ورطتنـا الجماعيـة

حين تفشل "أمة" في إنقاذ طفل قابع في ظلمات بئر لأكثر من 44 ساعة المشهد موغل في الألم حدا لا يطاق، وصورة طفل لم يتجاوز 5 سنوات عالق في شباك الموت، تدمي القلوب، وتطرد النوم من الجفون، ما عبر عنه كثير من المغاربة، صباح أمس (الخميس)، وقد سهروا ساعات طويلة، يتابعون أخبارا وصورا، ومستجدات عمليات إنقاذ، كلما تقدمت خطوة إلى الأمام، تراجعت خطوتين إلى الوراء. فلا حديث منذ الثلاثاء الماضي، إلا عن "ريان"، الطفل البدوي الوسيم، بشعر أملس وسحنة لفحتها شمس فبراير، وعينين عسليتين دائريتين ومعطف شتوي، والذي انزلقت قدماه في بئر "صوندا" في غفلة من عيني والدته. كان ريان يلعب مع أقرانه، كعادته، على بعد خطوات من هذا الثقب الضيق الذي يستعمل لاستخراج الماء، قبل أن يجد نفسه في غياهبه، جثة متحركة مكومة على نفسها، ولم يستغرق سقوطه الحر في عمق 30 مترا، سوى ثوان قليلة. لم يفهم ريان ماذا جرى بالضبط في تلك اللحظات؟ ولماذا يوجد في هذا الركن القصي من العالم؟ ولماذا كلما حرك أطرافه ذات يمين، أو ذات يسار، أو ذات "وسط"، كلما ضاق عليه التراب، وانحبست أنفاسه، وشرع يمص إبهامه من شدة الخوف. كان ريان يعتقد أن كلمة "ماما هزيني طحت"، تكفي كي تمتد له يد حنون، وتمسح عنه الغبار، وتشد من أذنه برفق، وتنبهه إلى عدم الاقتراب من الحفر في المرات القادمة، لكن خاب ظنه بعد عدة محاولات، وضاعت توسلاته في الظلام، وردد صداها فراغ مخيف، وأيقن بحدسه الصغير أنه في ورطة. في البداية كانت مجرد ورطة طفل، قبل أن تتحول في الساعات اللاحقة إلى ورطة بلد ووطن وأمة بجلال قدرها، حين اعتقد أكثر المتشائمين أن عملية إنقاذ ريان ستطول خمس ساعات متواصلة، وها نحن نطوي أكثر من 44 ساعة، دون أن يظهر أمل. كلهم جاؤوا إلى دوار "اغران" نواحي منطقة باب برد منذ الساعات الأولى للسقوط، ولا أحد استطاع أن ينجز "مهمة" تحولت، في لحظة إجماع استثنائي، إلى مطلب وطني تشد أنظار 40 مليون مغربي، وتتابعها كبريات القنوات العالمية عن كثب. طيلة تلك الساعات من الضغط والأعصاب، لا أحد استطاع أن يقدم فكرة، تنتشل الطفل حيا، قبل أن تنتهي المدة الافتراضية لإنسان بلا حول ولا قوة، قابع في عمق بئر ضيق بلا ماء ولا أكل ولا تهوية، ولا أمل حقيقي في الإنقاذ. حفرة هناك، وبئر موازية في الجهة الأخرى، وخراطيم أوكسجين ورافعات وحبال وكشافات ومتطوعون، وخطط بديلة، وكاميرات مراقبة، و"جيش" من رجال الوقاية المدنية وأعوان السلطة ومساعدين، وخبراء في الكهوف والمغاوير، كل ذلك لم يزد الأمر إلا تعقيدا. والأخطر من ذلك، أن بعض عمليات الإنقاذ العشوائية كادت تتسبب في كوارث ووفيات وسقوط ضحايا، حين سُمح لبعض المتطوعين بالنزول إلى البئر، دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة، (أحدهم نقل إلى المستشفى في حالة اختناق). في لحظات يأس قصوى، أيقن عدد من المغاربة أن توسل حلول من السماء، قد يكون أنجع بكثير من انتظار حلول متعثرة في الأرض، يتكلف بها "رجال" بدا أنهم لا يملكون أية خبرة، أو تدريب للتعامل مع حوادث مماثلة شديدة الصعوبة. وسواء خرج ريان حيا يرزق، أو جثة هامدة، سيبقى هذا الطفل الشاوني ورطتنا الجماعية.. درسنا المؤلم. يوسف الساكت

ورطتنـا الجماعيـة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بايتاس: المواطنون عرقلوا عمل فرق الإنقاذ

ريـان...ليلتـان فـي غياهب الجـب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات