أحرضان يستعيد شريط السياسة والسلاح

قال إن أكثر الأحداث رسوخا في ذاكرته يوم قال له الملك الراحل محمد الخامس إن "القتال لا يمنع الجندي من أداء التحية" لم ينل منه الكبر رغم تقدمه في السن، ولم تقعده إلا كبوة عابرة ألزمته مقعدا وسط مرسمه بمنزل العائلة في السويسي، لكنه ما يزال حاضر البديهة سريع الرد، لا يخفي انفعالاته فرحا أوغاضبا "ليس من عادتي أن أستقبل ضيوفي جالسا، ولكنه القضاء والقدر، ومع ذلك مازلت أتمنى أن أصعد يوما ما إلى الجبل راجلا " هكذا استقبل المحجوبي أحرضان الوافدين إليه من أجل سماع شهادته على مخاض ولادة مغرب الاستقلال، والتعرف عن الجزء الأول من مذكراته ، الصادر عن دار النشر الباريسية "روكار" في 285 صفحة، والتي خصصها لفترة نهاية الحماية وبداية الاستقلال، بما في ذلك مفاوضات "إكس ليبان" واغتيال عباس المساعدي وتشكيل أول حكومة في تاريخ المغرب . بكلمات فرنسية مرتبة كما في برقيات الجيش، تكلم أول وزراء دفاع المغرب "أنتم تعلمون أن الهدف من هذا اللقاء هو تقديم الجزء الأول من مذكراتي، والتي ستكون من ثلاثة أجزاء، جزء أول يغطي الفترة من بداية ذهاب المستعمر، سأتحدث فيها عن شخصيات ذلك العهد مثل الباشا الكلاوي، أو المقيم العام "جوان" وبعده "غيوم"، وطبعا بالإضافة إلى نفي الملك الراحل محمد الخامس، وتجاذبات جيش التحرير، وثورة القبائل، وصولا إلى عودته، على أن ينتهي هذا الجزء بوفاة المغفور له محمد الخامس، في حين يتعلق الجزءين الثاني والثالث بفترة حكم الحسن الثاني رحمه الله، على اعتبار أن فترة حكم الأخير كانت حافلة بالأحداث الكبيرة. لقد قمت بإنجاز هذا العمل بالرجوع إلى مئات دفاتر يومياتي الشخصية، لأني كنت دائما حريصا على تدوين الأحداث التي أعاينها، لذلك يمكن أن أؤكد أن كل ما ستجدونه في مذكراتي حقيقي "بلا زواق"، وأتمنى أن يمنحنا الله جميعا القدرة على مواجهة المستقبل بالوضوح الكافي حتى لا نخلف الموعد مع التاريخ. الأكيد أن هذه المذكرات ليست من أجل محاكمة أحد، ولكنها شهادات أحكيها كما عاينتها وعايشتها، مات من مات وعاش من عاش، وعلى أي حال الموت أخذ الجميع تقريبا، وغادرنا إلى دار البقاء القتلة والمقتولين، المهم في اعتقادي الشخصي هي الدروس التي يجب استخلاصها من كل تلك الأحداث، والتوافق حولها عوض التراشق بها، وكشف أوراقها حتى يمكن للمغاربة أن يدخلوا مرحلة جديدة على أساس متين قوامه معرفة جيدة لتاريخ الأجيال السابقة بنجاحاته وإخفاقاته لكي يتعلم أولادنا من أخطاء آبائهم وأجدادهم، ويعرفوا كيف أن أشخاصا كان بوسعهم تحقيق الكثير لهذا الوطن لكنهم لم يتمكنوا من بلوغ أهدافهم، وكيف أنهم ينتمون إلى بلد كبير يمكنه أن يلعب أدوارا رئيسية في منطقته كما كان في السابق، وربما أكثر، ذلك أن المغرب لم يستغل كما يجب منجما من الماس يوجد في عمق أراضيه، وهو امتداده الإفريقي التي يصل اليوم إلى وسط إفريقيا في إشارة منه إلى مساهمة المغرب في عملية وقف الاقتتال في جمهورية جنوب إفريقيا، ومع كل الآفاق الواعدة التي تفتحها في وجهنا قارتنا السمراء، تركنا كل ذلك و ذهبنا نبحث في أماكن أخرى، البحث بعيدا قد يكون مجديا لكن ليس دائما. انتبه أحرضان إلى أن هناك من بين الحضور من لا يفهم كلامه، فأخبروه أن الأمر يتعلق بموفد جريدة خليجية لا يتقن الفرنسية، لكنه أصر على الكلام بالفرنسية، موضحا أن المذكرات نفسها مكتوبة بلغة موليير، لكنه وعد الصحيفة المذكورة بلقاء خاص، متذكرا مقولة الحسن الثاني "الأمي هو الذي يتكلم لغة واحدة" قبل أن يعقب على الأمر بأن "الأمي يكون في كثير من الأحيان أحسن من المتعلمين"، وأن الإنسان يتعلم كلمات لكنه سرعان ما ينسى مضامينها. كل الأحداث الواقعة في الفترة بين 1942 إلى 1961 مهمة ومؤثرة، لكن أكثرها أهمية بالنسبة إلي شخصيا كان لقائي بمحمد الخامس بداية الأربعينات، كنت حينها تلميذ بالمدرسة العسكرية بمكناس، عندما زار الملك الراحل المدينة واجتمع بكل الأفواج، فجاء دوري للسلام عليه قال جملة بقيت عالقة في ذاكرتي " القتال لا يمنع الجندي من أداء التحية" وتذكرتها سنوات بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية أثناء معركة في صفوف القوات المسلحة الفرنسية ضد جيش هيتلر، تعطلت بندقيتي فجأة، فما كان مني إلا أن رميتها، لكني كدت أقتل من قبل ضابط صف ألماني لولا تدخل أحد رفاقي في السلاح، حينها قررت أن أحتفظ بالبندقية إلى أن أقدمها هدية للملك، إذ حاولت أن أقابله وهو ما تم بالفعل، إذ استقبلني ببساطة يصعب تخيلها، إلى حد أني تجرأت وسألته لماذا نقاتل من أجل الآخرين، فقال لي بأن ذلك فيه تعبير عن تطلعنا إلى الحرية نحن كذلك، لذلك يمكنني أن أقول إن لقائي بمحمد الخامس كان أكثر الأحداث تأثيرا في حياتي، خاصة أن الحظ حالفني في أن أكون قريبا منه. أوفقير ضابط من العيار الكبير من أكثر الأحداث حضورا في ذاكرتي قضية الباشا الكلاوي، حيث كان الفرنسيون يحاولون، بكل الوسائل، إخضاع محمد الخامس، وفي يوم من الأيام وقع سوء تفاهم في حضرة الملك فطرد الكلاوي من القصر كالمنبوذ، وهي الحادثة التي وظفها الفرنسيون لخدمة مخططاتهم الرامية إلى إبعاد محمد الخامس عن العرش، وكانت التعبئة الفرنسية لبلوغ ذلك الهدف بدأت منذ مدة، فأجبروا الكثير من القياد على التوقيع، ورغم أني شغلت منصب قائد لكني رفضت الذهاب في مسار الكلاوي وتمت إقالتي بتهمة تهديد الأمن الداخلي للدولة، بعد ذلك ستتسارع الأحداث، نفي السلطان، المقاومة وجيش التحرير ثم مفاوضات "إيكس ليبان" التي تظهر المعدن الحقيقي لرجال الدولة في تلك المرحلة الفاصلة من تاريخ المغرب.الجنرال أفقير كان ضابطا من العيار الكبير ورجلا وطنيا كبيرا وللدلالة على ذلك سأحكي قصة صغيرة عشتها معه، عندما اتضحت أهداف الفرنسيين في إبعاد الملك عن عرشه اتصل بي عدد من المقاومين المرابطين في الأطلس، يستفسرون عن حقيقة الوضع وما الذي يجب عليهم فعله، سافرت إلى الرباط فإذا بي أجد كل أبواب القصر الملكي موصدة، وكما هي العادة ذهبت عند محام صديق، وفي بيته قابلت شخصا خرج لتوه من القصر وحكى لنا كيف تمكن من الدخول المغادرة، فقبل أن يرافقني في زيارة إلى الملك، وكان لي ما طلبت وقابلت الملك وقلت له إن سكان الأطلس يعتبرونه "الشعالة ديالهم" وهم معه حتى الموت، وساعات بعد ذلك أقفل الفرنسيون آخر المنافذ المؤدية إلى الإقامة الملكية ويتعلق الأمر بباب المصلى، ويمكن أن أؤكد أن أحرضان كان آخر من دخل إليه قبل النفي، ليلتها كنا مجموعة من الضباط، أنا و لوباريس ولحسن اليوسي وأوفقير، الذي استقبلنا في بيته، أخلطنا دمنا وشربناه وتعاهدنا على الشهادة في سبيل الوطن، ومع ذلك لم يش بنا صاحب الدار، ولا يمكن أن أقول إنه خائن، على الأقل فهو لم يهرب. "فات وقت" الكشف عن قاتل المساعدي لا يمكن أن أقول في المهدي بنبركة رحمه الله إلا الخير كان صديقا مقربا وكان يمكن أن يعطي للمغرب أكثر مما أعطى، حكاياتي معه كثيرة، والواقعة الأكثر حضورا في ذلك كانت يوم طلب مني "قل لصديقك أن يكف عن وصفي بالخائن" ويقصد بكلامه القيادى في جيش التحرير، عباس المساعدي، ولما أتيحت لي فرصة استفسار الأخير سر إصراره على نعت المهدي بالخيانة، قال لي إنه ذهب إليه مرة من أجل طلب الدعم المالي لأعضاء المقاومة وكيف استقبله بحفاوة قبل أن يطلب منه العودة بعد أسبوع، لكن المساعدي عند عودته في يوم الموعد فوجئ بامرأة تفتح له الباب وتقول له إذهب إلى حال سبيلك وإلا طلبت لك الشرطة،" هذه شهادة للتاريخ على المهدي وعباس، تغمضهما الله برحمته.استمرت قصة العداء بين الرجلين وسأكون كذلك شاهدا على مواجهة أخرى بينهما، وتدور وقائعها بعدما تقرر إجراء فحص طبي لأعضاء جيش التحرير في أفق إدماجهم داخل القوات المسلحة الملكية المغربية الحديثة التأسيس آنذاك، ومن أجل ذلك سافر المهدي بنبركة والفقيه البصري، وإن لم تخني الذاكرة كان معهما المحجوب بن الصديق، إلى منطقة "أكنول" نواحي تازة، التي كان المساعدي يرأس مركز جيش التحرير بها، ولحسن الحظ لم يكن عباس هناك تلك الليلة، فقد استشاط غضبا وصرح بأنه لو صادف المهدي هناك لقتله، وبعد ذلك بأيام قليلة أخبر قائد سرية "أكنول" بأنه مدعو للعشاء في فاس ببيت قيادي آخر في جيش التحرير، حجاج، لكنه اختطف من أمام منزل الأخير، وقيل حينها إنه قاتل المساعدي، لكني أنفى ذلك جملة وتفصيلا وأبرئه من تهمة القتل، لأن المساعدي حمل على متن سيارة قبل أن يصل إلى المكان المعلوم ليقتل غير بعيد من هناك بواسطة مسدس صغير من عيار 6.35، ما يمكن أن أجزم به أمامكم وقد قلت ذلك في مذكراتي أن الذي أشرف على اغتيال المساعدي مازال حيا يرزق ولن أكشف اسمه لأن "الوقت فات". أوريد: شهادة أحرضان ستحطم بعض الأساطير اعتبر حسن أوريد، المؤرخ السابق للمملكة، أن شهادات المحجوبي أحرضان ستحطم عددا من "أصنام" السياسة بالمغرب وستحرج الكثير من الأطراف، مشددا على أن العمل سيشكل شهادة مهمة بخصوص جزء من تاريخ المغرب، خاصة أن الأمر يتعلق بمرحلة نهاية الحماية، وما تمخض عنها من عزل السلطان محمد الخامس، وما عرفته من مؤامرات حاكتها الإدارة الاستعمارية، ثم عودة الشرعية نتيجة كفاح الشعب المغربي ونضال الملك الراحل محمد الخامس، موضحا في كلمة تقديمية للجزء الأول من مذكرات أحرضان أن العمل "قد لا يتطابق بالضرورة مع ما تعودنا عليه، سواء في ما يتعلق بالطريقة التي جرت بها مفاوضات إكس ليبان، أوفي ما يخص تنصيب الحكومة المغربية الأولى والصراعات التي تلت تلك المرحلة، بما عرفته من تصفيات جسدية، ربما تواترنا على عدم الوقوف عندها أو نسيانها".ويوضح مدير مركز طارق بن زياد كيف اختار الرئيس المؤسس لحزب الحركة الشعبية، المحجوبي أحرضان، أن يبدأ نشر مذكراته بأكثر فترات تاريخ البلاد حساسية، خاصة في ما يتعلق بمفاوضات رفع الحماية وإنهاء حقبة الاستعمار، كاشفا أن هناك من كان يفاوض فرنسا بـ" إيكس ليبان" تحت شعار "الله الوطن الاستقلال"، وأن بعض زعماء الحركة الوطنية أخرجوا عودة الملك الراحل، محمد الخامس، من أجندتهم.ورجح أوريد أن تثير شهادات أحرضان، التي قدم جزءها الأول "مذكرات 1941-1962 " الجمعة الماضي، ردود أفعال قوية على اعتبار أنها ستحرج الكثير من الأطراف السياسية، وذلك في إشارة منه إلى رواية أحرضان في موضوع اغتيال القيادي في جيش التحرير، عباس المساعدي، التي تكشف كيف أن الأخير وصف الزعيم المهدي بنبركة، ساعات قليلة قبل عملية "الاغتيال" بـ"الخائن"، وهي الواقعة التي "كان لها ما بعدها"، على حد تعبير أحرضان، الذي قال بأن "المشرف المباشر على قتل المساعدي مازال حيا يرزق بيننا".وأوضح أوريد بأنه كان محظوظا بقراءة مخطوطات كثيرة من يوميات أحرضان، معتبرا أنها أكثر من مذكرات بل هي جزء من تاريخ المغرب، وستحطم بعض أساطير التاريخ السياسي للمعاصر للمغرب، على اعتبار أنه عاش أحداث المرحلة من زاوية مخالفة لأصحاب الروايات الأخرى، بصداقات وعلاقات كثيرة ومتنوعة، كما هو الحال بالنسبة إلى العلاقة التي جمعته بالمهدي الكلاوي نجل الباشا الكلاوي، الذي وصفته المذكرات بأنه أحد الضباط الأوفياء للمغرب. تأتي قوة شهادة أحرضان من وصفه الدقيق للحماية، ولا أحد، حسب أوريد، يمكنه وصف الإدارة الفرنسية بالمغرب أحسن من شخص كان في خدمتها، وشغل منصب "قايد"، وهو يقول بأن هذا النوع من المناصب كان صوريا، وأن السلطة الحقيقية كانت آنذاك بين أيدي عناصر إدارة الشؤون الأهلية في القرى والمراقب المدني بالحواضر، كاشفا الكثير من خبايا المناورات الفرسية الرامية إلى انتزاع توقيعات القياد من أجل إبعاد الملك عن العرش، ومن ضمنهم المعارضين لسياسة الحماية الفرنسية، وكيف أن اللعبة كانت أكبر من الكلاوي، الذي لم يكن مقتنعا برجاحة دلائل الإدارة الاستعمارية. ياسين قُطيب

أحرضان يستعيد شريط السياسة والسلاح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أغلب وكالات الأسفار غير مؤهلة لتنظيم الحج

العمالي ينسحب من الجمع العام للاتحاد بالقصر الكبير

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات

أغلب وكالات الأسفار غير مؤهلة لتنظيم الحج