بامحمد… أسطورة الأكلات الشعبية بالبرنوصي

انطلق من لا شيء ليصبح أشهر معد وجبات تقليدية سريعة بالدارالبيضاء لا يمكن أن تتوه وأن تبحث عن بّا محمد في حي البرنوصي. هنا الصغار والكبار؛ النساء والرجال يعرفونه. حتى بعض أبناء الأحياء الأخرى من البيضاء، وهي كثيرة جدا، يعرفونه، وبإمكانهم أن يدلوك عليه بطريقة لا تدع مجالا للتيه أو الخطأ. أما سائقو سيارات الأجرة الكبيرة والصغيرة، وكذلك سائقو حفلات النقل الحضري ومعهم الجباة، فإنهم يعرفونه كما يعرفون مسارات رحلاتهم بين حي البرنوصي الشعبي والأحياء الأخرى. سندويتشات «السكفكف» كيف لا يعرفونه وروائح سندويتشاته ملأت دنيا البرنوصي وشغلتها لأزيد من ثلاثين عاما. من يقرأ حكايته الآن لأول مرة قد يذهب خياله إلى تصور واحد من تلك المحلات المتخصصة في إعداد الأكلات الجاهزة، التي تنتشر كالفطر في أغلب مدن المملكة؛ لكن الأمر ليس كذلك. هذه الشهرة وهذا النجاح لم يتحقق إلا على ظهر عربة (كروسة) بسيطة كان بّا محمد يدفعها من كاريان طوما بسيدي مومن إلى قلب الحي الصناعي بعين السبع، قبل أن تمر الأيام ويقرر الاستقرار وسط سيدي البرنوصي وبالضبط بجانب الشارع الرئيسي لهذا الحي والمعروف بلقب «شوفوني».سندويتشات «السكفكف» ولحم رؤوس الأبقار هي ما نقل هذا الرجل، الفارع الطول والقوي البنية، من إنسان عاد؛ مثله مثل الغالبية الساحقة من أبناء البرنوصي والأحياء المجاورة له، إلى أشهر إنسان في هذه الأحياء، وواحد من الذين تلهج كثير من الألسنة بسندويتشاته اللذيذة، وفي مقدمتها «السكفكف»، الذي هو خليط، رائحته تسيل لعاب الجائع والشبعان على حد سواء، من أمعاء البقر ومعدته وقطع من لحم رأسه والتوابل «الحرة»، التي يتوجه بّا محمد بنفسه إلى درب عمر لاقتنائها، وبعض حبيبات الحمص .. أما السندويتش الثاني فإنه عبارة عن لحم رأس الأبقار كذلك مطهو في قدر كبير من الماء المغلي تضاف إليه بعض التوابل مثل الكامون والإبزار والملح.قد يقول قائل إن الكثيرين يقدمون مثل هذه الوجبات في كل حومة من حومات العاصمة الاقتصادية والمدن الأخرى، فما الذي يميز ما يقدمه بّا محمد عما يقدمونه؟ وما السر وراء هذه الشهرة؟ في واقع الحال، وكما شرح بّا محمد ذلك بالتفصيل في حديث مع «الصباح»، فإن الفرق والسر الذي يميزه عن معظم باعة الأكلات الشعبية هو حرصه على جودة السلع التي يقتني، وسهره على نظافة المعدات التي يطهو فيها سندويتشاته، وفوق ذلك إصرار زوجته على إعداد ما تعتبره أشهى وأطيب سندويتش «سكفكف» يمكن للمرء أن يتناوله في الدار البيضاء بأسرها. نجاح وراءه زوجة عظيمة يرجع أصل هذا النجاح وهذه الشهرة إلى قصة حب جارفة وعميقة وعلاقة زواج مبنية على تعاون وثيق وتفاهم كبير بين بّا محمد وزوجته. عندما تسأل الرجل، المزداد سنة 1955 بسيدي مومن، عن بدايات هذا النجاح تكون وكأنك وضعتك أصبعك على زر تقليب المواجع. فبمجرد أن يشرع الخمسيني، الذي يعطي مظهره الخارجي الانطباع بأنه ما يزال في ثلاثينات عمره، في سرد بدايات المغامرة التي ستحوله إلى واحد من مشاهير أحياء شمال العاصمة الاقتصادية، حتى يشرع في ذرف دموع حارة وغزيرة، خاصة وهو يتذكر سهر زوجته ووقوفها إلى جانبه وتشجيعها له. «كانت تسهر حتى ساعات متقدمة من الصباح المبكر تعد قدري السكفكف وقدر لحم الرأس»، يقول بّا محمد وهو يستعيد بداياته الأولى التي كانت سنة 1988. كان هو يذهب إلى مجازر الحي المحمدي لشراء بضعة كيلوغرامات من جوف الأبقار المذبوحة هناك ويعود بها إلى بيته الصغير حيث تتكفل زوجته «بطهوها في احترام وسهر صارمين على النظافة والمقادير»، يؤكد بّا محمد، وفي صوته حشرجة الدموع الحارة التي مازالت تسيل على خديه. «تكرفسات معايا مسكينة، ملي كاتسلي التنقية والطياب كتنوض تشوف الدرا شنو خاصها وتبدا الشقا من جديد». ليس هذا فقط ما يؤثر في الرجل ويدفع دموعه إلى التدفق بغزارة أكبر، بل هو صبر زوجته وقدرتها على تحمل الفقر وعوادي الزمن. «لم نكن نأكل اللحم، لقد كنا نعيش في فقر مدقع، ومع ذلك وقفت إلى جانبي وساندتني حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه». زوجته تحدت والدها، الذي رفض أن يزوجها إلى بّا محمد بدعوى فقره، وهو الذي كانت تربطه بها علاقة حب أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، وذهبت معه عند العدول لتوثيق عقد نكاح شرعي وتبدأ معه مسيرة حياة تبادلا فيها دعم بعضهما البعض وتشجيع كل منهما للآخر على تحدي كل العقبات، حتى انقلب فقرهما وجوعهما إلى غنى وشبع. فبّا محمد يملك اليوم منزلين أحدهما من أربعة طوابق والثاني من ثلاثة وسيارة مرسيدس. سر نجاح هذا الرجل كذلك هو قدرته على أسر قلوب من يتعاملون معه بوداعته وطيبوبته ووقاره الذي يفرضه على جميع الناس. حتى المتسكعون والمشردون والمنحرفون والمجرمون أبناء المنطقة له عليهم سلطة معنوية تجعلهم يوقرونه ولا يفكرون ولو للحظة في اعتراض سبيله بأي شكل كان، بل إنه أحيانا، وعند نشوب مشاجرة ما، فإنه بمجرد أن يتدخل حتى يمتثل المتخاصمان ويفضا نزاعهما، أما إذا كان أحدهما يحمل سلاحا أبيض أو غيره فببضع كلمات طيبة يتمكن الرجل من دفعه إلى التخلي عنه. «هاذي شي بركة ديال سيدي ربي»، يقول بّا محمد محاولا تفسير سر هذا التوقير والاحترام والمكانة المتميزة التي يحظى بها عند سكان الحي من أدناهم وحتى أكابرهم. السر لا يكمن في البركة الإلهية وحدها، بل يعود إلى طريقة تعامله مع الزبائن على العموم. «أنا اللي قصدني ياكل، تكون عندو الفلوس ولا ماتكونش ياكل، الحمد لله خير سيدي ربي موجود وهو اللي كيرزقنا». فعلها إدريس البصري بّا محمد بلغ من الشهرة مستوى شجعه سنة 1997 على خوض تجربة الانتخابات الجماعية. فبفضل شهرته التي طبقت آفاق حي البرنوصي وعين السبع وسيدي مومن، استقطبه حزب الاستقلال ليكون واحدا من ضمن لائحة مرشحيه في الانتخابات الجماعية لسنة 1997. «كان الفوز مضمونا، وكل من كنت ألتقيهم في الشارع العام يؤكدون لي أنهم سيصوتون لواحد منهم؛ واحد من أبناء الشعب».وقعت المفاجأة لكن ليس من الطراز الذي يدخل البهجة والسرور على القلب، بل كانت مفاجأة أخرست حتى المتشائمين من أقاربه وأصدقائه ومعارفه... لقد فعلها إدريس البصري. عمليات التزوير التي شهدتها الانتخابات الجماعية لسنة 1997 حرمت بّا محمد من تحقيق حلم رواده لبضع سنوات؛ حلم بأن يكون صوتا للمقهورين والمحرومين والمستضعفين في مجلس مقاطعة الحي المحمدي، لكنه حلم تبخر بفعل حيل وألاعيب الداهية البصري ومن تواطؤوا معه في الإدارة الترابية على تزوير إرادة الناخبين.من يومها قرر بّا محمد، الأب لستة أبناء، أن يترك بينه وبين السياسة والأحزاب السياسية على العموم مسافة كتلك التي تفصل بين الأرض والسماء. اليوم صار يركز على تتبع سير المهنة التي أورثها لاثنين من أبنائه، كما يحاول أن يكون وسطا في حل المشاكل التي تنشب بين بعض أصحاب عربات الأكلات الجاهزة الذين يملؤون ساحة مسجد طارق بسيدي البرنوصي، أو بينهم وبين زبنائهم... محمد أرحمني

بامحمد… أسطورة الأكلات الشعبية بالبرنوصي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

سوهيل: مؤسسات التكوين المهني تشهد إقبالا ملحوظا

العماري ينتقد مشاركة وزراء المصباح في الحملة الانتخابية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات