زنقة القاهرة بالبيضاء … صدى الإبداع يرتد بألحان المأساة

مظاهر الترييف وتجارة المخدرات تغزو زنقة جرت بذكرها أعمال مبدعين في الرواية والسينما والشعر تعد "زنقة القاهرة" واحدة من الفضاءات الشهيرة بدرب السلطان بالدار البيضاء، التي أنجبت العديد من الأسماء المتألقة في مجالات عديدة، كما أنها كانت إلى عهد قريب مجالا تساكنت فيه فئات اجتماعية مختلفة، طبعت هذه "الزنقة" بطابع خاص، جعلها مميزة عن بقية الفضاءات الشعبية بدرب السلطان، قبل أن يتغير حالها في السنوات الأخيرة، وتصبح مرتعا للباعة المتجولين وفضاء لترويج المخدرات وأقراص الهلوسة، أمام دهشة أبنائها الذين يتحسرون على ماضيها التليد "هاذي راها ولات زنقة "القهرة" ما شي "القاهرة" آولدي" بنبرة منقوعة في الألم الممض، اختارت "السعدية" (امرأة في منتصف العقد السادس من عمرها) التعبير عن الوضع الذي آلت إليه "زنقة القاهرة"، بعد أن تناهى إلى سمعها صدفة اسمها أثناء حديثي مع بعض أبناء هذه "الزنقة" الشهيرة بحي درب السلطان بالبيضاء.استرسلت "السعدية" في حديثها قائلة "ولينا غارقين وسط "الكرارس والإجرام حتى ولينا نحشمو نكولو راحنا من زنقة القاهرة..." لم تكن شهادة هذه المرأة إلا نموذجا لشهادات عديدة صبت جلها في اعتبار أن واقع "زنقة القاهرة" التي جرت بذكرها أعمال مبدعين في الرواية والسينما والشعر، لم يعد يسرّ "أبناءها الحقيقيين" الذين ما زال بعضهم مصرا على عدم مبارحتها، أو من الذين ضاق بهم ما آلت إليه من وضع مزر حتم عليهم مغادرتها إلى وجهات أخرى، وظل الحنين إلى أيام "الزنقة" الخوالي وماضيها التليد.تمتد "زنقة القاهرة" يسارا من ساحة السراغنة، مفضية إلى شارع محمد السادس (طريق مديونة سابقا) وتخترق المجال الشهير لدى سكان درب السلطان بدرب "الشرفا والطلبة'. "الزنقة" التي كان الهدوء يكتنفها، وانطبعت في فترة من تاريخها، بطبائع سكانها الذين كانوا ينتمون إلى شرائح مختلفة، وضمت عائلات عريقة جعلت "الزنقة" تعيش وضعا اعتباريا خاصا، ميزها عن بقية أحياء درب السلطان العريقة.أما الآن فقد غزت مظاهر الترييف والبدونة كل أرجاء "زنقة القاهرة" بدءا بالحجم الهائل لعربات بيع الفواكه والخضر التي تستقبل الداخل إليها من جهة "ساحة السراغنة" ما يكشف حجم التسيب الذي طبع هذا الفضاء ومؤشرا على تسيب أكبر واحتلال فظيع للملك العام سيكتشفه كل من حاول التوغل قدما وسط "زنقة القاهرة" التي نبتت على ضفافها محلات بيع الأكلات الخفيفة كالفطر، وبشكل عشوائي، وبمجرد ما تتقدم قليلا تفاجأ بحجم الأزبال المتراكمة على جانب الطريق، خاصة قرب ألواح وضعت حاجزا لورش بناء يتعلق بإقامة سكنية جديدة أُحدثت وسط الزنقة على أنقاض "رياض" كان يعرف لدى السكان ب"رياض السقاط". وفي قلب "زنقة القاهرة" تنتصب إمارة الباعة المتجولين التي حولت الزنقة إلى سوق "قروي" للخضر والفواكه، بعرباتهم المجرورة أو الطاولات الخشبية القارّة التي توحي أن لا أحد بإمكانه "تحريكهم" من هناك، إضافة إلى الروائح المزكمة للأنوف بسبب تجاور محلات بيع الدجاج "المذبوح والحي" وطاولات بيع السمك، بشكل جعل الجميع يتواطأ على تحويل الزنقة التي كانت بالأمس القريب ملهمة المبدعين، إلى ملتقى لأصناف بشرية أمعنت في التمثيل بها وجعلها مثالا حيا على التدهور الذي أصاب أحياء الدار البيضاء، ومنها على وجه الخصوص حي درب السلطان. عامر وبلخياط كانا يترددان على "زنقة القاهرة" عبد اللطيف لطيف، صاحب محل للحلاقة، لم يخف تذمره من الوضع الذي آلت إليه زنقة القاهرة" قائلا "لقد كانت فضاء راقيا وهادئا، تميز بانتشار صالونات الحلاقة والتجميل فيه، وكان يأتي إلى هذه الزنقة مشاهير اعتادوا أن يستسلموا في ثقة لأدوات الحلاقين هنا، منهم الملحن الراحل عبد السلام عامر والفنان عبد الهادي بلخياط اللذان كانا يترددان على صالون "نجدي" الموجود في بداية الزنقة من جهة الساحة، كما كانت هناك محلات أخرى لبيع الأدوات الموسيقية يجتمع فيها الفنانون مثل محل رحال "الكمنجاتي" وغيرها".أما "م . س" وهو حلاق آخر فقد اعتبر أن "زنقة القاهرة" أضحت عاصمة لترويج "أقراص الهلوسة" الشيء الذي رفع معدلات الجريمة بها، وعجل برحيل سكان الزنقة الأصليين، وحلت محلهم أفواج جديدة.ويقول "م . س" "جل العائلات التي كانت معروفة بالزنقة غادرتها، لقد كانت ملتقى لعائلات عريقة رفعت مستواها وجعلتها فضاء لا مثيل له بين أحياء درب السلطان، منها عائلات فاسية كانت تقطنها مثل عائلة السقاط وبلمليح والعلمي، إضافة إلى عائلة "كوباش" الذين كان يزورهم الفنان الشعبي الراحل بوشعيب البيضاوي ويحيي في منزلهم سهرات غنائية ظلت موشومة في ذاكرة أبناء درب الشرفا والطلبة عموما، حيث توجد زنقة القاهرة، فضلا عن عائلة بلحمر التي كان أحد أفرادها مديرا لسينما "لوتيسيا" وعائلة "أكنكاي" وغيرهما"."ومن أبرز المشاهير الذين نشؤوا على ضفاف زنقة القاهرة، يضيف "م . س"، هناك الفنانة الراحلة رجاء بلمليح التي رأت النور بهذا الحي، وبه درست، وكانت حريصة حتى بعد أن انتقلت منه، على زيارته بين الفينة والأخرى". حياك: زنقة القاهرة فقدت قيمتها الرمزية يعد رشيد حياك، مدير محطة "شدى إف إم" والمدير العام لمؤسسة "تسجيلات القاهرة" أحد أبناء درب الشرفا، حيث توجد زنقة القاهرة، والذي اعتبر في حديث مع "الصباح" أن "زنقة القاهرة" تعد بالنسبة إليه فضاء شعبيا بامتياز، سادت فيه قيم نبيلة تقاسمتها العائلات التي كانت تعيش فيها، وأفرزت لنا أسماء لامعة في مجالات مختلفة مثل الراحلة رجاء بلمليح ونور الدين مفتاح وسعيد موسكير ومصطفى الحداوي والمعطي بوعبيد وغيرهم". ويضيف حياك أنه حرص على جعل اسم الشركة التي أسسها ب"تسجيلات القاهرة" عرفانا بما أسداه إليه هذا الفضاء الذي نشأ وترعرع فيه، وتعلم منه أشياء كثيرة، قبل أن تتغير الأمور نهاية التسعينات بهذا الفضاء الذي غادره سكانه الأصليون بفعل اكتساح مجموعة من الظواهر السلبية له على رأسها انتشار الباعة المتجولين وترويج المخدرات الشيء الذي أفقد زنقة القاهرة قيمتها الرمزية التي كانت لديها. "زنقة القاهرة" موضوعا للسينما "زنقة القاهرة" ليس فقط اسم زنقة شهيرة بدرب السلطان، بل هو اسم شريط سينمائي بتوقيع المخرج عبد الكريم الدرقاوي سنة 8991، اختار فيه الاحتفاء بهذا الفضاء الذي يعتبره ذا رمزية خاصة بالنسبة إليه.يقول الدرقاوي، في حديث مع "الصباح"، إن اختياره الاشتغال على فضاء "زنقة القاهرة" لم يأت اعتباطيا، بل "لما كانت تمثله هذه الزنقة في أذهان العديد من المبدعين والفنانين الذين ترددوا عليها أيام عزها".ويضيف "كريمو"، كما يناديه بذلك أصدقاؤه المقربون، "رغم أنني لم أولد فيها، إلا أنني كنت مشدودا إلى هذا الفضاء الذي كان قريبا من درب العفو بدرب الكبير الذي قدمت إليه نهاية الخمسينات من مدينتي الأصلية، خاصة أن زنقة القاهرة كانت معقلا للفنانين ورجال المقاومة، كما أن الانتفاضات التي حدثت في مغرب ما بعد الاستقلال كان لأبناء هذه الزنقة نصيب فيها". ويردف المخرج المغربي أن فكرة الفيلم اشتغل عليها رفقة الراحل العربي باطما وعبد الرحمن بلخياط، وكانت قصة الفيلم التي كتبها باطما حول أحداث الدار البيضاء 1891، إلا أنه لاعتبارات رقابية لم يكن ممكنا تسميتها كذلك، فتم تحوير أحداث القصة وكأنها جرت نهاية الخمسينات". وأضاف الدرقاوي أنه لحظة تقرر تصوير الفيلم، أواسط التسعينات، فوجئ بالحالة المتردية التي أصبحت عليها "زنقة القاهرة" ولأسباب أمنية وجمالية كان من المستحيل أن نصور فيها أحداث الفيلم، فاضطررنا إلى الانتقال إلى الأحياء المجاورة بدرب السلطان حتى يتسنى لنا التصوير في ظروف ملائمة عملا نحتفي فيه بهذا الفضاء الذي آسف كثيرا على الوضع الذي صار فيه. بوسريف: زنقة التناقضات الشاعر والأديب صلاح بوسريف، أحد أبناء درب الشرفا والطلبة القريب من "زنقة القاهرة" قال "بالنسبة إلي كانت زنقة القاهرة من أجمل الأزقة بدرب الشرفا، بما تميزت به من نظافة ونوعية السكان، إضافة إلى ما كان يوجد بها من محلات تجارية أضفت على الحي حركية مهمة".ويضيف بوسريف "لكن سيحدث نوع من الانقلاب في هذا الحي، خاصة سنوات الثمانينات، مع ظهور المخدرات وأقراص الهلوسة، فصار الجزء السفلي لزنقة القاهرة المطل على شارع محمد السادس (طريق مديونة سابقا) مكانا خطيرا مستولى عليه من قبل مروجي المخدرات وأقراص الهلوسة، وهناك تحدث اشتباكات خطيرة".ويعود صاحب ديوان "فاكهة الليل" بذاكرته إلى ما يسميه "الماضي الجميل لزنقة القاهرة" قائلا "لقد كانت فضاء تعايشت فيه فئات من الطبقة الوسطى ضمت رجال التعليم والموظفين والمحامين والقضاة، قبل أن تنقلب الأمور فيها وتصير فضاء ينتج نقيض هؤلاء، أي أشخاصا ينتقلون من هذا الحي إلى السجن، أو العكس، الشيء الذي فرض على زنقة القاهرة ظهور أجيال تأثرت فقط بالجانب السلبي للزنقة، الشيء الذي أفرز جحافل من الباعة المتجولين الذين إما حجوا إليها من مناطق مختلفة أو تشكلوا من بعض من تخرجوا من السجن ودخلوا في مساومات مع السلطة، بفرض بضاعتهم وطاولاتهم أو العودة إلى الاتجار في المخدرات". إنجاز: عزيز المجدوب

زنقة القاهرة بالبيضاء … صدى الإبداع يرتد بألحان المأساة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

فوائد ممارسة الرياضة على مرض السكري

أبحاث لكشف المتورطين في كتابات حائطية بتطوان

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات