العماري: تأملات في مدونة الأخلاقيات القضائية

سلوك المرشحين في الحملات الانتخابية والحياد في إدارة العملية الانتخابية يعتبران من بين أهم النواقص التي شابت المدونة نظم دستور المملكة لسنة 2011 السلطة القضائية وأفرد لها بابا خاصا بها، وكان حريصا على ضمان استقلالها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولأجل تحقيق هذه الغاية حرص الدستور على تأكيد حق القضاة في ممارسة حرية التعبير بشكل فردي أو ضمن جمعيات مهنية. كما أحال على إصدار قانونين تنظيميين أحدهما يتعلق بالنظام الأساسي للقضاة والثاني بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. كل ذلك من أجل ضمان تنظيم تشريعي للسلطة القضائية وللمجلس المعهود إليه بتدبير وضعية القضاة يراعي المبادئ الدستورية الهادفة إلى ضمان حقوق القضاة وتأطير واجباتهم بشكل يرمي إلى تمكين السلطة القضائية من ممارسة مهامها على أكمل وجه. ثانيا: سؤال الصياغة والأسلوب وجب القول كذلك إن الغموض واللبس اللذين يشوبان الطبيعة القانونية للمدونة كان يفرض صياغتها بأسلوب يصطبغ بالعمومية والتجريد – شأنها شأن القواعد القانونية التي تكون دقيقة الصياغة -ويبتعد عن التخصيص والتجسيد وضرب الأمثلة من جهة أولى، كما ينأى في الوقت نفسه عن التعميم الذي يحيل على مفاهيم فضفاضة غير دقيقة من جهة ثانية. وهو الأسلوب المزدوج الذي لمسناه من خلال عدة مقتضيات. ندلل له في ما يخص منحى التخصيص وضرب الأمثلة من قبيل ما جاء في المادة 29 منها الواردة في إطار الفصل التاسع المتعلق بقيمة التضامن: يحرص القاضي على ممارسة التضامن المسؤول الذي يضمن تأمين استمرار مرفق القضاء، ويعمل على ضمان حسن سيره من خلال الامتناع عن وقف أو عرقلة عقد الجلسات أو السير العادي للمحاكم أو تنظيم وقفات احتجاجية. يلاحظ من خلال تعاطي المدونة مع قيمة التضامن -التي من المفروض أن تكون حافزا على تجسيد مؤازرة القضاة بعضهم بعضا للدفاع عن استقلال السلطة القضائية على وجه الخصوص -أنه جنح إلى إفراغ هذه القيمة من محتواها عبر تقييده لمفهوم التضامن وربطه بالمسؤولية من جهة أولى والحال أن الموقع الطبيعي للتضامن هو ممارسة حرية الرأي والتعبير. ومن جهة ثانية عمل على ربط المبدأ المذكور بضمان حسن سير القضاء من خلال التأكيد على امتناع القضاة عن وقف او عرقلة الجلسات أو السير العادي للمحاكم، وهي الالتزامات التي تم التنصيص عليها من خلال القانون التنظيمي بمثابة نظام أساسي للقضاة وما كان ينبغي للمدونة أن تكون ملكية أكثر من الملك نفسه، حينما أضافت منعا إضافيا وهو الامتناع عن تنظيم وقفات احتجاجية. ذلك أن النظام الأساسي للقضاة وإن منع القضاة من ممارسة حق الإضراب نظرا لأنه قد يؤدي إلى عرقلة سير المحاكم أو يخل بحسن سير مرفق القضاء عموما، إلا أنه لم يقيد حرية القضاة في ممارسة الوقفات الاحتجاجية أو غيرها من الأشكال التعبيرية التي تندرج ضمن الحقوق الأساسية التي ضمنها الدستور. وبمفهوم المخالفة فإن تنظيم القضاة لوقفات احتجاجية يعتبر بمثابة إخلال بحسن سير مرفق القضاء وهو مفهوم لا يستند إلى أي سند قانوني سليم. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن المادة 23 من خلال تفسير واجب التحفظ وخاصة عند استعمال شبكات التواصل الاجتماعي: يلتزم القاضي بدرجة عالية من الحذر عند التعبير عن آرائه ومواقفه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أفصح عن صفته القضائية أم لا، وسواء تعلق الأمر بالشأن القضائي أو بحياته الخاصة أو بأي شأن آخر. وهذا المثال دليل صارخ على تقييد حرية التعبير وتقييد الحياة الخاصة في الوقت ذاته دون بيان مبرر مقبول، ولاسيما وجه تأثير ذلك على سمعة القضاء أو نزاهته أو حياده أو استقلاله. وندلل على الأسلوب الثاني الذي اعتمد منهج التعميم عبر استعمال عبارات فضفاضة وغير دقيقة من خلال التعريف بواجب التحفظ ووضع تطبيقات له في مجال الرأي والتعبير بما ورد في المادة 23من المدونة التي نصت على أن: ...مع ضرورة الإشعار المسبق للرئيس المنتدب وكذا لرئيس النيابة العامة بالنسبة لقضاة النيابة العامة عند إجراء المقابلات الإعلامية والإدلاء بالتصريحات الصحافية، باستثناء القضاة المعينين للتحدث باسم المؤسسات القضائية والقضاة ممثلي الجمعيات المهنية المخول لهم وفق أنظمتها الأساسية التحدث باسمها عند التطرق إلى أنشطة جمعياتهم ومجالات اشتغالها. فمما يستنتج من خلال هذه الفقرة أن الإدلاء بأي تصريح للصحافة أو إجراء أي مقابلة مع وسائل الإعلام يستلزم وجوبا حصول القضاة على إذن من الرئيس المنتدب أو رئيس النيابة العامة باستثناء المسؤولين القضائيين وممثلي الجمعيات المهنية للقضاة. فهذا التقييد لم يرد بتاتا في القانون التنظيمي بمثابة نظام أساسي للقضاة بل ويعتبر خرقا للدستور فيما كفله وضمنه من حرية للرأي والتعبير. وكان من المستساغ قانونا أن يتم فرض هذا الإذن إذا تعلق الأمر بالتصريحات الصحافية والمقابلات الإعلامية التي يشارك فيها القاضي بصفته القضائية مناقشا لملفات ذات طبيعة قضائية حرصا على عدم التأثير على دعاوى أو مساطر قضائية رائجة أمام المحاكم مثلا. أما أن يفرض هذا القيد على إطلاقه وأن يتعداه إلى التدخل كذلك في الشؤون الجمعوية الداخلية ويفرض على أعضاء الجمعيات المهنية للقضاة عدم إجراء المقابلات الإعلامية والتصريحات الصحافية إلا من طرف الأشخاص الممثلين لها بحسب أنظمتها الأساسية ويحرم باقي القضاة من حق التواصل مع الإعلام، فهو أمر لا سند له من القانون علما أن القانونين التنظيميين للنظام الأساسي للقضاة وكذا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية قاما بتنظيم واجبات القضاة والتزاماتهم ولم يفرضا قيودا على القضاة في هذا الموضوع. ثالثا: سؤال الشمولية والمضمون وجب التذكير بما سطرته المدونة في الفقرة الأخيرة من ديباجتها من أن المبادئ التي تضمنتها وتطبيقاتها المعدودة وردت على سبيل المثال وليس الحصر. وهو أمر قد يحمل على معنيين: أولهما أن الأمثلة الواردة ليست حصرية وإنما يمكن القياس عليها علما بأنه لا يجوز القياس في موضوع التأديب شأنه شأن التجريم إذ لا جريمة إلا بنص. والثاني أنها لم تشمل كل المواضيع وبهذا المعنى فإن عدم تنظيم أمور معينة وإغفال ذلك لا يعني أنها مشروعة أو مباحة. غير أن الملفت للانتباه أنه ما كان للمدونة أن تغفل عن تنظيم بعض السلوكات التي قد تصدر عن بعض الفئات من القضاة وخاصة فئة المسؤولين القضائيين وكذا أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالنظر إلى الوضعية الخاصة التي تميز مراكزهم من جهة والصلاحيات التي يتمتعون بها وتميزهم عن باقي القضاة من جهة أخرى. وكان من الواجب على المدونة أن تتطرق إلى بعض التصرفات المحتملة من طرف هاتين الفئتين ولو على سبيل المثال من قبيل علاقة المسؤولين القضائيين بالقضاة الذين يشتغلون معهم بالمحاكم وعدم التأثير عليهم ولو معنويا، وكذا الالتزامات الخاصة بأعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية وكيفية تحصين مهامهم من كل سلوك أو تصرف قد يمس بواجبهم في الحياد والتجرد والتحفظ. بالإضافة إلى ما ذكر فإن عدم تناول بعض المحطات الأساسية في تشكيل المجلس الأعلى للسلطة القضائية عبر انتخاب أعضائه القضاة وعدم تسطير قواعد توجه سلوك المرشحين في الحملات الانتخابية وكيفية التعريف بأنفسهم وتحدد ضمانات المساواة الشفافية والنزاهة والحياد في إدارة العملية الانتخابية من أولها إلى آخرها يعتبر من بين أهم النواقص والإغفالات التي شابت المدونة وكان حريا بواضعيها أن يركزوا على هذه الأمور التي لها تأثير على نجاعة المجلس نفسه ودوره الريادي في دعم جهود التطهير والتخليق. كانت هذه بعض الإشارات السريعة التي حاولنا من خلالها التعبير عن وجهة نظرنا في الموضوع. وهي ملاحظات لا تبخس المجهودات التي بذلت في إخراج هذه المدونة التي تعتبر بحق حدثا تاريخيا في مسار تطور القضاء المغربي، بقدر ما هي نابعة من واجب الأمانة التي تطوقنا وما يفرضه من التزام بالنصح والتناصح. * عضو نادي قضاة المغرب

العماري: تأملات في مدونة الأخلاقيات القضائية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إيقاف "بزناس" بمراكش

نيمار يخطف الأنظار

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات