الكاريانات… المحو العشوائي للذاكرة الجماعية

حين تدفن الدولة جزءا أساسيا من التاريخ تحت جرافات مدن دون صفيح في شتنبر الماضي، وقف نبيل بنعبد الله، وزير السكنى والتعمير وسياسة المدينة٬ وسط قاعة الجلسة الافتتاحية لأشغال المنتدى العالمي الحضري السادس المنظم من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية بنابولي الإيطالية٬ وقال، بعبارات واثقة، إن المغرب يحتل الرتبة الأولى عالميا في مجال محاربة مدن الصــــــــــفيح. على مستوى الالتزام السياسي بتطبيق البرامج الحكومية وتنفيذ التعاقدات مع الناخبين والمؤسسات، قد يكون تصريح المسؤول الأول عن قطاع السكنى والتعمير بالمغرب، "إنجازا" يحسب لحكومته في إطار المشروع الكبير لمدن دون صفيح والقضاء النهائي على البؤر السوداء وأحزمة البؤس والعار بعدد من المدن المغربية، لكن يبدو الأمر "عسير الهضم"، حين تتواصل سياسة المحو وتسجيل نسب التقدم والتطور، دون أن يواكب ذلك عمل حكومي، بالأهمية نفسها، للحفاظ على ذاكرة هذه الأماكن، وصون تاريخها، أو على الأقل اعتبارها جزءا من الذاكرة الجماعية لمدينة أو تجمع سكاني ما.إن معاول الهدم، التي تنشط، هذه الأيام، بعدد من الكاريانات ودواوير الصفيح بالمغرب رافعة لواء "هدم آخر براكة" (كاريان باشكو بالمعاريف- دوار السكولية بسيدي مومن- كاريان طوما وكاريان سنطرال بعد شهرين...)، لا تشطب على عدد من التجمعات السكانية من جغرافيا الوطن، بل تجتث معها حلقة أساسية من تاريخ المغرب الحديث وذاكرة جماعية طافحة بالأحداث والأسماء والصور والشهادات يعجز مؤسسات الدولة الرسمية عن الحفاظ عليها، أو لا تريد أصلا الحفاظ عليها، دون أن يفوتنا في هذا الإطار، واجب توجيه عبارات التقدير والتنويه إلى عدد من الباحثين والأساتذة الجامعيين الذين ينحتون من صخر من أجل توفير المادة التاريخية التي تعتبر حيوية في مشاريع إعادة الهيكلة والترميم التي من المفروض أن تخضع لها ذواكر هذه الأحياء والمدن العشوائية، باختلافها وتنوعها المونوغرافي.إن الاهتمام بالدراسات المونوغرافية التي نشطت في الآونة الأخيرة لا يتعلق فحسب بجبر الضرر الجماعي بعدد من المناطق في إطار سيرورة عمل الإنصاف والمصالحة، بل يضاف إليها، حسب الباحث الدكتور المصطفى بوعزيز، التقاء سيرورتين أخريين، أولا سيرورة نضج "المدرسة التاريخية المغربية" التي راكمت منذ ما يزيد على نصف قرن خبرة منهجية في مجال التوثيق والتحقيق، والمونوغرافية بشكل خاص، واستوعبت في هذا الباب الرصيد المعرفي والمنهجي للتوجهات العلمية التي نمت و ترعرعت في ظل التضلع المنهجي، وعلى قاعدة الكم المحترم من الأبحاث التي أنتجت بالجامعة المغربية.ويقول بوعزيز، في تقديمه لكتاب "جوانب من ذاكرة كريان سنطرال- الحي المحمدي بالدار البيضاء في القرن العشرين- محاولة في التوثيق"، إن المدرسة التاريخية المغربية اقتحمت الحقل العالمي للبحث التاريخي، موسعة مجال دراساتها و فضاءات مواضيعها، وزوايا معالجاتها المنهجية، مؤكدا أنه في إطار هذه السيرورة، تحولت المونوغرافية من المنتوج شبه الوحيد للمؤرخين المغاربة، إلى صنف ضمن أصناف أخرى، إلا أنها استفادت من تلقيح العلوم الاجتماعية وتطورت نحو الأفضل.أما السيرورة الثانية فهي تتعلق بـ"الذاكرة الجماعية" للمغاربة، إذ دخل المغرب منذ عقدين من الزمن في سيرورة توسيع مجال التمثلات، و بالتالي السماح التدريجي لذاكرات مقصية للوجود إلى جانب الذاكرة الرسمية، ما فتح ورش إعادة هيكلة الذاكرة الجماعية للمغاربة و مازال الورش في مراحله الأولى.ومؤكد أن أحياء الصفيح شكلت موضوعا للعديد من الدراسات والعديد من الأطروحات. و"إذا كان هناك شبه إجماع على أن هذه الإحياء تشكل ظاهرة ذات أبعاد اجتماعية مزرية، فإن التركيز على هذا الجانب، رغم أهميته، لم يؤد إلى حد الآن إلا إلى تغليب الوصف على التفسير وفي ذلك تغطية على جوانب عديدة من هذه الظاهرة"، يقول الأستاذ مصطفى شويكي، في أطروحته الضخمة حول الدار البيضاء/مقاربة سوسيومجالية المنشورة في جزءين.ورغم انعدام أي إجماع حول تاريخ محدد لظهور أحياء الصفيح بالبيضاء، فإنه لا أحد يجادل أنها ظهرت خلال السنوات العشر الأولى لاحتلال المدينة، لكن التجمعات الكبرى للصفيح لم تظهر إلا خلال عقد العشرينات، في تزامن مع ظهورها مع انطلاق حركة التصنيع بالمدينة دليل وجود ارتباط بينهما وبين نمط الإنتاج الرأسمالي.ويشكل ظهور كاريان سنطرال أول وأشهر أحياء الصفيح بالدار البيضاء الذي نشأ بين 1920 و1923 لإيواء عمال المحطة الحرارية رمزا لهذا الارتباط، كما أن في تركز معظم أحياء الصفيح بالشمال الشرقي للمدينة ودليل آخر على ارتباط هذه الظاهرة بالصناعة على مستوى الشغل والموقع، كما ظل هذا الارتباط قائما إلى وقت قريب، حين نلاحظ توزع الأحياء العشوائية على عدد من المناطق التي كانت تضم أحياء صناعية خصوصا بشرق الدار البيضاء، مثل ابن امسيك سيدي عثمان (51 حيا 20895 أسرة و147810 نسمة- وعين السبع الحي المحمدي 57 حيا 11745 أسرة و62885 نسمة- وعين الشق الحي الحسني 88 حيا 7648 أسرة و43087 نسمة- والدار البيضاء أنفا 72 حيا و260472 أسرة و15 ألف نسمة).وسمح تساهل الشركات الصناعية التي اقتضت مصلحتها استقرار مستخدميها بالقرب من وحداتها الإنتاجية، بظهور كاريانات كثيرة في الحي الصناعي الشرقي، وهكذا سمحت شركة الفوسفاط الممتاز المستقرة بعكاشة بعين السبع لعمالها بإقامة براريك على جزء من الأرض الكبيرة التي حجزتها بجانب المعمل، فكانت بداية ظهور دوار سيدي عبد الله بلحاج الذي مازال قائما حتى الآن، كذلك فعلت شركة كوزيمار وشركة "الشابو"، نسبة إلى شركة الاسمنت والجير التي استفادت من وجود محاجر في روش نوار وعين السبع وسيدي مومن واستغلتها في انتاج المادة الحيوية للبناء التي كانت تحتاجها صناعة الأوراش والمشاريع العمرانية ومشاريع التهيئة الكبرى. يوسف الساكت

الكاريانات… المحو العشوائي للذاكرة الجماعية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

فضيحة تعيينات في مناصب عليا بوزارة النقل

التعيينات في المناصب العليا... "سير الضيم"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات