أزمة القطب العمومي وتحديد مجال القرارات

ماذا حدث ومازال يحدث في الصراع القائم بين الحكومة وأحد معاقل المخزن التقليدي المجسدة بشكل كبير في القطب العمومي للقنوات الرسمية؟ هل هو تبادل إشارات الاطمئنان بين الحكومة والقصر على أن عمليات التغيير والإصلاح التي تقودها الحكومة ماضية في طريقها إلى النجاح، أم أنها اصطدمت في منتصف الطريق بجيوب المقاومة لإفشال تجربة الإسلاميين؟ أم أن عصيان "جنرالات" القطب العمومي للحكومة، ورفضهم دفاتر التحملات التي أعدها وزير الاتصال الخلفي رسالة إلى بنكيران، تنبهه إلى سوء فهمه للمجال المخصص له ممارسته لوظيفته السياسية في مربع تحكمه قواعد وأعراف ليست بالضرورة من اختصاص الدستور؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون شكلا من أشكال النقاش العام حول ملف الإعلام العمومي الذي يقتضي تبادل الأفكار بين السلطات الوصية والمهنيين في القطب العمومي للوصول إل صيغ متفق عليها للنهوض بهذا القطاع؟من الأكيد أن هذه الضجة التي حركت بنيان الحكومة، والتي تحظى باهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام الدولية والوطنية، وتشكل أرضية للنقاش في الأوساط السياسية والإعلامية في محاولة فهم الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة، ليست سحابة صيف عابرة ذات طبيعة تقنية وتنظيمية يمكن تجاوزها بالحوار والإقناع، كما يحدث في الديمقراطيات العريقة، فالأمر يتعلق بأزمة سياسية عميقة، ظاهرها التنازع في قضايا تبدو ذات صبغة إدارية، وباطنها صراع خفي لتحديد المسؤوليات في اتخاذ القرارات السيادية للتعاطي مع المواضيع الحساسة التي أثارتها وثيقة الخلفي في دفاتر التحملات، ودعمها رئيس الحكومة بقوة. فالحديث في هذه الوثيقة المثيرة للجدل عن الهوية المغربية بكل حمولاتها الثقافية والسياسية، وحذف بعض الوصلات الإشهارية التي تدر على الرياضة الوطنية موارد هامة، والاتجاه إلى تقليص المواد الفرنسية التي تعتبرها الدولة لغة للتواصل مع محيطها الخارجي، وتعتمدها المؤسسات وسيلة في التعاملات الدبلوماسية والإدارية والتجارية، كلها تغييرات جوهرية بادرت حكومة الإسلاميين إلى إدخالها على برامج القطب العمومي بلمسات دينية، أثارت حفيظة المتوجسين أصلا من نوايا حكومة الملتحين في تطبيق الإصلاحات من منظورهم الخاص للتحرر والحداثة.ومن الطبيعي أن تلقى هذه المبادرات الجريئة معارضة شرسة من قبل دعاة الفرنكفونية الذين، وإن لم يكشفوا عن وجوههم، فإن لهم تأثيرا على هذا المرفق العمومي الذي أضاف إلى وظيفته التقليدية وظيفة سياسية تروج لها النخبة الاقتصادية بلغة موليير عبر القناة الثانية بصفة خاصة بدعم من المقاولات والشركات التي تسعى من خلال الجهاز التواصلي إلى نشر ثقافة الاستهلاك لفائدة المجمعات الصناعية الكبرى، مستغلة في ذلك طريقة تعامل التلفزيون الرسمي مع المشاهدين بأساليب تركز على الانفتاح والتحرر والحداثة والترفيه وخاصة في الأوساط الشبابية.فهل توجسات رئيس الحكومة من جهات في المحيط الملكي لم يذكرها بالاسم، لكنه ألمح إلى أنها تكون لها يد في الدفع بمديري القطب العمومي إلى «شق» الطاعة عن حكومته يمكن أن تكون صائبة؟ بنكيران الذي كان يتحدث تحت فورة الغضب من موقف كبار الموظفين في القطب العمومي الذين تمردوا على وزيره في الاتصال، والذي أشهر أيضا ورقة 20 فبراير كنوع من المقايضة السياسية، سرعان ما استدرك أبعاد تصريحاته التي بدأت تؤولها الصحافة الدولية بشكل بات يهدد حكومته التي يعوزها الانسجام، فعاد ليؤكد في تصريحات لاحقة، أن الإعلام أخرج تصريحاته السابقة عن سياقها وهو تحول فسره المراقبون بنوع من الاعتذار دون الإفصاح عنه صراحة.فمن الذي انتصر على من في هذه الحرب المفتوحة؟في غمرة هذه الزوبعة، لم تنتصر الحكومة في حربها على أقطاب التلفزيون العمومي التي مازالت على مواقفها، كما لم يسجل مسؤولو القطاع أهدافا في مرمى حكومة الإسلاميين باستثناء رفع الأيدي لقول «لا» للإصلاحات المفروضة من فوق على من يعتبرونهم أصحاب المهنة، لكن الذي انتصر حتى الآن في هذا الصراع الذي يعتبر أول امتحان لحكومة بنكيران، هو الغموض الذي يلف القضية، حتى بعد أن استقبل الملك رئيس الحكومة، رفقة وزيره في الاتصال ووزير الدولة عبد الله باها، إذ لم تتسرب عن هذا اللقاء الرفيع المستوى معلومات من شأنها تنوير الرأي العام الوطني حول خلفيات هذه الأزمة، ووضع حد للتأويلات الصحافية الدولية التي ليست دائما على ود مع قضايا المغرب الكبرى.وإلى حين حدوث المفاجآت، ويطلع المسؤولون الرأي العام الوطني على جزء من تفاصيل الحرب الإعلامية الجارية بين الحكومة وبعض موظفيها الإعلاميين، فإنه من غير المتوقع الكشف عن الحقيقة كاملة لهذه الأزمة التي اندلعت في مرفق عمومي، فالمغاربة يتذكرون إذا كانت الذاكرة الجماعية لا تنسى أن الملك الراحل الحسن الثاني قال ذات عهد على شاشة التلفزيون ما معناه، إنه مستعد أن يسلم مفاتيح هذا الجهاز الذي يعكس وجه المغرب الرسمي في الداخل والخارج، لمن في حوزتهم من دعاة الدين الإسلامي أفكار يريدون عرضها في التلفزيون شريطة أن تكون بناءة ومقبولة... فهل أدرك بنكيران قوة هذا الجهاز الذي اتهم صحفييه بتصويره في وضع «مضحك»، وهو في مجلس حكومي؟ إبراهيم عليا, صحافي مغربي

أزمة القطب العمومي وتحديد مجال القرارات

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

البحث عن إصلاح عابر للإيديولوجيات

التحولات الراهنة وأسئلة الديمقراطية والتوافق

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات