أحياء “الكراجات” تعوض أحياء الصفيح بالبيضاء

مآسي أسر تكتري محلات في انتظار تسليمها البقع الأرضية بسيدي مومن بإمكان وزارتي الداخلية والإسكان أن تتحدثا اليوم عن كاريان السكويلة بالبيضاء بصيغة الماضي. وبإمكانهما أن تتفاخرا إحصائيا وتقولا إنهما على بعد بضع براكات لتطويا ملف صفيح البيضاء، إلا أن محمد حصاد ونبيل بنعبد الله لن يستطيعا طويلا الاحتماء بالمنجزات والتقارير الورقية، التي تشير إلى أن 7332 رحلوا من دوار السكويلة، وأن آخر براكاتهم سويت بالأرض، لأن المئات منهم لم يلجوا بعد أبواب إعادة الإيواء ورحلوا قسرا من "براكات" إلى "كاراجات". كثبان الرمال وأكياس الإسمنت التي تأخذ مساحات من كل زقاق، تشير إلى أن أشغال البناء في حي السلام 1 بعمالة سيدي البرنوصي بالبيضاء، لم تنته بعد، ومازالت بعض الأسر المستفيدة من بقع أرضية في إطار إعادة إيواء سكان دوار السكويلة، تعيش في عمارات غير مكتملة البناء، إلا أن هذه ليست المشكلة التي يجب أن تقلق راحة الوالي الجديد ومحمد ساجد عمدة المدينة، التي كانت محور الخطاب الملكي، وكل المؤسسات المشرفة على مشاريع إعادة الإيواء، خاصة تلك المشرفة على مشاريع إعادة إيواء سكان دور الصفيح. بل هي وضعية مئات الأسر التي نقلت قسرا من كاريان أثثت أغلب أزقته بنايات إسمنتية وعدد قليل جدا من دور القصدير، إلى "كراجات" شديدة العتمة والبرد، ولا تحتفظ لسكانها، بأي حميمية، وهنا بالضبط يخسر العيش بكرامة معناه، ويفقد مصداقيته، خاصة حين تتقاسم عدة أسر "كراجا" واحدا.ستائر...لن تكون الحفر المنتشرة في الأزقة أو بقايا مواد البناء الهم الأكبر الذي يوقظ فيك الحذر، مخافة أن تدفن قدمك في إحداها، بل تسرق الستائر المتطايرة على امتداد الزقاق كل اهتمامك، والأجساد التي تدخل وتخرج عبرها، تاركة ثغرات صغيرة تتسلل عبرها نظرات الفضول إلى عمق هذا الاختراع السكني الذي خرج من رحم حاجة إلى الستر، في انتظار أن يثبت المسؤولون جدارتهم بمسؤولية تسيير وتدبير مشاريع إعادة الإيواء.يكاد الإدريسي مولاي الحسن يتعثر، وهو يندفع إلى الخارج بجسده النحيل، مبعدا الستارة التي ترفرف وتعترض بصره. "كذابون، قالوا لنا تدبروا حالكم لبضعة أيام، وها قد مرت أشهر"، يقول مولاي الحسن، قبل أن يدعو زواره إلى الدخول.صحيح أن الأمر يتعلق ب"كراج" حين تتفحصه من الخارج، لكن ما أن تتقدم خطوة وراء الستارة حتى تصعقك وجوه عشرات المخاطر التي تنام في فراش سكان هذه "الكراجات"، وتتدفق من ذاكرتك صور الأسرة التي قضت نحبها في أحد كراجات بن امسيك، وقيل وقتها "إنها حالة استثنائية" و"لا وجود لسكان الكراجات بالبيضاء". فالموت في "كراج" الإدريسي يتنكر في قنينة الغاز الصغيرة الملقاة عند الباب، والمتصلة بفرن صغير قديم لا تفصله إلا بضعة سنتيمات عن فراش النوم. وإن فشلت القنينة في تهديد حياة سكان هذا "الكراج"، فإن الأسلاك الكهربائية المتدلية من السقف بشكل عشوائي تتربص بأبسط خطأ أو حادث لتنهي حياة الأسرة الصغيرة. وإن عجزت هذه وتلك، فإن أثقال الأمتعة المتراكمة هنا وهناك بالطريقة الوحيدة التي تتيحها مساحة المكان، ستعطي لسقوطها على أجساد السكان الهزيلة وصف الحادث القاتل.لا يرى الإدريسي مولاي الحسن في كل تلك المخاطر المحدقة به، أي تهديد، بقدر ما يراه في الركن المعتم الذي لا تصل إليه إضاءة المصباح الكهربائي الوحيد، ليستخدم الرجل شمعة كلما آوى إلى هذه الزاوية التي ينام فيها والملاصقة لمرحاض صغير، "كل يوم وأنا أقبل على النوم أخشى أن أنسى الشمعة أو تنساها زوجتي، وبت أخشى الموت بنوبة قلبية لأن هذا المكان رطب جدا، ولا تصله أشعة الشمس أبدا، ولأني مصاب بأمراض في القلب والمعدة فإني أخشى أن تتضاعف حالتي نتيجة النوم في هذا الركن قرب المرحاض".وفيما كان الرجل يتحدث ويبحث في أكوامه المتناثرة في كل مكان عن وثيقة ما، فإن زوجته السعدية تضع بطريقتها الخاصة نقطة نظام، وهي تشير إلى ضيق مساحة "الكراج" الذي كان مخصصا لأسرتين، وتضيف أنها وزوجها قررا أن يتركا أبناءهما عند الأقارب، "شي هنا وشي لهيه" وذلك بعد أن استحال عيش الأسرة مجتمعة في مكان واحد. الجــــرافــــات قبــــل البقــــع "هذه هي" يحمل الإدريسي وثيقته، "في هذا التاريخ دفع شريكي في البقعة الأرضية التي كان يجب أن نتسلمها، مبلغ 70 ألف درهم، لكن مازلنا ننتظر". حين هوت الجرافات على آخر ما تبقى من "براكات" ومنازل السكويلة، وتقدم مسؤولون محليون إلى قلب دائرة أضواء الكاميرات ليؤكدوا أنه ما عاد للكاريان وجود، وأن السكان انتقلوا إلى بيوت مكتراة للعيش فيها بسلام، في انتظار استكمال تفاصيل صغيرة في عملية تهيئة البقع وتجزيئها، في ذاك الوقت كانت الأسر المطرودة بقوة عضلات عناصر التدخل السريع تصرخ أنها ستبيت في العراء، وأنه ما كان على السلطات الإسراع في إجلاء السكان قبل الانتهاء من عملية التهيئة، وتقسيم البقع، لكن خرجت التصريحات دون كشف هويات أصحابها لتفند ذلك، وتؤكد أن الأمر يتعلق ب"دموع التماسيح"، وأن السكان استفادوا من مبالغ مالية لكراء بيوت في انتظار تسليمهم البقع، وبنائها من قبل مقاولين."ليلتها كنت أعلم أن أولادي سيبيتون في الشارع، تفرقت الحشود التي أتت لاستنكار إجلائنا بهذه الطريقة، وعاد الصحافيون إلى بيوتهم، وظهر مكانهم ملاك الكراجات". أغلق باب "البراكة" وفتحت نوافذ "الكراجات"، "وصلت الأثمنة إلى سقف خيالي، كانت "الكراجات" تكترى بثلاثة آلاف درهم، واضطرت الأسر إلى تقاسمها للتغلب على السومة الكرائية" يقول قاطن في كراج لا يزيد طوله عن متر ونصف وأقل من ذلك عرضا، إذ قسم المالك المساحة إلى عدة كراجات ليتسنى له كراؤها بأثمنة مرتفعة، قبل أن تخفض الأثمنة بعد تدبر بعض السكان أحوالهم. قد تكون بعض الأسر لجأت إلى عائلاتها، إلا أن ذلك لا ينطبق على الجميع، خاصة أولئك الذين تقطن عائلاتهم في مدن ومناطق أخرى، "رغم ذلك تركت أبنائي هناك في البادية عند عائلتي، إلى أن عثرت على كراج بثمن مناسب، وأعدتهم للدراسة". انتحارات وطلاق وعداوات أسرية لم يطو ملف الاستفادة على رضى، بل إن هناك عشرات الحالات التي تعتبر نفسها مقصية من الاستفادة، رغم أنها من سكان الكاريان الأولين، "هناك العشرات، حل محلهم آخرون لم يقطنوا في الحي إلا قبل بضع سنوات، لكن هناك آخرين تم إقصاؤهم وقد نبهنا السلطات المشرفة على العملية بذلك دون جدوى" يقول مصطفى امحينينة. ما وصفه الفاعل الجمعوي بالإقصاء أدى إلى محاولتي انتحار، إحداهما أودت بحياة شاب، وأب لثلاثة أطفال، والثانية نجا صاحبها بأعجوبة. "انتحر ابني وترك أبناءه يتامى"، تقول أم الشاب يوسف معزوز الذي تناول أقراصا سامة ليضع حدا لحياته، بعد خصام مع أحد رجال السلطة. تتقاسم الأم حاليا كراجا مع بعض أبنائها المتزوجين وأصهارها، إذ لم تتسلم بعد بقعتها "منحنا أحد الملاك هذا الكراج، كنا في منزل مكون من طوابق مبني بالإسمنت، كنا نعيش حياة جيدة، لأننا لم نكن نعيش في القصدير، لكن حالتنا اليوم مأساوية". مشكل الاستفادة الذي طرحته العائلات المركبة، تجسد أيضا عند عائلات معتقلي السلفية الجهادية، إذ تم تشطيب أسماء كل متورط في ملفات الإرهاب من لائحة المستفيدين، واضطرت زوجاتهم إلى البحث عن مآو أخرى بعد هدم براكاتهن في غياب الأزواج المعتقلين. الاختلاف في بيوت العائلات المركبة، أدى كذلك إلى خلافات زوجية وصل بعضها إلى حد الطلاق. مضت مواسم حارة قضاها سكان الكراجات في ما يشبه الأفران، وحل الخريف ومازال الشتاء متضامنا، يشد إليه عفاريت برد قارس، إلا أن ذلك لن يدوم طويلا قبل أن يجد السكان أنفسهم ينامون في ما يشبه العراء، وهذه وضعية مئات الأسر التي اعتبرت مشكلتها على وثائق الترحيل الرسمية محلولة، فيما مازالت تنتظر أن يفي المسؤولون بوعودهم ويسلموها البقع الأرضية للشروع في البناء والخروج من عتمة "الكراجات". جيران صفيح سابقون... ملاك مكرون جدد قد يكون حياد السلطة وبراغماتيتها وهي تنفذ قرار الإجلاء معتادا في عدة تجارب أخرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعزم على إبادة دور الصفيح، لكن ما لم يعتده سكان الكاريان، هو تلك القسوة التي أظهرها في وجوههم ملاك "الكراجات"، وهم ليسوا سوى سكان سابقين للكاريان نفسه، استفادوا من بقع وبنوها وعرضوا "كراجاتهم" لجيرانهم القدامى بأسعار ملتهبة، مستغلين حاجتهم الملحة إلى مكان يأوون إليه ليلة الإفراغ، وما يليه من أيام في انتظار استلام البقع وبنائها."كنت أكتري كراجا سومته الكرائية مرتفعة، لكني عثرت في ما بعد على هذا سومة نصفه فقط ألف ومئتا درهم" يقول الإدريسي، قبل أن يشير إلى زوجته السعدية التي مازالت ترتدي وزرة فقدت بياضها، وعلقت بها أوساخ وبقايا تنظيف عمارات مجاورة، "تشتغل زوجتي في تنظيف أدراج العمارات، مقابل ألف درهم، ونتدبر الباقي من المحسنين، لأنني عاطل عن العمل، ومريض". تقليد تحول إلى قانوناتبعت الجهات الوصية على إعادة إيواء سكان الكاريانات تقليدا أصبح بالنسبة إلى السكان قانونا يحتكمون إليه وهم يتحدثون عن الاستفادة ومشاكل الإجلاء، "بمجرد اتفاق الأسرة المستفيدة مع المقاول أو الشريك الذي سيبني المنزل، يؤدي هذا الأخير التسبيق المحدد في سبعين ألف درهم، أي ثلاثة ملايين ونصف عن كل أسرة، إذ تستفيد كل أسرتين من بقعة مساحتها 84 مترا مربعا، لكن عند إفراغ "البراكة" تسترجع الأسرتان مبلغ عشرة آلاف درهم، تتقاسمها بالتساوي لصرفها في كراء شقة لمدة قصيرة في انتظار تسلم البقع، ثم تتسلم الأسرتان مبلغ مليون ونصف لكل واحدة، في انتظار استكمال عمليات البناء، ويبقى للشركة المشرفة على عملية إعادة الإيواء ثلاثة ملايين سنتيم من إجمالي المبلغ". بهذه الطريقة كانت عملية الترحيل تتم بسلاسة، وكانت الأسر تستغل المبلغ المسترجع في الكراء، لكن "بعد غضبة ملكية على مسؤولي البيضاء صدرت أوامر صارمة بضرورة إعدام الكاريان في أسرع وقت ممكن" يقول أحد السكان.نجحت السلطات في إفراغ الحي ووضعت نقطة نهاية ل"السكويلة" العريق في البيضاء، لكنها لم تنجح في تدبير أزمة العراء التي وجد عليها السكان أنفسهم بعد إجلائهم. "طردنا"، تقول خديجة نعوم، في الستين من العمر، أرملة وأم لابنة واحدة، "تنقلت بين بيوت الأقارب، قبل أن أكتري جزءا من "كاراج"، بمبلغ 800 درهم، لم أؤد ولا درهما منها، بذمتي الآن ثمانية آلاف درهم، لا أعرف كيف سأتدبرها للمكري" تستسلم خديجة لآهة إذلال، ثم تضيف "وحدهم أبناء شقيقتي ينفقون علي، وبت أخشى أن أطرد من "الكراج" هو الآخر بعد أن أنفقت بعض مدخراتي في تقسيمه إلى مرحاض صغير حتى لو أنه مكشوف، ومطبخ أو بالأحرى ما أسميه مطبخ".سنة ونصف ولم يظهر بعد التصميم، "من هنا يظهر أن السكان سيقضون أشهرا إن لم تكن أزيد من سنة في "الكراجات" وستتضاعف محنتهم أكثر، بل إن عدة ظواهر اجتماعية بدأت تنبت من هذا النوع الجديد من المحلات السكنية. وهذه خلاصة ما أشار إليه مصطفى امحينينة، فاعل جمعوي بسيدي مومن، وأحد ممثلي سكان السكويلة السابقين في حوارات مع السلطات المحلية، قبل أن يضيف أن "السلطات خاطرت بحياة مئات الأسر وهي تقحمهم في مثل هذه التجربة، وتركتهم للمعاناة في ظروف مأساوية، كما خاطرت بتحويل هذه الكراجات إلى مشتل لعدة ظواهر بدأت تنبت مع هذا النوع الجديد من السكن". إنجاز: ضحى زين الدين

أحياء “الكراجات” تعوض أحياء الصفيح بالبيضاء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"ألزا" الإسبانية تحل أزمة النقل بطنجة

الفريق الاستقلالي يحاكم رباح بسبب جرف الرمال

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات