صدى الأمل بين جبال الحوز

وجوه تبعث الابتسامة وأمل يتفجر من قلب الأزمة ونشاط البناء يوفر فرصا للشغل بعد عام على الزلزال لم يكن ترفا إعلاميا أن تقرر "الصباح"، العودة في الذكرى الأولى للزلزال لمعانقة سكان الأطلس الكبير، بعد مرور عام على الكارثة الإنسانية، ونقل فرح الناس وفرحهم في الآن ذاته، من بين جبال الأطلس، التي تقف بشموخ تحرس اليوم هؤلاء ممن تضرروا من زلزال الحوز. ف "الصباح" ظلت دوما في قلب حدث الزلزال، وكانت شاهدة على كل نبضة ألم، وكتبت اسمها في تراب كل جماعة ودوار، من إقليم الحوز إلى تارودانت، مرورا بشيشاوة ثم ورزازات، وليس انتهاء بمراكش.. من هنا الحوز، كانت "الصباح" حاضرة بالصورة التي تروي ألف قصة، والكلمة التي تنبض بوجع الأرض والناس، وصفت كل وجه يحكي عن شجاعة الصمود.. كانت "الصباح"، منذ الساعات الأولى للزلزال، عينا دامعة وصورا وكلمات تلامس القلوب، تعبيرا صادقا عن مشاعر الفقد والأمل، التي حملتها صدور المنكوبين.. إنجاز: محمد العوال (موفد الصباح إلى الحوز) تصوير: (أطلس ميديا) في الحوز، تفتحت براعم الأمل على وجوه كثيرة، وارتسمت ابتسامات على وجوه نساء وشيوخ وأطفال بين الجبال ، بينما في زوايا أخرى، تخللت قلوب البعض مرارة الأسى وإحساس بعدم الإنصاف. بين فرحة النجاة وألم الفقد، وخسارة الإقصاء من برامج إعادة الإعمار، أو الاستفادة من تعويضات، وجد تجار الأزمات طريقهم، يمتطون صهوة اليأس طامعين في تحويل مأساة الناجين إلى مكاسب، لكن هل ستكون تلك الأرواح التي عادت من حافة الموت، سلعة في أسواق الجشع؟، سؤال وحدها الأيام المقبلة، قد تحمل إجابات عنه. ذكرى... نبض الأرض وصدى الفقد كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، من يوم الثلاثاء الماضي، بعدما كنا نشق مسارنا بين جبال الحوز، في طريقنا نحو تلات نيعقوب، وبالنا مشغول بالعديد من الأسئلة التي نبحث لها عن الإجابات الممكنة، ونحن نرقب من زجاج السيارة حركية مراكز قروية ودواوير، تنبض بالحياة، ترى الوجوه يملأها البريق، كأنها نجوم تشرق في سماء صباح الحوز، تتلألأ وتبث الحياة في الأفق الذي يلامس عذوبة ذلك الصباح، لكن سرعان ما يغمرنا حزن عميق، ونحن نسترجع ذكريات تتراءى أمامنا كأنها بالأمس، إذ تجتمع دموع الأطفال وعويل النساء وشيوخ فقدوا عزيزا، وبينما يتناثر الفزع من كل حدب وصوب، يتعالى صدى صرخات الاستغاثة وصفير سيارات الإسعاف التي تنقل الموتى كما الجرحى، ومروحيات تحلق غير بعيد عن رؤوسنا، والسيارات تندفع كأنها زئير العاصفة، وجموع من الناس تتدفق من كل مدن وقرى المغرب، يمدون أيديهم لدعم إخوانهم بالحوز، في مشهد يبعث على القشعريرة، كأنما الأرض ذاتها ترتجف من هول الموقف.. موقف محمد عاقل صاحب الدراجة الهوائية، الذي قدم يوما دروسا في كرم المغاربة، واقتسم مع ضحايا الزلزال كيسا من البهجة والحب والتضامن... نعبر تحناوت، حيث صادفنا جنائز ضحايا هناك... ونحن ننغمس بين جبال الحوز، يتردد بيننا صدى صوت إيطو تلك الشامخة التي فقدت ابنها أحمد تحت أنقاض الزلزال، والحسين الذي فقد طفليه بأزكور وأحمد وعلي وغيرهم... طيفهم لا يفارقنا، وهم ممن التقيناهم قبل سنة، باحوا لـ "الصباح» بكل عفوية، فهل سنجدهم على قيد الحياة؟.. هل تغيرت أحوالهم أم ساءت؟ كيف قضوا فصول السنة بقسوتها ومعاناتها وآلامها وأمالها؟ توقف سيل أسئلتنا الحائرة، حين قطع اتصال قادم من صديقنا الحسين، الذي كنا قد اتفقنا معه على لقاء في بويركان.. لكن المفاجأة كانت في استقباله لنا عند مدخل أسني، قبل أن نصل إلى وجهتنا... كان يبدو وكأنه انتظر قدومنا على أحر من الجمر، ويترقب لحظتنا بفارغ الصبر.. «ألو فينكم.. أنا راه وصلت أسني واش قربتوا...». أسني... روح بين أوصالها أسني، التي كان الألم يتغلغل في أوصالها قبل عام، وغلف الحزن أرجاءها، وعلت أصوات الاحتجاج ساعتها بين أهلها، احتجاج تدفق كصرخة لزرع الأمل، لم تعد كما كانت البارحة... فهذه المنطقة الجغرافية، التي تلجها قادما من مراكش عبر تحناوت، تستقبلك اليوم عند مدخلها بمشهد يبعث على التفاؤل والأمل، فالعربات الصغيرة التي تزين مدخلها تعرض فواكه من أطيب ما جادت به الطبيعة، بعد أن استعادت المنطقة عافيتها، وعادت المياه تتدفق من ينابيعها بعد الزلزال، مما أعاد الحياة إلى ربوعها، وأعاد لبساتينها وحقولها رونقها الذي كاد أن يُفقد بعد سنوات من الجفاف.. بجانب محطة الوقود التي تتوسط قلب أسني، حيث تعج الحياة بحركة الناس وصوت المحركات، تجلس امرأة في العقد السابع من عمرها، تنبض ملامحها بالحكمة والتجربة... تفرك أصابع يديها في حركة مكرورة، كما لو كانت تحاول مسح بقايا الزمن من ذاكرة مؤلمة. عندما نقترب منها، نلاحظ صمتها العميق الذي يحيط بها كدرع من الحزن، لكن بعد لحظات، يقترب شاب في العشرينات من عمره، يمتطي دراجة نارية، يبدو أنه من أقاربها... تبادلنا حديثا قصيرا معه، ففهمنا أن المرأة لا تجيد الحديث بالعربية، وبدوره بدأ في نقل حوارنا إليها... بدت نظرات الشاب "عبد المالك" مليئة بالتعاطف، وكأنما هو جسر بين ماض مليء بالألم وحاضر يسعى للتغلب عليه. عندما سألناه عن مدى تأثير الزلزال عليها، بعد هذه الشهور كان جوابها مليئا بالدهشة والحزن في الآن ذاته، "عام كامل؟" قالت، وقد بدت وكأنها تستعيد ذكريات ماضية، ثم أطلقت ابتسامة خفيفة، كشفت عن سنها الأصفر المذهب، ليبرز في تلك اللحظة مزيج من الأسى والأمل... «لقد فقدت خمسة من أقاربي... لكن لا تحدثني الآن عن ذلك، إنه قدر الله، لقد تجاوزنا كل الألم الذي يقبع بداخلنا..." تخرج الكلمات من فمها ببطء، كمن يحاول أن يخفف عبء سنوات من الصبر والمعاناة. تتوقف لبرهة، وتتنهد عميقا، ثم تواصل حديثها "الألم صعب جدًا، ولكن الحياة لا تقبل السعادة الأبدية، فسعادتنا في جزء من شقاوتنا"، وكأنما تجد في كلماتها عزاء، وفي محنتها أملا وفرحا... طيلة حديثها الذي استمر لقرابة خمس دقائق، تجسد هذه المرأة التي رفضت البوح باسمها، رمزا للصمود في وجه المصائب، وتجعل من الألم والأمل تناغما متسقا.. حينما تلوح بيديها وتنظر إلى الأرض خجلا، يسافر بنا الزمن إلى إيطو المرأة تفيض مروءة وإنسانية.. هكذا هم أهالي الأطلس الكبير، يحملون دوما بريقا من الأمل يضيء الطريق... الأمل الذي ينسكب مطرا يحاول أحمد (بائع فواكه بأول منعرج طرقي يقود إلى أسني) رغم تقوس ظهره بفعل الزمن، أن يقف مستويا كمن يستمد قوته من صميم روحه، ويأخذ نفسا عميقا قبل أن يشرع في الحديث عن الأمل والحياة، بلغة عربية ممزوجة بكلمات أمازيغية "الزلزال قضاء وقدر، أناس لم يموتوا في الزلزال، لكن فقدانهم أخيرا... هذه هي الحياة"، يقول أحمد. ويضيف "انظروا إلى هذه الخيرات التي تجود بها الأرض علينا، وهو يلوح إلى فواكه وضعت بإتقان في صناديق بلاستيكية في عربته، بينما يفتح ذراعيه، في حركة تحمل عمق المعنى، ليحتضن كل معاناة الحياة وآمالها. تسكن السماء فوق أحمد، الذي ينساب حديثه بكل أمل، في حالة من الترقب، وقد تلبدت بالغيوم التي بدأت تنسج خيوط المطر الخفيف، كما لو أن السحب تستجيب لحديثه وتشارك في لحن الأمل الذي ينشده... كل قطرة تتساقط على الأرض تروي جراحا وذكريات، وتضيف إلى المشهد لمسة من الشفافية، وكأنها تنقش على وجه الأرض رسالة تطمئن القلوب "الحياة رغم قسوتها، تحمل دائما في طياتها بذور الأمل"، يقول أحمد. وسط هذا المشهد، يظل أحمد واقفا، تعابير وجهه تحمل مزيجا من السكون والتفكر، كما لو أنه يتحدث إلى الطبيعة نفسها، ويطلب منها أن تكون شاهدة على رحلته الطويلة مع الأمل والحياة... كل ما حوله يعكس تلك اللحظات التي تقف فيها الروح بين الحزن والفرح، بين فقدان الأمل واسترجاعه، في تناغم ساحر يخلق توازنا مؤثرا بين معاناة الماضي وتطلع المستقبل.. "بغال" التعمير زينة لكم ونحن نلج أحياء مركز أسني، تنقشع لنا صورة جديدة لواقع المنطقة بعد الزلزال.. هنا، حيث الحياة تنبض بصخب البناء والتعمير، ونبتت محلات بيع مواد البناء على أطراف كل شارع أوممر، وتبدو أسني وكأنها تحولت إلى ورشة عمل مفتوحة، تعج بالسيارات والشاحنات التي تنقل مواد البناء، بينما تواصل البغال والحمير رحلتها اليومية، تحمل الرمال إلى أبعد نقطة في جبال أسني المترامية. أسني، تلك المنطقة الجغرافية، التي ترقد بين جبال ويركان وأوكايمدن من جهة، بينما يقف جبل مولاي إبراهيم شامخا كحارس صامت لهذه الأرض، من جهة أخرى.. وسط هذا المشهد، تتردد أصوات الباعة والعمال، وتتحرك قوافل الحمير والبغال المثقلة بالأحمال، لتصل إلى المناطق الوعرة، حيث لا تصل الشاحنات. شاب في مقتبل العمر، لم يكمل بعد عقده الثاني بعد، يقف منهمكا في ملء كيس جلد كبير يوضع على ظهر البغال.. بابتسامة متعبة، يقول "الحمد لله، نحن نشتغل هنا في نقل الرمال ومواد البناء إلى الناس الذين يشيدون منازلهم وسط الجبال... في السابق، لم نكن نحقق أرباحا كبيرة من نشاط البغال، كنا نعتمد على نقل الفواكه من الضيعات الفلاحية إلى قارعة الطريق أو إلى السوق، أما الآن، فالطلب على مواد البناء مرتفع، والوضع مختلف تماما...". منظر البغال وهي تشق طريقها عبر المسالك الوعرة يحمل في طياته قصة طويلة عن أهل أسني، الذين استجابوا لحاجتهم الملحة في إعادة بناء حياتهم. وسط هذه الجبال، لا شيء يثني الناس عن التمسك بالأمل، فالعمل يجري على قدم وساق، كأن الأرض ذاتها تحاول تضميد جراحها، وكأن هؤلاء العمال وأصحاب المحلات يساهمون في نسج قصة جديدة، حيث يعاد بناء المنازل التي انهارت، ويتجدد الأمل الذي فقد.

صدى الأمل بين جبال الحوز

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

قالوا

الجيش يخسر موهبته مجانا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات