الأشقري: الݣرݣرات … من الممر المريب إلى المستقر الآمن

من المعلوم أن المملكة المغربية تعرضت منذ قرون، لاسيما منذ القرن التاسع عشر، إلى اعتداءات على أراضيها واقتطاعات متوالية، بلغت منتهاها عندما فرضت على المملكة، معاهدة الحماية الفرنسية ومعاهدة الحماية الإسبانية سنة 1912، كما تم إيجاد مخرج خاص بمدينة طنجة وذلك بوضعها تحت إدارة دولية، أصبحت سارية المفعول منذ 1923. وبعد ذلك توالت الأحداث في الاتجاه الآخر، اتجاه التحرير واستعادة الاستقلال تحت قيادة الملك المجاهد محمد الخامس طيب الله ثراه. لكن الدولتين الحاميتين لم تمكنا المملكة المغربية من بسط سيادتها على كافة ترابها الوطني ضمن حدودها التاريخية. فكانت المملكة المغربية مضطردة إلى مواصلة المطالبة بباقي أجزائها الترابية، حيث حصلت – على مراحل – على استعادة كل من مدن طنجة وطرفاية وسيدي إفني، وأخيراً الأقاليم الجنوبية، ولازالت أجزاء أخرى من التراب الوطني تحت السيطرة الأجنبية. ولا شك أن المملكة المغربية بفضل توجهاتها الاستراتيجية وبإشعاعها الحضاري ستتمكن من صنع مستقبل متجدد يسمو بالمنطقة إلى المستوى الذي يليق بموقعها الجغرافي وبتاريخها المجيد، ويعود بالنفع العميم والخير الشامل على مجموع الساكنة. وإن المسيرة التنموية التي تنهجها المملكة المغربية، تعتبر رائدة، لاسيما من حيث تكامل عناصرها، وإلتقائية برامجها وعقلانية تنزيلها على الأرض. ولسنا نذكر هنا إلاّ ما يتعلق بإعداد وتأهيل بوابات المغرب، ولن نذكر منها إلاّ بعض الحالات الأكثر بروزاً، حيث نسوق هنا – على سبيل المثال – بوابة المغرب الشمالية المنفتحة على أوروبا وعلى العالم، وأقصد هنا مدينة طنجة بمينائها المتوسطي ومطارها الذي ما فتئ يخضع لعمليات التجديد والتحديث. إلاّ أن الأمر لا يقتصر على البوابة كواجهة، وإنما كمدخل لما بعدها : فبمجرد ولوجك إلى التراب الوطني من جهة الشمال، تجد حاضرة طنجة بعمرانها المتميز، ثم تجد القطار الفائق السرعة الذي يجعل وسط المغرب في متناولك في وقت قياسي، كما تجد المناطق الصناعية الكبرى التي ما فتئت تتطور وتندمج ضمن الدورة الاقتصادية العالمية، تتخللها أو تحيط بها خدمات متنوعة وبنية تحتية متميزة، ومرافق الاستقبال والإقامة، إلى غير ذلك من الأنشطة التي تعكس ما أصبحت تتوفر عليه البلاد من حيوية ومن دينامية اقتصادية واجتماعية تشمل كافة المجالات. كما نسوق أيضا بوابة المغرب الشرقية، مدينة وجدة، وهي أيضا تفتح للزائر والمستثمر والمقيم فضاءات أرحب وخدمات أرقى، فبالإضافة إلى مطارها وطريقها السيار ومناطقها الصناعية، تفتح لك هذه البوابة مجالات محيطة بالمدخل، مجالات لا تخلو من التميز والامتياز، فهناك المحطة السياحية الرفيعة المستوى بالسعدية، وهناك المشروع البيئي الضخم، والمتعدد الوظائف بموقع بحيرة مارشيكا، وهناك مطار العروي الدولي، وهناك قيد الإنجاز ، مناء الناضور غرب المتوسط وما هو مبرمج حوله من مناطق صناعية من الجيل الجديد، ومناطق للخدمات وبنية تحتية تربط مختلف فضاءات المشاريع بالمنطقة. إنه العمل التنموي الجاد المتنوع، والمتعدد الأبعاد والمتكامل الأركان. وهو العمل نفسه الذي يحِق أن تستفيد منه البوابة الجنوبية، ولعلها تكون من أحسن بوابات المملكة، بفضل آفاق التعاون الوثيق المستدام مع الشقيقة موريطانيا، وبفضل الترحاب الذي تلاقيه المملكة المغربية ببلدان إفريقيا جنوب الصحراء. ومن أراد أن يفهم عمق الروابط والرغبة في العمل التنموي المشترك لهذه الدول مع المغرب، فليستحضر تلك الزيارات الخالدة التي قام بها جلالة الملك محمد السادس حفظه الله للعديد من البلدان الإفريقية. وكيف كان استقبال السكان لجلالته، ولينظر إلى حجم وعدد الاتفاقيات التي أبرمت مع هذه الدول، وكلها إما تم إنجازها أو هي قيد الإنجاز. إن مستقبل إفريقيا يكمن في اعتمادها على قدراتها الذاتية وعلى العمل المشترك والتعاون جنوب - جنوب. وكل ذلك أضحى اليوم هدفاً تتقاسمه معظم الدول الإفريقية ولا شك أن من أوجب شروط متابعة السير نحو هذا الهدف، توفير الأمن والاستقرار والطمأنينة على سائر التراب الإفريقي بدءاً بدول الجوار. ومن هذا المنطلق، كانت عملية تأمين معبر الݣرݣرات الذي عانى لمدة طويلة من عبث العابثين ومغامرات المقامرين الذي يظنون أنه باستطاعتهم معاكسة التاريخ أو الإعراض عن الجغرافية. إنهم واهمون، فللتاريخ وزنه، وللجغرافية شروطها، وللعامل البشري ديناميته وتطوراته. فإن تناغمت هذه العوامل الثلاث، كان التطور السريع والتقدم الباهر، وإن تعاكست فإنه فقط تأخير للمسيرة، وتسبب في بطئها، لا غير. ومن هذا الباب، فإن معبر الݣرݣرات، الذي أصبح اليوم ممراً آمنا بفضل التدبير الحكيم لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله وبالعمل النوعي للقوات المسلحة الملكية، يتطلع اليوم لكي يصبح مركزاً حضريا متعدد الخدمات، يجد فيه المسافرون كل ما يحتاجونه من مأوى ومن خدمات إدارية، ومن فضاءات للاستراحة، ومن مطاعم وفنادق، وأنشطة مهنية متعددة، تستجيب لمتطلبات الإنسان، كما تستجيب لحاجة العربات والحافلات والشاحنات من صيانة وإصلاح إن اقتضى الحال. إن الأمر هنا يتعلق بإعادة تهيئة وتشكيل المجال بكيفية فاعلة وناجعة، حيث يتم التحرك في الوقت المناسب وبالوسائل الكافية لجعل التنمية المجالية متناغمة مع الأحداث المستجدة، ومتلائمة مع الدينامية الشاملة التي تصب في اتجاه المسار العام الذي يخدم الإنسان ويحقق مصالح الساكنة. ومعنى ذلك أنه يتعين الآن إحداث مدينة جديدة بالݣرݣرات من الحجم الصغير في بداية الأمر، على أن تتمكن مستقبلاً من التطور نحو مدينة متوسطة أو كبرى بالموازاة مع حركة التمدن بموريطانيا الشقيقة وفي تناغم تام معها. ولعل هذه الحاضرة المستقبلية تصبح تجسيداً على الأرض لما سيكون عليه العمل المغربي الموريطاني المشترك. فمسار التاريخي الطبيعي هو أن يتعاون الأشقاء ويحدثوا فضاءات للعيش المشترك الآمن، تتكامل فيه الجهود، وتتبادل فيه المصالح، على أمل أن يتطور ذلك إلى فضاءات أرحب ويشمل مستويات متعددة. كما ينتظر أن يتمحور حول هذه البوابة فضاءات أوسع وبنية تحتية إلى جانب ما أصبح اليوم متوفراً. إن الطريق الوطنية التي تربط اليوم طنجة بالݣرݣرات، والتي تحاذي في أغلب الأحيان الشريط الساحلي الأطلسي، لاسيما من سيدي إفني إلى الݣرݣرات، يمكن – مستقبلا – تعزيزها بطرق داخلية، توازيها شرقا، إنطلاقا من الݣرݣرات. إن مدينة المستقبل بالݣرݣرات، يتعين تشبيكها بباقي المدن والمراكز بالأقاليم الجنوبية، ويتعلق الأمر – على سبيل المثال لا الحصر – بمدن ومراكز تيشلا، وأوسرد و أم دريݣة و ݣلثة زمور والسمارة و بئر الحلو، والمحبس و الزاك وآسّا وبويزݣارن والخصاص وسيدي إفني . إن هذه المدن والمراكز تشكل في مجموعها خطاً شرقياً موازياً ومكملا للخط الساحلي الذي أصبحت تزدهر فيه مدن كبرى ومتوسطة، كطرفاية والعيون وبوجدور والداخلة، إضافة إلى العديد من مراكز الصيد الساحلي. إنها سلسلة من المدن يمكن تدعيمها مستقبلاً لتصبح عبارة عن مراكز لاستقبال القوافل التجارية، مجددة بذلك – أمجاد المنطقة وأدوارها التاريخية، فالصحراء كانت دائما أرض عبور آمن وبنكهة خاصة، فهو عبور يطبعه كرم الضيافة وحفاوة الاستقبال، وهو لقاء إنساني يتعارف من خلاله أبناء العمومة وسكان المجالات المجاورة، وأحيانا حتى البعيدة. ولقد أفرزت هذه الدينامية البشرية عبر التاريخ ثقافة محلية ذات جذور ضاربة في القدم وراسخة في مختلف العلوم والفنون والشعر الرفيع. فإذا أضيف إلى ذلك – مع الحفاظ على الهوية المحلية المتميزة – ما جاء به التطور الحديث، من بنيات تحتية وتجهيزات مهيكلة وتمدن ملائم لراحة الإنسان، ووسائل فعالة لاستغلال المجال ولخلق الثروة وتنويع المبادلات وغير ذلك من الأنشطة الفردية والجماعية، التي أصبحت متاحة بفضل المجهود التنموي الكبير الذي تعرفه الأقاليم الجنوبية، فإن هذه الأخيرة ستصبح '' جنة على الأرض '‘. ولعل تأمين العبور وضمان سلاسته وتعزيزه بشبكة حضرية متكاملة يشكل أول خطوة لتحقيق هذا الهدف النبيل، ولعله يبدأ من مدينة الݣرݣرات كمستقر آمن ومنفتح على الأشقاء. بقلم : محمد الحبيب البݣدوري الأشقري (مهندس معماري)

الأشقري: الݣرݣرات … من الممر المريب إلى المستقر الآمن

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أيت منة يضرب بقوة في إفريقيا

الصفى: ثقافة العنف لدى الأطفال بين الموروث الأسري و التربية الحديثة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات