رضا والهامل يترجمان كتاب إيكوشار الذي تتبع تطور العاصمة الاقتصادية صدر حديثا للباحثان عبد الحميد رضا وطارق الهامل الترجمة العربية لكتاب "الدار البيضاء.. قصة مدينة" للمهندس المعماري الفرنسي ميشيل إيكوشار، عن منشورات "أمل" وبمراجعة وتقديم للدكتور محمد معروف الدفالي. الكتاب الذي صدرت طبعته الأصلية باللغة الفرنسية سنة 1955 يعد وثيقة مرجعية عامة في تتبع مسار تطور الدار البيضاء خلال النصف الأول من القرن العشرين، كما يعرض لأهم الأعطاب والمشاكل التي نجمت عن التطور السريع للمدينة. في هذا الخاص تضعكم "الصباح" في قلب أجواء الكتاب. إعداد: عزيز المجدوب يرى المترجمان عبد الحميد رضا وطارق الهامل، أن كتاب "الدار البيضاء قصة مدينة" لميشيل إيكوشار، يعد وثيقة تاريخية ومرجعية ذات أهمية بالغة في مجال الدراسات المعمارية والتاريخية، إذ يتميز بمنهجيته الدقيقة في توثيق عمليات إنشاء الأحياء الرئيسية في الدار البيضاء خلال منتصف القرن العشرين. ويعرض الكتاب السمات المعمارية البارزة لتلك المرحلة بتحليل عميق، كما يتناول بشكل مفصل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية التي شهدتها المدينة في أواخر الأربعينات، وهي فترة مفصلية أسهمت في وضع أسس تصاميم التهيئة، ليس فقط في الدار البيضاء، بل امتد تأثيرها إلى مدن مغربية أخرى. وتوقف الباحث والدكتور محمد معروف الدفالي الذي قدم الترجمة العربية، عند تجربة ميشيل إيكوشار، باعتباره مهندسا ومخططا معماريا، ومسؤولا عن تهيئة مدينة الدار البيضاء في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وأبرز الدفالي كيف أن كتاب إيكوشار جمع بين جزء من تاريخ تعمير الدار البيضاء، وبين جزء من السيرة الذاتية، والسيرة الفكرية، لأحد أكبر المهندسين المعماريين الذين اعتمدت عليهم إدارة الحماية الفرنسية في تنفيذ مخططاتها التعميرية الكبرى، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأحد الذين كانت بصماتهم قوية وظاهرة في مسار تاريخ تعمير هذه المدينة. السياسة الأهلية وقضية التعمير تتبع الدفالي، تقديمه، حركة العمارة والتهيئة، ارتباطا بحركة السكن والسكنى، والأسماء التي اهتمت بها خلال فترة الحماية، بدءا برجال السياسة وعلى رأسهم المقيم العام الجنرال ليوطي (1912 ـ 1925)، وإيريك لابون ثامن مقيم عام (مارس 1946 ـ ماي 1947). واشتهر ليوطي بانشغاله بأمرين رئيسيين، هما قضية ما سمي "السياسة الأهلية" وقضية التعمير، ومن هذا الانشغال الثاني ارتبط اسمه بلحظة التأسيس لتحديث مدن المغرب وعمرانها، وبإرساء الأسس الحضرية الحديثة، بما رافق الأمر من تأسيس للهياكل الإدارية الأولى وإصدار باكورة القوانين، الخاصة بالمجال، وعلى رأسها ظهير 16 أبريل 1914، أول القوانين التي صدرت في مجال التعمير، فقد كان ليوطي على وعي بالدور الرئيسي للتخطيط في إيجاد حلول للمشاكل الحضرية الملحّة، وفي نشأة التجمعات الحضرية ونموها. أما المقيم العام إريك لابون، يضيف الدفالي، فقد ارتبط اسمه بفسح المجال لاجتهادات معمارية جديدة، همت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما انتقدت بعض هفوات التجربة التأسيسية، وسعت إلى إصلاحات أكثر عمقا، حسب تقديراتها. وكلف ليوطي المهندس "جان كلود فوريستيي" سنة 1913 بمهمة العمل على توسيع الحواضر السلطانية وتزيينها، عن طريق إنشاء أحياء عصرية ومنتزهات وحدائق عامة، إلى جانب المعماري والمخطط العمراني "هنري بروست" المتخصص في تهيئة المدن، وكلفه ليوطي بتهيئة عدد من المدن المغربية، ثم المعماري والمهندس المدني "ميشيل إيكوشار"، صاحب تجربة بسوريا منذ بداية ثلاثينات القرن العشرين، في ترميم المباني الأثرية، وفي إعادة تخطيط وتوسعة عدد من المدن بالشرق، منها دمشق وبيروت، قبل أن ينتقل إلى المغرب، ليتولى منصب مدير قسم التخطيط العمراني في إدارة الحماية إلى حدود 1952. ارتبط اسم المهندسين "فوريستيي" و"بروست"، بفترة المقيم العام ليوطي، وامتدادتها التعميرية، حيث كانا على رأس مساعديه، تنظيرا وتنفيذا، في ما خطط له من أوراش تعمير وتهيئة كبرى لعدد من المدن، وفق المعايير الحضرية الحديثة، بينما ارتبط اسم "إيكوشار"، بفترة المقيم العام إيريك لابون وما تلاها منذ ما بعد حرب 1939 ـ 1945، إلى حدود نهاية الحماية. فلسفة ليوطي في المرحلة الأولى قادت فلسفة ليوطي في مجال إعداد التراب والتهيئة العمرانية والمعمار، إلى انتقال مركز الجذب من المناطق الداخلية والعواصم التقليدية، نحو الساحل الأطلسي ونحو المحور العمراني الذي نشأ على طول هذا الساحل. وقد بنيت هذه الفلسفة على التجارب الاستعمارية السابقة لصاحبها في عدد من البلدان، منها الهند الصينية ومدغشقر. وحرص "فوريستيي" على المورفولوجية الأصلية للمدينة المغربية، في مشروع توسعة هذه المدن، وبهذا أغنى تصورات ليوطي وساهم في ترسيخ رؤيته التي جمعت بين المحافظة على الطابع الأصيل للمدن التقليدية، وبين التحديث في بناء الأحياء والمدن الجديدة. كما قرر ليوطي استبعاد المدن المغربية العتيقة من إجراءات تقنين التعمير، التي انصبت على المدن والأحياء الجديدة ذات الخلفية الهندسية الأوربية، إذ ترك المدن العتيقة لحالها وحاول عدم التدخل في واقعها سوى بالمساهمة في تزويدها ببعض الضروريات من قبيل الماء والكهرباء، وقد يكون من بين مقاصده في هذا الإطار، يقول الدفالي، التفكير في ترك هذه المدن لمصيرها إلى أن تفنى وتنقرض بشكل تلقائي. وتتمحور الفلسفة التعميرية لليوطي حول مجموعة من القواعد أجملها الدفالي في ثلاث رئيسية، أولاها ضرورة الفصل بين المدن القديمة وبين المدن والأحياء الأوربية، التي شكل الحرص على إنشائها أحد أبرز الخطوط العريضة لسياسته التعميرية. وثانيها ضرورة حماية التراث الثقافي المغربي، ثم ثالثا ضرورة مراعاة أحدث الشروط وأرقى القواعد المعمول بها في التهيئة العمرانية، عند تشييد المدن واستحداثها. تطبيق بروست نبه الدفالي إلى أن نظام الحماية الفرنسية سخر سياسة التعمير لخدمة الكثير من أهدافه الاستعمارية المبنية على الاستغلال والسيطرة، ولم تكن فقط لمجرد تنظيم المجال الحضري بالمغرب وإعادة هيكلته، بقدر ما كان يهدف إلى التحكم في الأرض والسكان عن طريق مراقبة المغرب من الناحية الأمنية وإقامة مشهد عمراني تتحقق فيه حاجيات المعمرين الأوربيين ويتناسب مع أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما عملت سياسة ليوطي على إقامة تجمعات حضرية أوربية عصرية، تتوفر فيها كل شروط التعمير والهندسة الحديثة، إلى جانب تجمعات تقليدية، كانت بالإضافة إلى نزعة التمييز والعنصرية التي تحكمت فيها، نوعا من العمل على إثبات التفوق الثقافي والحضاري الذي لم يدخر نظام الحماية جهدا في العمل على إظهاره إزاء المغاربة، كجزء من الإيديولوجيا الاستعمارية التي اعتمدها. وشكلت الدار البيضاء في الفترة الكولونيالية فضاء لتجريب مقاربات ومغامرات في مجال المعمار الحديث، هندسة وبناء وتعميرا، إذ اعتبر البعض أنها اختصرت قصة نجاح "بروست" في تطبيق المبادئ الحضرية، في الوقت الذي انتقد خلفه "إيكوشار" عمله بشكل لاذع، معتبرا أنه لحظة قدومه إلى البيضاء وجدها "مدينة عشوائية بدون تخطيط حضري"، أو المدينة التي نبتت كما تنبت الفطريات بدون تهيئة حضرية. فلسفة إيكوشار اختلفت فلسفة إيكوشار التعميرية، عن الفلسفة التعميرية، التي سادت قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بالمغرب، والتي وجه لها المهندس المعماري نقدا لاذعا، واتهمها بتكريس سياسة التمييز والعنصرية، وقاد حركة انقلاب ضد مبادئها وقواعدها. وارتكزت فلسفة إيكوشار على الربط بين التركز الحضري بالمغرب، وبين تطور التصنيع ودخول البلاد دائرة الاقتصاد العالمي الحديث، نتيجة إعادة نظام الحماية لبناء الاقتصاد المغربي وإعادة هيكلته، وفي نظره كان هذا التطور الاقتصادي الجديد مساعدا على النمو السكاني، ومساعدا على هجرة سكان البوادي نحو المدن، وما أسفرت عنه تلك الهجرة من تزايد تصاعدي في نسبة سكان الحواضر. ومن خلال تشبعه بفلسفة "مؤتمر أثينا" المحددة لوظيفة المدينة في الغايات الأربع: العمل والسكن وسهولة التنقل والترفيه، فقد نادى إيكوشار بخلق مناطق كفيلة بتحقيق تلك الوظائف، فكان بذلك أول من أدخل تقنية "التنطيق" le zoning في التخطيط الحضري بالمغرب، كما ضمّن قانون التعمير الجديد الصادر سنة 1952، هذا التقنية باعتبارها وثيقة جديدة من وثائق التعمير. ونص هذا القانون على ضرورة تحديد المناطق، ووضع تصميم للتنطيق، بغرض تحديد الوظائف التي يوزع سطح الأرض بينها، بشكل عقلاني، يتحكم في توجيه التوسع العمراني، ضمن المجال الحضري، وبغرض عزل المناطق السكنية عن غيرها من مناطق الأنشطة الصناعية والتجارية والترفيهية والخضراء، في أفق تحسين توزيع هذا المجال، وتلبية مختلف حاجيات السكن وحاجيات مختلف الأنشطة المجتمعية. ومن المهام التي أوكلت لإيكوشار مهمة إنجاز مشاريع سكنية لسد الخصاص الذي استفحل مع الحرب العالمية الثانية، وهي المهمة التي اشتغل عليها في إطار منظور خاص يرى في مشكلة تخطيط المدن وبنائها من أجل أكبر عدد من السكان، مشكلة حيوية بالنسبة إلى مستقبل المغرب، ولتوازنه الاقتصادي والاجتماعي. من هذا المنظور نزع إيكوشار من مخيلته الفكرة الضيقة للمدينة والتجمعات الحضرية، معوضا إياها بضرورة الربط بين المدينة وبين محيطها الخارجي، من خلال الاشتغال على محاور بكاملها بدل الاشتغال على المدن فقط، إضافة إلى اهتمامه بالبوادي، في أفق الحد من الهجرة وأفق الحفاظ على الحد الأدنى من التوازن بين القرى والمدن. اهتم إيكوشار أيضا بالسكن الاجتماعي المخصص لأصحاب الدخل المحدود، وبتهيئة الأحياء الفقيرة من أجل استيعاب الكثافة السكانية في الأحياء المكتظة، وضمن هذا التصور تصدى لتحسين أحياء الصفيح، من خلال التخطيط لهيكلتها عن طريق تزويدها ببعض المرافق والتجهيزات الضرورية، من قبيل الماء الصالح للشرب بواسطة السقايات، وشق بعض الطرق، ونصب أعمدة للإنارة على طول تلك الطرق. وتم تنفيذ كل هذا ضمن مفهوم التخطيط التدريجي للمدن والسعي إلى ضمان السكن لأكبر عدد ممكن، عن طريق إعادة إسكان دور الصفيح، وتوفير مساكن منخفضة التكلفة للفئات ذات الدخل المحدود، وإعادة توطين العشوائيات، أو ما سمي "نسيج إيكوشار" الذي خطط لعملية الانتقال من مدن الصفيح إلى السكن الأفقي ثم السكن العمودي.