رحيل جسوس… عراب السوسيولوجيا المغربية

أغضب الحسن الثاني حين قال إن الدولة تريد إنتاج الضباع برحيل الدكتور محمد جسوس، صباح الجمعة الماضي، تكون صفحة من تاريخ "السوسيولوجيا المغربية" قد طويت، بعد أن فقد علم الاجتماع بالمغرب واحدا من أبرز رواده ومنظريه ومؤسسيه، الذي ووري جثمانه صباح أول أمس (الاثنين) الثرى بمقبرة الشهداء بالرباط. قلة من أجيال اليوم قد تتساءل، من يكون محمد جسوس هذا؟ وما طبيعة هذه السوسيولوجيا التي أقضت مضجع "النظام"، طيلة عقود، وكان يتوجس منها ومن أهلها خيفة، وحاربها كما لو كان يحارب جماعة من الروافض أو "القرامطة"، لأنه لم يكن يطيق منطقها القائم على التحليل النقدي والعلمي للواقع الاجتماعي والسياسي. ماي 68 وإغلاق معهد السوسيولوجياخلال الفترة التي عاد فيها محمد جسوس سنة 1968 إلى المغرب من الولايات المتحدة الأمريكية، متأبطا شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة برنستون وشهادة ميتريز في التخصص نفسه من جامعة لافال الكندية، كان المغرب يعيش حالة احتقان سياسي واجتماعي خلفته أحداث مارس 1965، التي جعلت البلاد تدخل حالة "الاستثناء"، وتنامي المعارضة اليسارية بشقيها الراديكالي والمؤسساتي.في خضم هذا الغليان السياسي، لم يختر محمد جسوس، الذي كان حينها يبلغ من العمر 30 سنة، الانزواء واعتزال الأحداث التي كان يموج بها المغرب، بل انخرط من موقعه باحثا في علم الاجتماع معنيا بقضايا مجتمعه، في لجة العمل السياسي، ومالت به عاطفته السياسية نحو اليسار.شاءت الصدف والظروف أن تعيش فرنسا خلال الفترة نفسها، على وقع هبّة ماي 1968، وهي انتفاضة طلابية شهيرة قادها طلبة الفلسفة وعلم الاجتماع وانجرف خلفها أشهر المثقفين والمفكرين الفرنسيين في تلك المرحلة، وكادت هذه الانتفاضة أن تقوض دعائم نظام شارل دوغول الذي كان حينها رئيسا لفرنسا.وفي المقابل انتبه النظام المغربي، إلى الدور الفعال لطلبة الفلسفة وعلم الاجتماع في قيام هذه الانتفاضة، فحاول اتخاذ إجراءات استباقية مخافة أن يتكرر السيناريو نفسه في المغرب، فكان منها تضييق الخناق على شعبة الفلسفة التي كانت حديثة التأسيس حينها، ولم يمض على ظهورها بالكاد عشر سنوات، كما عمد إلى محاولة إحكام القبضة على علم الاجتماع وطلبته وأساتذته بإغلاق معهد السوسيولوجيا بداية السبعينات، وإلحاق درس السوسيولوجيا بشعبة الفلسفة بكلية الآداب بالرباط التي كانت أصلا تعاني التضييق، ويتحين النظام فرصة الإجهاز عليها ليتخلص من وجع الدماغ ومن قلق السؤال الذي تولده. حين أغضب الحسن الثاني....كان محمد جسوس في تلك المرحلة قد التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، أستاذا لعلم الاجتماع منذ سنة 1969، ووجد نفسه مطالبا، رفقة ثلة من الأسماء التي تمثل جيله أمثال عبد الكبير الخطيبي وبول باسكون، بإنقاذ الدرس السوسيولوجي المغربي، واستكمال الأوراش التي افتتحها وراكمها على امتداد عشر سنوات، منذ تأسيس معهد السوسيولوجيا بداية الستينات إلى حين إغلاقه مطلع السبعينات. أخذ الجيل الأول من السوسيولوجيين المغاربة، وفي طليعتهم محمد جسوس، على عاتقهم مهمة تخليص الدرس السوسيولوجي المغربي، من الإرث الكولونيالي، وامتلاك أدوات التحليل العلمي التي تمكن من مقاربة الواقع المغربي دون وساطة إيديولوجية كولونيالية، ترسبت على امتداد عقود من الدرس والتحليل الفرنسيين للمغرب، وأفرزت كما هائلا من المصنفات التي اختلط فيها الإيديولوجي بالعلمي. كانت المهمة الأساسية التي ناضل من أجلها محمد جسوس، وسعى إلى تلقينها لطلابه هي ربط الدرس السوسيولوجي بالبحث الميداني، لذا جاءت طريقة تلقينه الدروس أشبه بأسلوب الفيلسوف اليوناني سقراط، الذي لم يكن يلقي بالا لما هو مكتوب، بل يعتمد على التفاعل البناء الذي يولّده الحوار والنقاش، فيما أضاف جسوس إلى كل هذا، الاهتمام بالعمل الميداني، الذي هو أساس كل نظرية يمكن أن تستنبط في مجال البحث السوسيولوجي بحسب تصور محمد جسوس أو على الأقل حسب ما يفهم من طريقته في التدريس. وسيوجه محمد جسوس كذلك اهتمام الدرس السوسيولوجي المغربي نحو قضايا العالم القروي، وسيكون بذلك واحدا من المؤسسين لهذا المبحث في الجامعة المغربية، بعد أن كان علماء الاجتماع الفرنسيون في عهد الاستعمار هم من يملكون زمام هذا المبحث، من منطلق اعتباره (أي جسوس) أن العالم القروي هو بوتقة كل تفاعلات النسق الاجتماعي المغربي. كما انشغل جسوس بقضايا التربية والتعليم، ودفعته آراؤه الصريحة في هذا المجال إلى حد أن غضب منه الملك الراحل الحسن الثاني، حين انتقد جسوس مخططا تعليميا بقوله "إنهم يريدون خلق جيل من الضباع" ويبدو أن تنبؤاته بمآل التعليم في المغرب، في ظل السياسات التي اتبعت فيه، قد تحققت على أرض الواقع فعلا، بدليل المشاكل التي أضحى يتخبط فيها. وشكل محمد جسوس إضافة إلى كل هذا صوتا نقديا هادفا وسط حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي اختار الانتساب إليه في أوج ازدهار هذا الحزب سنوات السبعينات والثمانينات، قبل أن يزهد في السياسة وكل ما يأتي منها. وكان جسوس أيضا مصرا على عدم تدوين آرائه وأفكاره في كتب، كما كان الشأن بالنسبة إلى العديد من علماء الاجتماع، واضطر تحت ضغط تلامذته ومحبيه إلى تدوين جزء منها ضمن حوارات صحافية نشرت عبر كتب لخصت وجهات نظره في العديد من القضايا منها كتاب "طروحات حول المسألة الاجتماعية" و"طروحات حول الثقافة واللغة والتعليم" (صدرت عن منشورات الأحداث المغربية) وكتاب آخر بعنوان "رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب" بتنسيق وإشراف من الدكتور إدريس بنسعيد (منشورات وزارة الثقافة).عزيز المجدوب

رحيل جسوس… عراب السوسيولوجيا المغربية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الباكوري ينتقد تجربة الأقاليم المحدثة

حذار من إقصاء المنتخبين من مخططات تأهيل المدينة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات