أيت فرحي يتعقب المقالات السجالية لصاحب «من الكائن إلى الشخص» صدر حديثا للباحث حميد أيت فرحي كتاب جديد بعنوان "الإنتاج الفكري والمجتمع بالمغرب.. من خلال نصوص للفيلسوف محمد عزيز الحبابي (1949 ـ 1950) عن منشورات "أمل". الكتاب الذي تولى تقديمه الدكتور محمد معروف الدفالي عبارة عن دراسة وتجميع لنصوص ومقالات للفيلسوف المغربي، تظهر جانبا آخر من شخصيته الفكرية التي تأسست عبر مشروعه الفلسفي الذي فصّل فيه القول من خلال العديد من الكتب، لكن في هذا الكتاب يسلط أيت فرحي الضوء على البعد السجالي في شخصية الحبابي وانخراطه في القضايا المجتمعية والسياسية لمغرب نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" إلى أجواء هذا الكتاب الذي يشكل وثيقة مهمة للتعرف على جانب من وعي النخب المغربية خلال مرحلة تاريخية معينة. إعداد: عزيز المجدوب لا يمكن فهم مكانة الفيلسوف والمفكر المغربي محمد عزيز الحبابي (1922 ـ 1993) في الفكر المغربي والعربي المعاصر دون ربطها بالسياق الثقافي والمجتمعي العام، الذي نشأت وتطورت فيه الثقافة المغربية في نهاية النصف الأول من القرن العشرين. خلال هاته الفترة كان المغرب خاضعا للاستعمار الفرنسي، بكل ما تعنيه الكلمة من الخضوع لتقييد الإرادة السياسية ومحاصرة للمشروع الذاتي في التحرر والتقدم، أما الثقافة التي كانت تنشأ معبرة عن وعي النخب بواقع حال هذا المجتمع، في ذلك الوقت، فقد اتخذت طابعا إصلاحيا وطنيا، والرغبة في المساهمة في التغير الاجتماعي ومواجهة الهيمنة الاستعمارية. لم يكن الحبابي بعيدا عن أسئلة المشروع السياسي الإصلاحي للمغرب المعاصر، بل كان منخرطا فيه بطريقته الخاصة، وقد سمح له تكوينه الفلسفي في الجامعة الفرنسية، في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، بمعاينة كيفيات تشكّل مدارس وتيارات فلسفية معينة، فدخل في حوار مع بعض هذه التيارات محاولا تقديمها والتعريف بها. مدشن القول الفلسفي الجامعي واكب إنتاج محمد عزيز الحبابي، في نهاية الخمسينات، وما تلاها انطلاق الدرس الجامعي في الفلسفة مع إنشاء الجامعة المغربية سنة 1959، وبلورت أعماله جهدا غير مسبوق في مجال بناء فكر فلسفي مغربي موصول بمدارس الفلسفة المعاصرة، وموصول في الوقت نفسه بالأسئلة التي كانت تنشأ إذاك في الثقافة المغربية، كما أشار إلى ذلك الدكتور كمال عبد اللطيف في كتاب "أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب". ونشأت أعمال الحبابي موزعة بين اهتمامات متعددة، فقد عمل على إنتاج المقالة الفلسفية المرتبطة بمناخ وأسئلة وتيارات الفكر الفلسفي الفرنسي، الفلسفة الوجودية وفلسفة برغسون والفلسفة الشخصانية على وجه الخصوص كما هو الشأن بالنسبة إلى مؤلفاته من قبيل "من الكائن إلى الشخص" أو "الشخصانية الإسلامية" و"من الحريات إلى التحرر"، كما حاول توظيف بعض فنون الأدب خاصة في مجال الشعر والقصة والرواية، إذ كتب بالفرنسية والعربية الشعر كما نشر مجموعات قصصية وأعمالا روائية. أما فــي كتـاب "الإنتــاج الفكــري والمجتمع بالمغرب" فقد تعقب الباحث حميد أيت فرحي، الخط النضالي في مسار محمد عزيز الحبابي، مركزا على المقالات السجالية التي نشرها نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات. يقول حميد أيت فرحي إن محمد عزيز الحبابي، انضم، منذ أن كان تلميذا في ثانوية مولاي ادريس، إلى صفوف "الحركة القومية"، والتي ستتحول إلى "حزب الشورى والاستقلال "الوزاني"، علما بأن والده عبد العزيز كان كذلك من الوطنيين الشوريين. وفي هذا السياق أشار محمد بلحسن الوزاني في مذكراته إلى اسم الحبابي، ضمن "لجان الدعاية، والماليــة، والإسعاف، والتسييـر"، التي كـــانت تشتغـــل تحت لــــواء "الحركة القومية"، لتهيئ "وثيقة المطالبة بالاستقلال" الخاصة بأعضائها، والمؤرخة بيوم 13 من يناير 1944، وقد شارك الحبابي في ما أعقبها من مظاهرات، واعتقالات، حيث قضى ثمانية أشهر في المنفى ب"غابة فروحت"، قرب مدينة صفرو. اختار محمد عزيز الحبابي جريدة "الرأي العام" الناطقة بلسان حزبه لتكون منصة إعلامية لأولى مقالاته النقدية والتحليلية، والتي كتبها خلال 1949 و1950، تحت تأثير الجو الثقافي الذي عايشه خلال دراسته في فرنسا، وعمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين، ولم يمض على مقامه بباريس إلا أربع سنوات، حاز خلالها على دبلومي الإجازة في الفلسفة والفيزياء، وعلى دبلوم الدراسات العليا، ودبلوم المدرسة الوطنية للغات الشرقية، وبالتالي، فقد اكتسب من المعارف الحديثة والمناهج التحليلية، ما أهّله لنشر هذه المقالات بكيفية شبه منتظمة. نقد لاذع لعلال الفاسي يضم الكتاب نصوص مقالات كرسها الحبابي لنقد كتاب علال الفاسي: "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" (1948) وركز فيها على أربع نقط وهي: عدم مطابقة العنوان لفحوى الكتاب، و"أنانية المؤلف"، وشططه في الحديث عن شخصه ، ثم منهج الكتاب: "ليس بكتاب في السياسة، ولا في التاريخ"، وأخيرا محاسن الكتاب. وأما "أنانية" مؤلف الكتاب، فقد حظيت باهتمام خاص من قبل الحبابي، الذي لم يتورع عن الإشارة لها في أكثر من موضع، بل وفسحت له المجال لاستخدام أسلوبه الساخر في النقد، حينما سجل بأن أغلب صفحات الكتاب: "تدور حول شخص المؤلف، فنحن لم نكن مبالغين حين قلنا عنه إنه "ملحمة علالية"، قبل أن يعدد الأمثلة على ذلك: "إنه ليس "بحركات" بل "حكايات" و"ليس بـ "حركات استقلالية" بل "حكايات أنانية"...". كما سجل الحبابي في موضع آخر بأسلوب تهكمي قائلا "لقد كان يأسنا عظيما لما قمنا بسياحة في تاريخ "الحركات الاستقلالية" فوجدنا أن علالا هو صاحب النور، وأن نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح فيه زجاجة، الزجاجة انعكس ضياؤها عليها فلم يصل منها إلى الخارج إلا الظل، وأحيانا بصيص خافت (...) صرنا نتساءل أحقا أنه لولا علال لكان الظلام كثيفا جدا؟ أحقا أنه هو الذي كيف الذهنية المغربية تكييف العصر، وخلق الأعمال وكون الافراد، ونفخ فيهم من روحه؟ فسبحان من يحيي العظام وهي رميم!" ورغم كل هذا النقد، فإن الحبابي اعترف بالبعض من محاسن الكتاب، خاصة تلك الفصول التي لا تمت لشخص علال بصفة، كالفصل الذي خصصه لتاريخ المغرب قبل الفتح الإسلامي، والفصل الأخير "الخاص بأفكار المؤلف الشخصية حول قضية العالم العربي"، وجامعة الدول العربية، بالإضافة إلى الصفحات التي أوردها حول "الحركات الإصلاحية الدستورية التي قام بها الشباب المغربي التقدمي (قبل الحماية بسنوات!)". "وزير غرناطة" في ميزان النقد لم يسلم من نقد محمد عزيز الحبابي حتى رفيقه في الحزب الراحل عبد الهادي بوطالب، إذ خص روايته "وزير غرناطة" بمقال لاذع، واعتبرها أول قصة تاريخية في الأدب المغربي الحديث، تتفوق في متنها على ما كان رائجا من سلسلة جرجي زيدان التاريخية، حسب رأيه، وقد فطن الحبابي إلى أن ركون بوطالب إلى الرواية التاريخية لم يكن إلا بغرض نقد الواقع الراهن، حسب ما صرح به حين كتب :"إن قصة "وزير غرناطة" درس لجميع شعوب الشرق الأوسط وشمال افريقيا، "وكلنا في الهم شرق!" فبوطالب قد تعرف إلى هذه الشعوب ودرسها عن كثب ومعرفته هاته قد أثرت ولا ريب في قصته ومن هناك كانت وقائعها مرتبطة (رغم القدم) بمشاكل الحالة الراهنة". لكنه عاب على صاحب الرواية اهتمامه بما يروج فقط "في القصور بين الملوك والحجّاب والوزراء في مجالس يكثر فيها الشتم والنفاق"، وأهمل دور الشعب في مجريات الأحداث، أما على مستوى الأسلوب، فقد أشار الحبابي إلى مظهر من مظاهر "الأسلوب العربي القديم"، وهي تكرار العبارات للمعنى نفسه، وأدرج امثلة على ذلك، على اعتبار أنها "هفوات صغيرة في الكتاب"، وبالمقابل فإنه وجد في هذه الرواية باعثا على التفاؤل بمستقبل الحركة الأدبية في المغرب. كنون التقليدي أما مقالته النقدية التي خص بها كتاب عبد الله كنون: "ذكريات مشاهير المغرب"، فقد تطرق فيها لنقطتين أساسيتين: المنهج، وأسلوب الكتابة، بالنسبة للمنهج فقد اعتبره تقليديا ويفتقر للتحليل العلمي، ضاربا المثال بالكتيب الأول عن عبد العزيز الفشتالي، الذي صنف أبوابه حسب الترتيب التالي: "(كنيته، نسبه، ولادته ونشأته، طلبه للعلم، نبوغه المبكر، ولايته لوزارة القلم، حظوته عند المنصور، وفاته... "، معلقا بالقول: "هذه صورة طبق الأصل للمنهج التقليدي، فمنذ نشأة الأدب العربي والمؤرخون ينحون هذه الطريقة.."، في حين يقترح الحبابي كبديل، اعتماد الطريقة المنهجية التي "تلزم على المؤلفين أن يختاروا من بين الأحداث المتعلقة بحياة الأديب المدروس ما هو أكثرها علاقة بإنتاجه بحيث يمرون على الكنية واللقب والنسب مر الكرام... وإلا سئم القارئ..."، بالإضافة إلى اعتماد التحليل النفسي ودراسة الوسط "الذي تكون فيه الشخص المؤرخ له". كما نعت أسلوب "كنون" في الكتابة بـ"الطابع العتيق"، لأنه "تنقصه الدعابة" ولم يغفل الحبابي، في الوقت نفسه، التنويه ببعض مزايا الكتاب، من قبيل أن كنون "لا يستعمل الكلمات الغريبة ولا التراكيب الصعبة إلا نادرا .."، كما أشاد بمجهوداته الثقافية.