مدارس البعثات… تعليم أجنبي لفائدة أبناء الميسورين

تشكيل شخصية تعاني الاستيلاب داخل وطنها ومندمجة في محيطها الخارجي الإقبال الكبير للعائلات الميسورة، وتلك التي تتلقف المظاهر السطحية للحداثة، على مدارس البعثات الأجنبية يفسر درجة الانسلاخ الهوياتي الذي تعانيه شريحة واسعة من الأسر المغربية، التي تختار لأبنائها برنامجا تعليميا مستوحى من الخارج تضعه الدولة المستعمرة ثقافيا للمغرب، ولنخبه الفرنكفونية على وجه الخصوص.وهذا ما يجعل نظامنا التعليمي يسير بوتيرتين مختلفتين، الأولى يجسدها تعليم عمومي وصل إلى حافة الإفلاس، يلجه أبناء الشرائح الاجتماعية الفقيرة، وضع على مقاسهم تثبيتا للفوارق الاجتماعية السائدة منذ فجر الاستقلال، والتي شكل خلالها النظام التعليمي مظهرا من مظاهر انعدام تكافؤ الفرص بين أبناء الأعيان والفئات المستضعفة، إلى درجة أن حزب الاستقلال الذي تزعم حرب التعريب والتعميم والمجانية، درس أبناء قيادييه وعائلاته المرموقة في مدارس البعثات الأجنبية، ورحلوا إلى فرنسا من أجل الحصول عل شهادات عليا في مدارس القناطر ليعودوا إلى المغرب تنتظرهم مناصب هامة، ويواصل آباؤهم معركة التعريب والتعميم والمجانية لفائدة "أبناء المغرب الآخر".ثانوية أزرو وليوطي وديكارت بالرباط وغيرها من المدارس والثانويات، عرفت في القرن الماضي بكونها مدارس النخبة بامتياز. درس بها أبناء الأعيان والنخبة المحسوبة على "البرجوازية الوطنية"، والتي شكلت في ما بعد الطبقة الحاكمة بالمغرب، ولهذا السبب تحولت هذه المدارس عند الفئات الاجتماعية الوسطى إلى نموذج للترقي الاجتماعي والابتعاد عن تعليم عمومي تظل مردوديته دون مستوى تطلعات هذه الفئات الاجتماعية.البرامج التعليمية المتبعة في مدارس البعثات تابعة لوزارة التربية الوطنية الفرنسية، لذا فالبرنامج التعليمي فرنسي بامتياز، وتلجأ الأسر الميسورة إلى هذا النظام التعليمي طمعا في حصول أبنائها على شهادة باكلوريا فرنسية تمكنهم من متابعة دراساتهم العليا بسهولة في الجامعات والمعاهد المتخصصة الفرنسية، ويؤدي هؤلاء الآباء لفائدة السفارة الفرنسية في الرباط مبالغ مالية عن كل ملف لقاء السماح لأبنائهم باجتياز امتحانات الباكلوريا الفرنسية، ولا يهم هؤلاء ما إذا كانت القيم التي يستبطنها أبناؤهم بعيدة كل البعد عن المحيط الذي يعيشون فيه، باعتبار أن المدرسة أداة من أدوات التنشئة الاجتماعية الأساسية التي تسعى إلى تشكيل شخصية المواطن وفق معايير وسمات مشتركة، وهذا ما يفسر ابتعاد أبناء البرجوازية المغربية عن واقعهم المغربي مقابل تقوقعهم داخل دائرة ضيقة من المعارف التي تقاسمها الأفكار والقيم والتطلعات ذاتها، وتبقى مرتبطة بالخارج.برنامج تعليمي فرنسي أو أنجلوسكسوني، يعد القاسم المشترك لمدارس البعثات، وبالتالي فلا مكان لمواد من قبيل التربية الإسلامية وتاريخ المغرب أو جغرافيته أو دستوره وقوانينه الأساسية في هذه البرامج، ومقابل ذلك تسعى هذه المدارس جاهدة إلى الوفاء لبرنامج بلدها الأم، رغم أنها تستهدف من حيث المبدأ أبناء الجالية الأجنبية المقيمة في المغرب والمهاجرين المغاربة العائدين للاستقرار بوطنهم الذين يجد أبناؤهم صعوبات في سبيل التأقلم مع التعليم العمومي المغربي، كما يستفيد مبدئيا من هذا التعليم أبناء الدبلوماسيين وغيرهم من الأجانب المقيمين في المغرب، إلا أن واقع الحال يؤكد أن أبناء "بن ايكس" كما يحلو للبعض تسميتهم هم الذين نطالع اسماءهم في اللوائح النهائية للامتحانات في نهاية السنة الدراسية، كما يحدث في ثانوية ليوطي بالدار البيضاء، وديكارت بالرباط، إذ تجد عائلات بعينها من قبيل بنيس وبن جلون وبنكيران وبركاش وبلافريج وبناني... تتوارث المقاعد الدراسية بهذه المدراس يقينا منها أن نظامها التعليمي ذا مردودية عالية داخليا وخارجيا.تعليم جيد بمناهج علمية عصرية ومنفتحة وناجعة، أنشطة مندمجة متنوعة من موسيقى ومسرح وأوراش مدعومة بتجهيزات تعليمية، كلها ايجابيات هذا النموذج التعليمي الذي يكثر عليه الإقبال من لدن شرائح واسعة، إلى درجة أن الضغط يشتد على هذه المدراس كل سنة في ما يتعلق بطلبات التسجيل، إلا أن سيئات هذا النموذج تظهر من خلال تكوين شخصية تفتقد حس المواطنة والتفاعل الايجابي مع الواقع المغربي، فأبناء الطبقة الميسورة التي تنهل من تعليم البعثات، يتقاسمون طبائع مشتركة في شخصياتهم وأنماط سلوكهم، بين انفتاح يستمد جذوره من "القيم الكونية" وجهل تام باللغة العربية، رغم إدراجها في النظام التعليمي لهذه المدارس، إلا أن تلقينها للتلاميذ لساعات ضئيلة يجعل من اللغة الفرنسية هي لغة التدريس الوحيدة بها، فضلا عن طمس الهوية وانسلاخها عن جذورها، والذي يجعل هؤلاء الشباب مستلبين فكريا وثقافيا، مدفوعين إلى تحقيق طموحات لا علاقة لوطنهم الأم بها، كما أن سلوكهم اليومي وعلاقاتهم مع محيطهم مطبوعة بالحذر من الاختلاط وسوء فهم واضح لتفاعلات وقضايا مجتمعهم، فتجدهم يقبلون على شبكة صداقات بينية محدودة، كما أن القيم الدينية والتقاليد لا مكان لها في محيطهم الاجتماعي، وبالتالي نكون أمام استهتار تام بكل ما يجري داخل أرض الوطن الأم، واستيلاب فكري وثقافي يجعل من الأنا منصهرة في الآخر، انتصارا له ولحضارته أولا وأخيرا.طرح في عهد الوزير عبد الله ساعف، يشرح لنا مصدر من وزارة التربية الوطنية، إشكال السيادة التعليمية بالمغرب، لما لوحظ الإقبال المتزايد على مدارس التعليم الخاص، التي أصبحت تتلقف البرامج التعليمية للبعثات، بعدما منع تلاميذ مدارس خصوصية من اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية، بسبب اعتماد هذه الأخيرة لنظام البعثات، إلا أن الضغط الذي مارسه لوبي مكون من آباء وأولياء التلاميذ، وانخراطهم في حملات تصعيدية توجت بتنظيم وقفات احتجاجية ضد قرار وزارة التربية الوطنية، جعل هذه الأخيرة تتراجع لتسمح لأبناء هذه الفئات الاجتماعية باجتياز الامتحانات.موقف الدولة كان صائبا، لأن مجموعة المدراس الخصوصية التي تتبنى نظام البعثات غير معنية بالاتفاقيات الثقافية التي أبرمتها الحكومة مع فرنسا والتي تنظم النظام التعليمي للبعثات وتحدد مجالاته والمعنيين به، إلا أن إصرار العائلات الميسورة على أن يستفيد أبناؤها من نظام تعليمي مستوحى من الخارج، بما يجعلهم الأقرب إلى متابعة دراساتهم العليا في مدارس بعينها بفرنسا، وتسهيل مهمة تدرجهم الاجتماعي، والضغوطات التي مارسها لوبي مشكل من نافذين داخل دواليب الدولة، والذين تضرروا من القرار المذكور، جعل الحكومات المتعاقبة تغض الطرف عن مجموعة من المدارس الخاصة، التي أصبحت متخصصة في استيحاء نظام البعثات وطمسه في الكثير من الأحيان، بل هناك مدارس تقف وراءها جهات نافذة، مارست ضغوطات قوية من أجل الحصول على رخص استثنائية من الحكومة وسفارة فرنسا بالرباط حتى تصبح تابعة لنظام البعثات، وهذا ما يوضح أن اهتمام العائلات الميسورة بتوفير تعليم خاص لأبنائها يدوس على قيم البلد ومرجعيته ومحيطه، لصالح الانبهار بثقافة الأجنبي، النابع من يقينهم برداءة التعليم العمومي وموته البطيء من جهة، وإيمانهم الراسخ بأن النظام التعلمي يكرس التفاوتات الطبقية الموجودة، من خلال انعدام تكافؤ الفرص بين أبناء المحظوظين وأبناء الفئات المغلوبة على أمرها من جهة أخرى. رشيد باحة

مدارس البعثات… تعليم أجنبي لفائدة أبناء الميسورين

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

شعباني: الآباء وراء تبني أبنائهم نمط حياة مختلفا

أولاد "الهاي كلاس" يحاولون الاندماج في المجتمع

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات