الصويـرة تستعيـد نبـض “تاكناويـت “

إيقاعات الحياة تنعش مدينة الرياح بعد الجائحة احتضنت الصويرة نهاية الأسبوع الماضي، تظاهرة فنية عبارة عن سهرات موسيقية احتفاء بإدراج كناوة ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي وغير المادي. في هذا الخاص تضعكم "الصباح" في جانب من أجواء هذه الاحتفالية، التي نظمتها الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة بشراكة مع جمعية "يرمى"، واستعادت معها مدينة الرياح جزءا من إيقاعات الموسيقى التي كانت مفتقدة طيلة زمن الجائحة. إنجاز: عزيز المجدوب (موفد "الصباح" إلى الصويرة) بينما كانت الشمس تتأهب للمغيب، وترسل آخر ما تبقى من أشعة من فرجات أسوار ساحة المنزه التاريخية، كان معلمو كناوة يتأهبون لأخذ أماكنهم على المنصة الكبرى التي أعدت لهم. ترتيبات أمنية مشددة وإغلاق محكم لمختلف المنافذ والمعابر والأزقة المؤدية إلى ساحة المنزه، بدءا من باب السبع وبرج الساعة والأبواب الجانبية، إلا وتجد فيها رجال الشرطة والأمن الخاص يستفسرون الوافدين عن حاجتهم ووجهاتهم، ويتفقدون الشارات التي تسمح لحامليها بالولوج إلى الساحة. كانت التعليمات واضحة. يتعلق الأمر بتصوير تلفزيوني لأمسية فنية احتفاء بموسيقى كناوة، لكن كان من الصعب إقناع زوار المدينة، خاصة أن التظاهرة تزامنت مع العطلة المدرسية، أن لا يقتربوا من مكان الأمسية، وأن العبور إليها أمر غير متاح إلا لقلة قليلة أقل حتى من الفنانين المشاركين في الوصلة الافتتاحية. وبالحديقة الجانبية لساحة المنزه، والتي يتوسطها تمثال مهمل للمخرج العالمي أورسن ويلز، اصطفت الخيام البيضاء التي اتخذت بمثابة مخادع لفناني كناوة المشاركين في التظاهرة الاحتفائية، بينهم 73 معلما ومرافقوهم ليتجاوز بذلك عدد الفنانين المشاركين في الحفل 120 فنانا، حولوا تلك الحديقة إلى مجمع فني. بالجانب الآخر من الساحة كان تقنيو الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، يضعون آخر اللمسات التقنية استعدادا لتصوير الحفل تحت إشراف شخصي لعمر الرامي المدير المركزي للإنتاج والبث في الشركة، وإدريس الإدريسي مدير الإنتاج بها، بعد أن تم تجهيز المنصة أياما قبل ذلك. يتعلق الأمر إذن بلحظة فنية وتلفزيونية يتم فيها الاحتفاء بإدراج كناوة ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي واللامادي، وهو المكسب الذي تحقق في نونبر 2020 إلا أن ظروف جائحة كورونا حالت دون تخليد الحدث بما يناسب رمزيته في وقته، ليظل الاحتفال مؤجلا ما يقارب سنتين، إلى أن تخففت ظروف الحالة الوبائية وبدأت الحياة تستعيد وتيرتها بشكل طبيعي. أنغام ومتعة بصرية كان مشهد المعلمين وهم يقتحمون منصة الغناء ضمن طقس "فتوح الرحبة" مصحوبين بطبولهم و"قراقبهم" وهي توقع لحن الافتتاح مثيرا للغاية، معلنا عودة الحياة والإيقاعات إلى الصويرة، التي عاشت الركود مدة طويلة، وهي المدينة التي اعتادت أن تتنفس الفن والثقافة، قبل أن تجد نفسها محرومة من الأنشطة طيلة مدة الجائحة، وهو ما انعكس سلبا على بقية القطاعات التي لا تنتعش إلا مع حركية المدينة ثقافيا. على امتداد حوالي ساعتي زمن تفنن معلمو كناوة في استعراض أصناف وألوان ومحطات من فن تاكناويت، الذي يجمع بين سحر الأنغام والإيقاعات وإبهار الألوان والمتعة البصرية، بما في ذلك المحطات الأساسية لليلة الكناوية التي نقلت من فضائها الحميمي إلى ساحة مفتوحة تتردد فيها طقوس "الفتوح" و"ولاد بامبرا" و"النقشة" وغيرها. وكانت هذه الوصلة الغنائية واللوحات الفنية التي تخللتها، كافية لتبعث شيئا من الدفء في أوصال ساحة المنزه التي حنّت إلى حرارة الموسيقى وحركية الإيقاعات، التي كان يتردد صداها في أرجاء المدينة وعبر أزقتها ودروبها، لتصل إلى أسماع الناس الذين لم يتمكنوا من الحضور عن قرب للخشبة. تاكناويت بتوقيت منتصف الليل ولحظة اقتراب عقارب الساعة من منتصف الليل كان موعد عشاق تاكناويت، مع الشوط الثاني من البرنامج الاحتفائي الذي أراد المنظمون أن يكون هذه المرة حميميا داخل فضاءات محددة بالمدينة العتيقة للصويرة ، وانطلقت فقراته في توقيت موحد وتوزعت عبر أربعة مراكز هي "بيت الذاكرة" و"دار الصويري" و"زاوية سيدنا بلال" و"زاوية عيساوة" كل ركن فيها تخصص في الانفتاح على لون معين من "تاكناويت" يعكس خصوصية وتنوع هذا الفن العريق ذي الجذور الإفريقية. تاكناويت بنفحة يهودية في "بيت الذاكرة" في "بيت الذاكرة" الذي أعيد افتتاحه قبل حوالي سنتين، بعد ترميمه وإعادة بعث الحياة فيه من جديد، ليكون فضاء ملائما لحفظ الذاكرة اليهودية لمدينة الصويرة، كان "الطرح" الكناوي الذي سيقدَّم فيه منسجما مع خصوصية المكان. يتعلق الأمر بنوع معروف لدى المشتغلين في مجال "تاكناويت" ب"الملوك السبتيين" وهو مشتق، حسب بعض الروايات، من حيث التسمية من لفظ "السبت" وهو اليوم المقدس لدى اليهود، الأمر الذي جعل انفتاح الفن الكناوي على هذا المكون العرقي والديني في المغرب، يتم من خلال تخصيص أنغام وترانيم تتماشى مع خصوصية الثقافة اليهودية. وانبرى المعلمان حميد الدقاقي والصدّيق العرش لتقديم الوصلة الموسيقية الكناوية، تم فيها تسليط الضوء على الأبعاد الإسلامية والصوفية والإفريقية واليهودية من خلال إحياء "ملوك السبتيين"، وهو "لملك" الكناوي الذي ترددت أنغامه وإيقاعاته في أرجاء "بيت الذاكرة" بحمولتها الرمزية وما تضمه بين جدرانها من نفائس ثمينة وتحف ومخطوطات وصور تحيل على الذاكرة اليهودية وكأنها تتجاوب مع الأنغام التي عشقها يهود المغرب وتم إبداعها خصيصا لإرضاء مزاجهم الموسيقي الذي يعكس هويتهم. ويتحدث الباحث والناقد الفني أحمد حروز، في هذا السياق، عن خصوصية الصيغة الصويرية لتاكناويت، مشيرا إلى أن التراث الكناوي تشكل بصفة عامة في مختلف مناطق المغرب وحواضره، إلا أنه في مدينة الرياح يتسم بطابع خاص تظهر فيه هوية المدينة وخصائصها وتنوع أعراقها وروافدها الثقافية وهو ما ينعكس على الألوان الموسيقية المستعملة فيها، والتي انطبعت بهذا التعدد وحضرت لمسته فيها. ويقول حروز عن استعمال "لملوك السبتيين" في الصويرة إن هذا الاستعمال والتوظيف نابع من أهمية الحضور اليهودي في هذه المدينة، التي تميزت في فترات من تاريخها بوجود نسبة مهمة منهم تعدت في بعض الأحيان نصف سكانها من المسلمين، وكان من الطبيعي أن يظهر تأثير هذا المكون في نوعية الموسيقى والفنون التي ترعرعت داخل أسوار مدينة الرياح. ويضيف الباحث والفنان التشكيلي إن النكهة الموسيقية لتاكناويت بالصويرة، توزعت بين أشكال مختلفة، أبرزها المرساوي والغرباوي، وتشتمل على "لملوك" نفسهم الذين نجدهم في مدن أخرى إلا أنها تقال في الصويرة وتنشد بطريقة مختلفة، فهناك "ملوك البحر" أو الموساويين توجد فيه تعابير وجمل تفيد التصاق مستعمليه أو مستمعيه بالبحر وعوالمه، وهو ما يجعل تجاوبهم مع هذا النمط يكون بطريقة خاصة بحكم أنه يعكس مزاجهم ويلامسهم في العمق. أما عن "لملوك السبتيين" فإن هذا الطرح الكناوي، يتضمن البعد اليهودي الذي كان يتخلل الصويرة، رغم أنه لم ينشأ بها أول مرة بل ظهر في حواضر مغربية أخرى كان يقطن بها اليهود، لكنه اتخذ نكهة خاصة في مدينة الرياح، وقلة من المعلمين من كانوا يجيدونه منهم مولاي عبد السلام البلغيتي والركراكي الشريف ومحمود غينيا وعبد الله غينيا. وتتخلل طرح "لملوك السبتيين"، يتابع المتحدث نفسه، تعابير وألفاظ تحيل على أولياء اليهود وأسماء التجارمثل موشي ودافيد وغيرهم، علما أن لفظة التاجر لا تحيل بالضرورة هنا على الميسورين أو طبقة الأغنياء، بل كل من يزاول حرفة أو مهنة بها تجارة مهما علا شأنها أو صغر. ومن الطقوس المميزة لهذا اللون الكناوي حضور "الميدة" (أي المائدة الطقوسية) بكل مستلزماتها التي يحضرها اليهود في يوم "السبت المقدس" من مأكولات ومشروبات "كاشير" أي حلال وفق المعتقد اليهودي، إضافة إلى البخور المرافق لهذا الطقس الذي يعكس في النهاية وجها من وجوه التعايش بين المكونات الثقافية والدينية المغربية، لدرجة أن فن كناوة الذي تطور داخل فضاءات الزوايا الدينية وانطبع بمعجمها الديني في المديح النبوي، لم يجد أصحابه ومعلموه غضاضة في الانفتاح على مكون ديني آخر وتقديم ترانيم واستعمالات نغمية خاصة به وبالمنتمين إليه.

الصويـرة تستعيـد نبـض “تاكناويـت “

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

صفقات أسواق نموذجية أمام القضاء

المحمدية يستعيد التوازن

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات