إصلاح عميق وجدي للقضاء

يصادف عيد العرش لهذه السنة الاحتفال بمرور خمس وعشرين سنة على تولي جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده عرش أسلافه الميامين، ربع قرن مضى على مبايعة الملك محمد السادس نصره الله وأيده أميرا للمؤمنين وملكا للمملكة المغربية منذ 23 يوليوز 1999، وتمثل هذه المناسبة محطة مهمة لاستعراض رؤية جلالته الإستراتيجية لمستقبل الأمة المغربية والأوراش الملكية الكبرى المفتوحة وفي مقدمتها ورش إصلاح القضاء. كما هو معلوم يعتبر القضاء اللبنة الأساسية للحكم ومحورا أساسيا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وركيزة من ركائز دولة الحق والقانون، بالإضافة إلى أنه من مهام الإمامة العظمى التي يتقلد أمانتها صاحب الجلالة الملك محمد السادس بصفته أميرا للمؤمنين، وهو ما جعل القضاء يحتل مكانة بارزة في مسار الإصلاحات والأوراش الكبرى، يؤكدها الاهتمام الدؤوب والجدي لجلالته في جل خطاباته السامية من خلال حثه على ضرورة الإصلاح الشامل والعميق للقضاء ترسيخا لدعائم دولة الحق والقانون. العدالة الضامن الأكبر استهل جلالته بعد تربعه على عرش أسلافه الميامين خطبه الموجهة للشأن القضائي بخطابه السامي لمناسبة افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15 دجنبر 1999 والذي جاء فيه: «إن العدالة كما لا يخفى هي الضامن الأكبر للأمن والاستقرار والتلاحم الذي به تكون المواطنة الحق، وهي في نفس الوقت مؤثر فاعل في تخليق المجتمع وإشاعة الطمأنينة بين أفراده وإتاحة فرص التطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي وفتح الباب لحياة ديمقراطية صحيحة تمكن من تحقيق ما نصبو إليه من آمال وإذا كان الجميع مطالبا بمضاعفة الجهود وبذل الطاقات لمجابهة المستحدثات المتلاحقة ورفع تحدياتها فإن المعول كبير على قضاتنا في حدود اختصاصاتهم الدستورية أن يواصلوا أداء رسالتهم المقدسة بما يتناسب وما تفرضه تعاليم شريعتنا السمحة من عدل وإنصاف واستقامة وكرامة وحماية للقانون وتمسك بالفضائل الخلقية السامية التي ينبغي أن تتحكم في السلوك والتي أنتم لاشك مثالها والقدوة». وقد واصل جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده التوجه الإصلاحي للقضاء من خلال خطابه لمناسبة ترؤسه افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ فاتح مارس 2002 إذ جاء فيه: « كما يجب على القضاء أن يوفر الرؤية التوقعية الحقوقية المطمئنة والموضحة للضمانات، التي يكفلها القانون معززا بذلك مناخ الثقة التي تعد حجر الزاوية للاقتصاد الليبرالي مساهما في النهوض بالاستثمار والنماء الاقتصادي. لذا حرصنا على إعادة الاعتبار للقضاء وتأهيله وتطهيره من كل النقائص والشوائب المشينة، محددين بكل حزم ووضوح سبيل الإصلاح الذي لا مناص منه. وقد تحقق بالفعل تقدم لا جدال فيه حيث تم إيقاف مسلسل التدهور والمضي قدما في عملية إعادة البناء وعصرنة العدالة مما مكن من تعزيز الاستقلال الفعلي للقضاء وتقوية سلطته في تجسيد المساواة أمام القانون والإسراع في تنفيذ الأحكام». وقد عرفت الخطابات الملكية منحا تصاعديا في الدعوة إلى إصلاح القضاء من خلال الخطاب السامي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله لمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت 2009 والذي يعد بحق خطابا مفصليا في مسار إصلاح القضاء إذ تضمن الخطوات الجدية والحقيقية لتكريس الاصلاح وجاء فيه: « ومواصلة للجهاد الأكبر لتحقيق هذا الهدف الأسمى، فقد ارتأينا أن نخصص خطابنا، المخلد لذكراها السادسة والخمسين، لإطلاق الإصلاح الشامل والعميق للقضاء، تعزيزا لأوراش التحديث المؤسسي والتنموي الذي نقوده». وحدد جلالته من خلال هذا الخطاب الـمحـاور الأساسية لـلإصلاح، معبرا عن إرادته الشريفة للتنزيل الجدي والصادق والواقعي لإصلاح القضاء وجاء فيه كذلك: « إن الأمر يتعلق بورش شاق وطويل، يتطلب تعبئة شاملة، لا تقتصر على أسرة القضاء والعدالة، وإنما تشمل كافة المؤسسات والفعاليات، بل وكل المواطنين. وإننا لنعتبر الإصلاح الجوهري للقضاء، حجر الزاوية في ترسيخ الديمقراطية والمواطنة لدى شبابنا وأجيالنا الحاضرة والصاعدة. لذا، ننتظر من الجميع الانخراط القوي في كسب هذا الرهان الحيوي، بنفس روح الثورة الدائمة للملك والشعب، على درب استكمال بناء مغرب العدالة التي نريدها شاملة، بأبعادها القضائية والمجالية والاجتماعية». واستمرت الخطوات الملكية السامية لإرساء قضاء وطني قوي ومستقل من خلال جعل القضاء في صلب الإصلاح الدستوري لسنة 2011، إذ نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة حول مشروع الدستور الجديد بتاريخ 9 مارس 2011 على الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وهو الأمر الذي تعزز بالمصادقة على ذلك عبر الاستفتاء الشعبي على تعديل الدستور والذي كرس استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. نقطة فارقة شكل الإقرار الدستوري باستقلال السلطة القضائية نقطة فارقة في مسار تنزيل رؤية جلالته المستنيرة لإصلاح القضاء، إذ مكن من إحداث مراجعة شاملة للتشريعات والقوانين ذات الصلة باستقلالية السلطة القضائية وإحداث مؤسسات جديدة في خضم تحصين هذه الاستقلالية وتقويتها، في أفق تحقيق المناعة الذاتية والمؤسساتية للقضاء كسلطة مستقلة وقائمة الذات ومتعاونة مع باقي السلط. لقد استمر الاهتمام السامي لجلالته بمسألة إصلاح القضاء من خلال تتبعه لأشغال الهيأة العليا لإصلاح العدالة، إذ نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة لمناسبة عيد العرش المجيد بتاريخ 30 يوليوز 2012 على أن:" وانطلاقا من كون دولة الحق والقانون هي مصدر كل تقدم، فقد جعلنا العدالة في مقدمة أوراشنا الإصلاحية. وحيث إن الدستور الجديد يضع استقلال القضاء في صلب منظومته، فإن الشروط باتت متوافرة لإنجاح هذا الورش الكبير، متطلعين إلى أن تعمل الهيأة العليا لإصلاح العدالة، وفق مقاربة تشاركية منفتحة، لإعداد توصيات عملية ملموسة، في أقرب الآجال". وبعد حوار موسع مع مختلف الفاعلين في قطاع العدالة، قدمت الهيأة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة لجلالة الملك نصره الله ميثاقا يتضمن ستة أهداف استراتيجية كبرى، وتتمثل هذه الأهداف في توطيد استقلال السلطة القضائية، وتخليق منظومة العدالة، وتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات، والارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء، وإنماء القدرات المؤسساتية لمنظومة العدالة، وتحديث الإدارة القضائية، وتعزيز حكامتها. وفي هذا الإطار، تم إصدار نصوص قانونية ذات أهمية كبرى، وفي مقدمتها القانونان التنظيميان المتعلقان بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وبالنظام الأساسي للقضاة، وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كهيأة دستورية مستقلة ذات تركيبة متنوعة، تحت رئاسة جلالته، بالإضافة إلى القانون الذي نقل بموجبه الإشراف على النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، باعتبارها آليات تشريعية وتنظيمية لتنزيل استقلال السلطة القضائية الذي يعتبر جلالته هو ضامنه. وبعد الإصلاحات الدستورية والتشريعية والمؤسساتية، دعا جلالته من خلال العديد من خطبه إلى ضرورة تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون والرافعة الأساسية للتنمية، والذي يشكل تحديا آخر يتعين رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي تشهدها مختلف المجتمعات. تخليق المشهد القضائي كما حث جلالته على ضرورة تخليق المشهد القضائي، وفي هذا الصدد قال جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2013 للشعب المغربي : "ما فتئنا منذ تولينا أمانة قيادتك، نضع إصلاح القضاء وتخليقه وعصرنته، وترسيخ استقلاله، في صلب اهتماماتنا، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم، وإنما أيضا لتوفير مناخ الثقة كمحفز على التنمية والاستثمار"، وتختزل هذه الكلمات السامية مبررات إصلاح القضاء وتخليقه، باعتباره أداة ضرورية لتنمية الوطن، وباعتبار تخليق المهنة واجباً على الدولة وعلى القضاة أنفسهم، وأنه ليس غاية في حد ذاته ولكنه وسيلة من الوسائل بين يدي الوطن ليرتقي إلى مصاف الأمم المتقدمة. بقلم: الدكتور محمد عبده البراق* *رئيس المكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة بمكناس وصفوة القول، أن الخطب والمبادرات الملكية طيلة الخمس وعشرين سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده والمتعلقة بمسألة إصلاح القضاء والعدالة، جعلت من القضاء قطب رحى الإصلاحات الكبرى وقاطرة للإقلاع بالورش التنموي المتعدد الأبعاد في أفق ترسيخ الديمقراطية وتعزيز الاقتصاد والتنمية البشرية تنزيلا للنموذج التنموي لـ"مغرب 2035 "، انطلاقا من أن العدل أساس الحكم وأن العدل لا يتحقق إلا بقضاء مستقل ونزي ، قوامه التنزيل الجدي والحقيقي للإرادة الملكية السامية من خلال مؤسسات السلطة القضائية ومن خلال الضمير الحي للقضاة.

إصلاح عميق وجدي للقضاء

ربع قرن من إصلاحات منظومة العدالة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"بنات اليوم" على "دوزيم"

محامون‭ ‬تحت‭ ‬شمس‭ ‬الغضب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات