الثورات زلزال سياسي واجتماعي وثقافي

التفكير المنطقي في زمن الثورة يصبح أمرا صعبا يقال إن الحقيقة هي أولى ضحايا الحروب، وربما كانت القدرة على التفكير المنطقي هي أولى ضحايا الأزمنة الثورية. الثورات تفاجئنا بأحداث ومواقف متغيرة ومتسارعة في تبدلها، تضغط على أعصابنا بأسئلة أخلاقية وسياسية يتحتم الإجابة عنها في زمن قصير جدا، تداهمنا بشخصيات ورموز جديدة علينا، وظواهر غير مألوفة، تضعنا دائما في مواقف حدية، تتماس مع تفاصيل حياتنا وحياة من حولنا، فينصهر «الشخصي» و»العام» ويصعب التمييز بينهما.في الحالة الثورية يصبح «التفكير المنطقي»، بما ينطوي عليه من استدلال واستنتاج وربط بين المقدمات والنتائج واعتماد الأسلوب العلمي في تفسير الظواهر، أمرا صعبا. ومرد هذه الصعوبة، في نظري، يرجع إلى خمسة عوامل:العامل الأول هو التداخل بين الشخصي والعام، فالثورات، بوصفها زلزالا سياسيا واجتماعيا وثقافيا هائلا، تؤثر على حياة كل منا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يتحدد موقفك من الثورة ونظرتك لها تبعا لموقعك في المجتمع، وكذا لملاحظاتك المباشرة لما يحدث حولك في دائرتك الصغيرة في الأسرة والعمل والحي.وهذا التأثير يحدث غالبا دون أن تدري، ويعتمد على تراكمات لا يمكن تمييزها بشكل علمي، فلا يعني، مثلا، كونك غنيا ألا تؤيد ثورة ترفع شعارات حقوق الفقراء، بل قد يحدث العكس ربما من باب «غسل الذنوب» والتطهر من الفساد. وقد رأينا شيئا من هذا في ثورة يناير، إذ عج الميدان في الثمانية عشر يوما من شهر يناير 2011 بنخب من الطبقة الوسطى العليا والطبقة العليا، بصورة شكلت مفارقة واضحة، خاصة أن «الريف الفقير» كان الأكثر بعدا عن الثورة (حالة الصعيد نموذجا). وهذا مجرد مثال واحد على كيفية تأثير مواقعنا على مواقفنا وآرائنا في زمن الثورة بصورة غير متوقعة وتجافي المنطق، وهو ما يبعدنا قطعا عن التفكير المنطقي، ويقربنا أكثر من «شخصنة» الظواهر والمواقف.العامل الثاني يتمثل في صعوبة الفصل بين ما هو سياسي وما هو أخلاقي، فالثورات تسلط علينا أسئلة، في مجملها، أخلاقية: هل تقف مع الحق أم الباطل؟ هل تساند العدل أم تدعم الظلم؟ هل تقبل بالحلول الوسط على حساب ما ينبغي أن يكون؟ هل تساوم في الدم؟ هل تقبل أن تضحي أنت، أو الأعزاء لديك، مثل من ضحوا؟.ومثل هذه الأسئلة الأخلاقية تستدعي، بطبيعة الأمور، إجابات ومواقف أخلاقية، وهنا، يبتعد المرء أكثر في تحليله للظواهر وتقييمه للحلول عن مربع التفكير المنطقي/ السياسي، ويقترب أكثر من منطقة التفكير الأخلاقي/ المثالي. وحتى وإن غلف مواقفه وآراءه بإطار سياسي، يظل المنطلق أخلاقيا في جوهره. العامل الثالث يتمثل في ما يعرف بـ»عقلية القطيع»، وأبسط تعريف لها هو أن يتصرف عدد كبير من البشر بالطريقة نفسها وفي الوقت نفسه، وهذه الظاهرة معروفة في عالم الاقتصاد وصرعات الموضة، وتفسر في أحيان كثيرة السلوك غير المنطقي للمستثمرين في أسواق المال، عندما يدفع الذعر بعضهم، تحت تأثير معين، إلى بيع الأسهم، فيتبعهم الآخرون بشكل غير منطقي، في صورة قطيع متدافع، فتنهار البورصة. وفي زمن الثورة يكون لعقلية القطيع تأثير أكبر في التفكير والمواقف، إذ تحدث الثورة حالة عامة من الاضطراب، وعدم الثقة في المستقبل، والخوف من المجهول، وفي مثل هذه الحالة، يكون الإنسان أقرب نفسيا لأن ينضوي تحت لواء الأغلبية التي يشعر في كنفها بالاطمئنان، فضلا عن الاعتقاد الراسخ في اللاوعي لدى أغلبية البشر بأن الأغلبية قلما تكون على خطأ، وهنا يصبح على المرء أن يقوم باستمرار بضبط إيقاع تفكيره ومواقفه على موجة تفكير الأغلبية نفسهاوخلال العام الماضي يمكن بسهولة ملاحظة كيف يؤدي هذا الضرب من التفكير إلى إثارة قضايا واتخاذ مواقف معينة في الساحة الإعلامية/ السياسية، ثم خفوت هذه القضايا وصعود أخرى، لتحتل الصدارة بشكل فجائي وغير منطقي يشبه تقلبات البورصة التي يتسبب فيها سلوك القطيع.أما العامل الرابع فينصرف إلى تأثير المصالح على المواقف، فالثورات تطيح بمصالح راسخة ومستقرة ارتبطت بالعهد الساقط، وتفرز في الوقت نفسه مصالح جديدة ومحتملة تتصل بالزمن الآتي. بقلم: جمال أبو الحسن, عن موقع «المصري اليوم»

الثورات زلزال سياسي واجتماعي وثقافي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بن بلـة... رحيــل سيـاسـي جـزاـئري بـارز

أحمد بن بلة... يسكن التاريخ الذي صنعه

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات