الوقت. لكن مؤلم للوطن في كل الأوقات.

ماذا بعد؟

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الأسواق في رمضان ... "لهطة" وغش واحتكار

تلفزيون رمضان... إمتاع ومؤانسة

مقالات ذات صلة