جدلية الاعتقال بين الاتهام والتحقيق

أكثر الدول ديمقراطية في مجال حقوق الإنسان لا يوجد لديها قاض للتحقيق يبدو أن حرية الأشخاص على ضوء ما قررته الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالناظور في قضية الجمركيين ومن معهم، أضحت لعبة بيد جهتين عموميتين أو طرفين قضائيين في منظومة المسطرة الجنائية: النيابة العامة سواء لدى المحاكم الابتدائية أو لدى محاكم الاستئناف، وقضاء التحقيق لدى المحاكم المذكورة في غياب نصوص حاسمة وحكيمة. تحيل النيابة العامة مشتبها فيه بشكل إلزامي على قاضي التحقيق، عندما يوجب القانون ذلك أو اختياريا للزيادة في التحقيق سيما في الحالة التي تكون فيها النيابة العامة مجبرة على ذلك لظروف كثيرة، إما لانتهاء المدة القانونية للحراسة النظرية وعدم كفاية الأدلة وغلبة القرائن الإيجابية لثبوت الفعل لديها نسبيا أولخشيتها صدور حكم بالبراءة لفائدة الشك أو اليقين إن فوتت الفرصة المتاحة لديها للتحقيق، أولتقوية وسائل الإثبات المتوفرة لديها بصفتها ممثلة المجتمع. كما تلجأ إلى الإحالة على التحقيق عند فرضية تفرع الدعوى العمومية لتشمل أطرافا أخرى متورطة مثلا في الفعل أو الأفعال المعتبرة جرمية وتعذر الاستماع إليها عند الاستنطاق أمامها وميول كفة التورط لظهور مستجدات أخرى عجزت النيابة العامة عند عرض المسطرة عليها من تناولها أو مناقشتها،مفسحة المجال لها بفضل قانون المسطرة الجنائية من الإطلاع عليها وإبداء الرأي فيها ورفع ملتمسات بشأنها. إذن فالتحقيق أصبح حيلة قانونية تمارسها النيابة العامة تارة لاستكمال جميع جوانب الدعوى العمومية وقائع وأطرافا ووسائل إثبات لم تستجمع لديها عند عرض المسطرة عليها وغلبة تأثير وقع الجريمة وآثارها على المجتمع، وتارة أخرى لطغيان التطبيق الصارم للقانون الموجب للتحقيق والذي ينبغي إعادة النظر فيه، لأنه لا جدوى من إجراءات تحقيق أمام قاض مختص، ثم معاودة الكرة وبنفس الإجراءات و الأشخاص أمام قضاء الحكم فيما يتعارض ومبدأ الأمن القانوني.فالاعتقال الاحتياطي هو إجراء ماس بالحرية شرع لمصلحة التحقيق يصدر بأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة، في جرائم معينة تسلب بمقتضاه حرية المتهم بإيداعه السجن. وتنال الحرية الشخصية اهتماما مزدوجا في القانون الجنائي وفقا لمبدأ الشرعية الإجرائية المتكونة من ثلاثة أركان، الأول هو أن الأصل في المتهم البراءة والثاني أن القانون هو المصدر الوحيد للإجراءات الجنائية، والثالث هو الإشراف القضائي على تلك الإجراءات وتحت مسؤوليته.إن أكثر الدول الديموقراطية المتقدمة في مجال حقوق الإنسان والمطبقة بنجاح ضمانات المحاكمة العادلة سيما انجلترا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو إيطاليا وألمانيا، وحتى بعض الدول العربية مثل مصر والكويت، لا يوجد لديها قاض للتحقيق لأن هذا النظام إضافة إلى تكلفته البشرية والمادية، فيه هدر للوقت والجهد وإتاحة الفرصة للانخراط في الطعون الممارسة بمناسبته والتي لا طائل من ورائها بل إن نظام التحقيق هذا فيه من الازدواجية (أي الجمع بين الاتهام وضرورة الحياد أو الجمع بين الصفة الضبطية والقضائية) ما يتعارض ومبدأ استقلالية السلطة القضائية.وعلاقة بالتدابير والأوامر القضائية التي يصدرها قاضي التحقيق وممارسة الطعن بشأنها من طرف النيابة العامة، يتبادر إلى الذهن بل ويطرح الأمر عدة تساؤلات وجيهة منها إحالة النيابة العامة قضية ما على قاضي التحقيق ملتمسة منه إصدار أمر بالإيداع في السجن ثم في حالة مخالفة ذلك من طرف هذا الأخير تطعن في الأمر المخالف لرأيها باستئناف أمام الغرفة الجنحية، والحال أنه يمكن إصدار الأمر بالإيداع بالسجن مباشرة من طرفها مع إحالة القضية على قضاء الحكم اختصارا للإجراءات والوقت وتطبيقا لسلطتها في الملاءمة والمتابعة.إن مسألة مخالفة قاضي التحقيق لملتمسات النيابة العامة سيما في ما يتعلق بالإيداع في السجن يجعل المشتبه فيه بين متاهات جدال قانوني عقيم يدفع ثمنه باهظا، وبالتالي ينبغي وضع حد لذلك إما عبر تقنين العلاقة بين جهتي الاتهام والتحقيق والحد من طرق الطعن الموكولة للجهة الأولى، أو إلغاء قضاء التحقيق بصفة نهائية وإعطاء صلاحيات واسعة لقضاء الحكم في هذا الشأن، ثم إحداث وتعيين قاض لدى المحكمة الابتدائية أو مستشار بمحكمة الاستئناف مكلف بالحريات فقط، أي قاضيا منفردا مختصا ينظر حصريا في مدى توفر المشتبه فيه لضمانات الحضور أمام المحكمة وله في ذلك سلطة تطبيق جميع التدابير القضائية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية من كفالة عينية أومالية أو شخصية وإغلاق الحدود ومراقبة قضائية إلى آخره. إن تكييف خطورة الفعل المرتكب أو تقييم مدى توفر المعني بالأمر لضمانات الحضور أو حتى تقييم آثار وقع الفعل الجرمي على المجتمع يختلف بين مكونات الجهازين القضائيين المذكورين ( الاتهام والتحقيق) وذلك تبعا للخـبرة والمستوى العلمي والتخصص وعدة معايير أخرى كالكفاءة والدرجة المتوفر عليها وغيرها من معايير موضوعية تدخل في استيعاب وفهم فلسفة المشرع المسطري لتحقيق العدالة الجنائية المرجوة، ولهذه الأسباب أيضا تختلف الأوامر و الملتمسات الصادرة عن هذه الجهة أو تلك وبين محكمة وأخرى.ولهذه الأسباب أيضا يختل مبدأ الأمن القضائي لأن المشتبه فيه وهو مغلوب على أمره لغموض مصيره، ينظر إلى حريته وهي أغلى ما عند أي آدمي، تخضع لمزايدات أو لتصفية حسابات بين جمعيات قضائية مثلا أوتخضع لأهواء شخصية أو لتعليمات كتابية مؤسسة على تأثير سياسي او مرجعية إيديولوجية معينة إن صح التعبير.ولهذا كان موقف الرئيس الفرنسي السابق حازما ومسؤولا عندما تحدث رسميا عن إلغاء مؤسسة التحقيق بمناسبة القضية المعروفة بأوترو التي زجت بأبرياء في الاعتقال الاحتياطي عبثا، وهي أخطاء حدثت بدورها عندنا بالوطن مرات متكررة دون أن يجعل لها حد نهائي.إن سن الدستور المغربي الحالي مبدأ التعويض عن الخطأ القضائي واعترافه بذلك لأول مرة يجعلنا مجبرين وبشكل استعجالي على إعادة النظر في المنظومة التشريعية والقضائية المتعلقة بحريات الأشخاص، ثم اقتناص الفرصة في ظل الإصلاح المرتقب لمنظومة العدالة في المغرب لتكريس ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار، وبصفة جدية، أمر ربط المسؤولية القضائية لكل من يتولى التقرير في حرية المواطنين بالمحاسبة الصارمة، طالما أن هدم قرينة البراءة التي هي الأصل، وهي أيضا قاعدة دستورية، موجبة للصون والاحترام.إن الأمن القانوني في هذا المجال يقتضي بدوره إلغاء حق الطعن بالاستئناف في القرارات المتعلقة بمنح الإفراج المؤقت، لأنها تتناسب واستقلالية الآمر به و القواعد الدستورية المومأ إليها أعلاه، بل وتمس مبدأ مساواة الأطراف أمام القانون مادام المتهم يحرم أحيانا من سلوك بعض الطعون وتتاح للنيابة العامة وحدها. بقلم: ذ مصطفى أشيبان, دكتور في الحقوق ومحام بهيأة البيضاء

جدلية الاعتقال بين الاتهام والتحقيق

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

سلطة الملاءمة... إجراء مع وقف التنفيذ

الاعتقال الاحتياطي إدانة قبل الحكم

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات