رفيق الزعري الذي تشبع بالفن ورسخ تجربة الثنائيات بلمسة عصرية غيب الموت، نهاية الأسبوع الماضي، الفنان والممثل مصطفى الداسوكين عن سن ناهزت الثانية والثمانين، بعد مسار حافل طبع اسمه في ذاكرة أجيال من المغاربة، الذين انتزع منهم الابتسامة بأدائه الذي جمع فيه بين الفكاهة الفطرية والتكوين الأكاديمي في مجال المسرح. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" أهم المحطات الفنية لهذا الفنان الاستثنائي. إعداد: عزيز المجدوب ذات لقاء تلفزيوني مع الإعلامي والفكاهي مراد العشابي، أجاب الراحل مصطفى الداسوكين، عن سؤال حول غيابه عن الساحة الفنية خلال الفترة الأخيرة، قائلا "اللهم يسولوك الناس: فين غبتي؟ ولا يسولوك: تا آش درتي؟".. عبارة أطلقها الداسوكين بكل عفوية، وبروح ساخرة وفي الوقت نفسه منكسرة، جراء سنوات من الجحود والنكران والتغييب، لجيل من الفكاهيين المغاربة، ظلوا يحملون في جيناتهم عناصر الإضحاك، العابرة للزمن والأجيال، دون أن يجدوا المنتجين والمخرجين والمناخ الفني القادر، على استثمار خبرتهم ورصيد المحبة والتقدير الذي يحظون به، في أعمال فنية تتجاوز حالة العي الفكاهي الذي نعيشه. وهكذا ودعنا مصطفى الداسوكين، كما ودعنا كثيرون غيره، من جيله، ممن اختاروا الانزواء بشكل اختياري، أو قسري، وفاء منهم لمبادئهم وأنفتهم وكبريائهم، الذي يحول دون انجرافهم نحو اختيارات قد تسيء إلى تاريخهم الفني، فكانت النتيجة غيابا في أوج العطاء، وترفعا عن مجاراة التحولات التي طرأت على مجال أصبحت فيه السيادة لكل شيء إلا الإبداع. رفيق بيتشو ينتمي مصطفى الداسوكين، إلى جيل من الفكاهيين، شكل لحظة انتقالية، ما بين الإضحاك في صيغته الفطرية الأولى، عبر مجالات الفرجة المتاحة أمام المغاربة في زمن مضى، خاصة عبر فرجة الحلقة وباقي الأشكال الفرجوية الموازية، وصولا إلى الوسائط الجديدة في نقل هاته الفرجة سواء عن طريق الإذاعة والتلفزيون والأسطوانات، أو السهرات المباشرة. تشبع الداسوكين ببذور السخرية والفكاهة، من البيئة التي نشأ فيها، إذ اختار التمرد على كل الأوضاع التي واجهها في حياته، بدءا باليتم المبكر الذي عاناه، إثر فقدان الأب وعمره لا يتجاوز السابعة. كان الأب يشتغل جنديا ضمن الجيش الفرنسي، لم يتسن له تربية ابنه مصطفى، تاركا إياه وفي ذهنه مشاهد وصور نادرة عن الوالد، أهم ما رسخ منها هو الانفتاح على الثقافة الفرنسية، في محيط شعبي محافظ. ترعرع الداسوكين بدرب كرلوطي بدرب السلطان، حيث فتح عينيه على وسط حركي مفعم بالحيوية، أفرز العديد من الأسماء التي نبغت في مجال الفن والرياضة مثل الحاجة الحمداوية والشعيبية العذراوي ومصطفى الخلفي ونعيمة المشرقي وفريدة بورقية والمخرج أحمد حيدر وأيضا صديقه النجم الكروي الراحل مصطفى شكري الشهير بلقب "بيتشو" الذي ربطته به علاقة وطيدة، إلى درجة أن الداسوكين كان واحدا ممن أقنعوا النجم الرجاوي بالالتحاق بالغريم التقليدي له الوداد، بعد أن توترت علاقته بفريقه الأم خلال السنوات الأخيرة من عقد السبعينات. ظهرت مواهب الفتى مصطفى مبكرا، في مجالات مختلفة، بدءا بكرة القدم، إذ رغم ميوله لفريق الوداد، إلا أنه وجد نفسه يلعب لفتيان الرجاء الرياضي لفترة معينة، كما التحق مبكرا بخيرية المشور، بطريق مديونة، حيث قضى بضع سنوات، بفضاء الرعاية الاجتماعية، وكان في الوقت نفسه يتردد على بيت الأسرة نهاية كل أسبوع بدرب كرلوطي. وسط أترابه بالخيرية نبغ الداسوكين أيضا في مجال الغناء إذ كان يقلد نجوم الطرب السائدين آنذاك، كما كان يجيد العزف على آلة الهارمونيكا، قبل أن يجد نفسه منجرفا خلف عشق المسرح والتمثيل، خاصة عندما انخرط في تجربة المخيمات الصيفية تحت إشراف الفرنسيين، وهناك أتيحت له فرصة المشاركة في أول دور مسرحي مثله في مسرحية "البخيل" لموليير. خاض الداسوكين أيضا تجربة التجنيد الإجباري حيث تشكلت ملامح شخصيته داخل الثكنة، كما كان له عبور قصير في قطاع البريد، لكن سرعان ما تمرد على التوقيت الإداري للوظيفة، ليلتحق بخيرية عين الشق منشطا تربويا، رفقة رفيق عمره وتجربته الفنية الفنان مصطفى الزعري، حيث عنّت لهما تشكيل تجربة الثنائي خلال هذه المرحلة. من الإثنيات إلى الاحتراف لحظة ظهور الثنائي "الزعري والداسوكين"، اتسمت هاته المرحلة بظهور تجربة الثنائيات الفكاهية، نهاية الستينات، وهي المرحلة التي يقول عنها الباحث حسن بحراوي إنها أعلنت عن نفسها من خلال سهرات التلفزيون الأسبوعية، أو عبر الأسطوانات من فئة 45 لفة. ويشير بحراوي في دراسة له بعنوان "الفكاهة في المسرح المغربي.. نموذج الثنائيات الفكاهية" إلى أن أصحاب الثنائيات بعضهم جاء من المسرح الاحترافي، كما هو الشأن بالنسبة إلى الثنائي "بلقاس وعبد الجبار لوزير" اللذين عملا مع الفرق المسرحية المراكشية لفترة من الوقت، قبل أن يستقدمهما الطيب الصديقي خلال الستينات. وقد أعاد هذا الثنائي إحياء الفكاهة الإثنية التي شهدت ازدهارها في احتفالات أعياد الاستقلال، والتي كانت تقوم، في جملة ما تقوم عليه، باستثمار الفروق اللهجية والقبلية من نوع العروبي والمديني والشلح والفاسي واليهودي والعبد وغيرها. كما ظهرت خلال الفترة نفسها ثنائيات غنائية ساخرة ذات الأصول الزراعية والرعوية، التي اتجهت في فرجاتها إلى إحياء التقاليد القبلية والتغني بأمجاد الأولياء واصطناع المواقف البدوية الضاحكة، وربما كان من أبرزها ثنائيات "قشبال وزوال" و"قرزوز ومحراش" و"بوشعيب الدكالي ومصطفى العبدي" و"العوني والبهلول" وغيرهم. الثنائيات الفكاهية... ملح الفرجة رحبت التلفزة المغربية، في بداية انتشارها، بهذا الرعيل من الفكاهيين الفطريين، يقول بحراوي، وأحاطته بالرعاية الرمزية، وجعلت منه عنصرا حاضرا على الدوام في مواد السهرة الأسبوعية، كما لقي هذا اللون من الفكاهة التفافا من قبل جماهير المشاهدين والمستمعين في الحواضر المغربية، خاصة الفئات الغفيرة من النازحين إلى المدن ممن ما تزال أذواقهم قريبة العهد بالمدينة الحديثة. وفي خضم السبعينات ستتسرب بعض العناصر الفكاهية من فرق المسرح الجوالة ويدخل بعضها في تجارب فردية أو ثنائية تعمل خاصة في تقديم السهرات العمومية، أو عرض وصلات ساخرة في الحفلات أو البرامج التلفزيونية الترويحية، منها "الداسوكين والزعري" و"المحجوب الراجي وصلاح الدين بنموسى" و"عزيز سعد الله وخديجة أسد" ثم "بزيز وباز" وبعدهما "عاجل وفلان" وصولا إلى جيل الثمانينات والتسعينات، مع "الصداقة" والتيقار" و"لهبال" و"السفاج وامهيول" وغيرهم. تألق مسرحي وتلفزيوني مر الداسوكين بتجربة قصيرة ضمن فرقة بوشعيب البيضاوي، بعد أن عوض غياب أحد الممثلين، بتزكية من لمفضل الحريزي وأحمد القدميري، والتحق بعدها بالفرق المسرحية التي انبثقت في درب السلطان مثل "الأخوة العربية" للراحل عبد العظيم الشناوي، و"العهد الجديد" للراحل عبد القادر البدوي، ثم فرقة "الفنانين المتحدين" للفنان محمد الخلفي، وفي الوقت نفسه ظل حريصا على تكوين نفسه أكاديميا، إذ حصل على دبلوم في مجال الدراما، ضمن تكوين تابع للبعثة الفرنسية بالمغرب. وتوطدت علاقة الداسوكين برفيق دربه الفنان مصطفى الزعري، من خلال إشرافهما على تكوين الأطفال بخيرية عين الشق، وشكلّا في ما بينهما ثنائيا من أشهر الثنائيات الكوميدية في مغرب ما بعد الاستقلال، كما تألق بعدها في عشرات الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، من أشهرها "ستة من ستين" و"الجيلالي ترافولتا" و "الزواق يطير" و"شمكارة ولكن"، وكان مسلسل "شوك السدرة" للمخرج شفيق السحيمي من آخر الأعمال الدرامية التي أظهر فيها الداسوكين وجها آخر من النضج الفني في الأداء.