العنف… سرطان ينخر المجتمع

يتفشى في محطات الحافلات وسيارات الأجرة ولا يستثني ملاعب كرة القدم المكان: محطة لسيارات الأجرة التي تؤمن الربط بين الحسي الحسني وحي المعاريف. التوقيت: كل ساعات الذروة في الفترات المسائية التي تبدأ غالبا من الرابعة عصرا، وتمتد إلى ما بعد التاسعة ليلا (باستثناء أيام نهاية الأسبوع طبعا). المشهد: حشد من الناس، رجال ونساء، أطفال وشيوخ، موظفون وطلبة، عمال وتلاميذ... كلهم تجمهروا في صف طويل، عيونهم شاخصة على شارع إبراهيم الروداني، عند تقاطعه مع شارع بئر أنزاران عسى سيارة «ميرسيدس 240» تلوح في الأفق. «..يا ولد الكلـ...»الحشد يقف كأنه فيلق جيش مرصوص. انضباط وترقب، طابور بشري طويل، المسافة الفاصلة بين طرفيه تقارب المائتي متر. الجو هذا المساء (مساء الثلاثاء الماضي) بارد. الريح تهب بين الفينة والأخرى قارسة كأنها سرب نمل يعيث في أطراف الجسد المكشوفة. سيارة أجرة صغيرة تتوقف فجأة ليد أشارت لها. سيارة رباعية الدفع تسير خلفها. فرامل «الكات الكات» تصدر صريرا حادا. تتوقف للحظات قصيرة ثم تتقدم بتؤدة من على الجهة اليمنى لسيارة الأجرة الصغيرة، يتقابل سائق السيارة السوداء مع سائق سيارة الأجرة يخفض زجاج النافذة اليسرى، يظهر منها شخص بربطة عنق وبذلة أنيقة، ثم يصيح «والله كون ما حشمت يا تنهبط لم.. يا ولد الكلـ...». سائق سيارة الأجرة الصغيرة الذي كان منشغلا مع الراكب الذي دلف إلى داخل السيارة، يستقصي منه عن الوجهة المقصودة... لم يمهل سائق السيارة الرباعية الفخمة حتى يلتقط أنفاسه بعد السيل الجارف من السب والشتم الذي قذفه به، وكان رده لاذعا لاسعا كأنه تيار كهربائي «والكلبة هي م.. يا المّسخ، إلى كنتي راجل أجي هَوّد عندي».صاحب السيارة الرباعية الدفع لم ينتظر حتى ينهي صاحب سيارة الأجرة الغاضب سيل سبه، بل ضغط بشدة على دواسة السرعة مخلفا وراءه أزيزا قويا وسحابة دخان هو أقرب إلى الرمادي منه إلى الأبيض... «العروبي لاخر... غادي تخلعني زعما بالكرافاتا والكات الكات... «، يقول صاحب سيارة الأجرة الصغيرة وهو يواصل شتمه. بعض ذوي النيات الحسنة من الذين ينتظرون وسيلة نقل تقلهم، أغلبهم متوجهون إلى الحي الحسني والألفة، تدخلوا بخيط أبيض لنزع فتيل سوء تفاهم كاد أن يتطور إلى تشابك بالأيدي. «الرجوع لله آ الشريف»، يقول أحدهم محاولا إطفاء غضب السائق الهائج، ويسترسل آخر «الله ينعل الشيطان آ خويا، سير الله يسهل عليك». ما هي إلا لحظات ويضغط السائق دواسة السرعة بعد أن دلف إلى جوف سيارته الحمراء الصغيرة راكبان وهو يهز رأسه ذات الشمال وذات اليمين.... «الله يلعنها تربية»حشد المنتظرين مازال ينتظر، بعضهم وجد في المشاجرة اللسانية تسلية زجى بها قليلا من وقته. الترقب يطول ويطول إلى أن تبرز فجأة سيارة أجرة بيضاء اللون، تتوقف عند أقدام الواقفين والواقفات. الحشد المتجمهر الذي كان ينتظر في طابور متراص، انطلق كأنه حشد قطيع ماشية مذعور انفلت من عقاله... ستة مقاعد انقض عليها عشرات المنتظرين والمنتظرات، وأثناء اندفاعهم لم يعد هناك فرق بين امرأة ورجل، أو بين شاب وشيخ، أو بين طفل وراشد... الكل انقض على السيارة، يتدافعون بالأيدي والمناكب، ويشدون على مقبضي بابي السيارة، وآخرون يشدون في أذرع بعضهم. الكل هنا يتدافع. النسوة يدفعن الشباب والشباب يدفعون الشيوخ... «الله ينعلها تربية» تقول امرأة لم يساعدها تدافعها على نيل مقعد داخل سيارة الأجرة، وهي تصرخ في وجه يافع نجح في إزاحتها من طريقه ودلف إلى «التاكسي».. لقطة أخرى من المشهد نفسه: فتاة وأربعة شباب يتدافعون «للفوز» بالمقعد المتبقي بالأمام. «وغير بشويا آ بنادم راكي قمشتيني»، يقول واحد من الأربعة ناهرا الفتاة، الأخيرة لم تتباطأ في الرد عليه، «وكون تحشم ونتا مضارب مع بنت على بلاصا...»، يتراجع الشاب مفسحا لها المجال، بعد أن تبادلا نظرات حادة، تمتطي هي سيارة الأجرة «خان.. ديال الخلا» يقول الشاب معلقا على مشهد لم تكن الغلبة فيه له. شغب الملاعبمظاهر العنف التي ترافق غالبا عملية البحث عن مقعد داخل سيارة أجرة كبيرة أو حافلة للنقل الحضري هي فقط غيض من فيض عنف صار كالورم الخبيث ينتشر ببطء وينخر كل مظاهر الحياة الاجتماعية في مجتمع ينزع بالتدريج إلى تبني كل قيم العنف التي كان المرء يسمع تفاصيل أخبارها عبر المذياع ثم أصبح يتابع مشاهدها عبر نشرات أخبار التي يبثها جهاز التلفاز أو في ما يبث من أعمال سينمائية تلفزيونية تنشر قيم العنف والغلظة وتستأصل مفاهيم التسامح والمودة والطيبوبة التي يتوهم الكثيرون أن المجتمع المغربي يتحلى بها...سفيان مشجع شديد الحماس لفريقه الكروي الرجاء البيضاوي. عمره اليوم 22 عاما، ونادرا ما أخلف الموعد لتشجيع فريقه الأخضر الأثير، منذ كان عمره 17 عاما. سفيان، الذي يتابع دراسته بأحد مراكز التكوين المهني، لم تعد تغريه ملاحقة فريقه أينما حل وارتحل، ولا حتى حضور مبارياته التي يجريها على أرضه بالبيضاء، أصبح يكتفي بمتابعتها على شاشة التلفاز.سفيان لم يعد يلقي بالا للذكريات الطيبة التي جمعته بفريقه الرجاء، ولم يعد يتذكر إلا «يوما أسود» من السنة الماضية، في أعقاب مباراة بين الغريمين، انتهت بالتعادل السلبي، لكنه خرج منها بتذكار على الجهة اليمنى من جبينه. حجر طائش قذف به أحدهم خلال أعمال الشغب التي اندلعت بين رجاويين ووداديين. النتيجة جرح غائر تطلب رتقه أربع غرزات، ترك ندبا سيرافقه إلى أن تتيسر ظروفه المالية، وتسمح بالخضوع إلى عملية جراحية لتجميله... محمد أرحمني

العنف… سرطان ينخر المجتمع

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

البيروقراطية تنفر المستثمرين الكويتيين من المغرب

ضغوط الحياة تفجر شحنات من السلوكات العنيفة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات