ماضي مركز المدينة أفضل من حاضره ومشاريع أخفقت في استعادة جماله بسبب ثقافة «الإسمنت» تشعر بغصة كبيرة في القلب، وأنت تتجول وسط المدينة بالبيضاء. لا تصدق أن هذا المكان في السنوات الماضية، كان يفرض على كل من ينوي زيارته الاستحمام وارتداء الأزياء الفاخرة، حتى يكون جزءا من جماله ورونقه. الآن انقلب كل شيء، وصار وسط المدينة أشبه بحي عشوائي لولا البنيان والشوارع التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية. أزبال وروائح كريهة، ومتسولون وباعة جائلون أفسدوا بطريقة عرض بضاعتهم مشهد المدينة العصرية. ورغم مشاريع عديدة أنفقت عليها الملايير لإعادة رونقها، إلا أن النهاية كانت صادمة، قتلت الجمال والإبداع الهندسي السابق، والسبب أن من أشرف عليها كان متشبعا بثقافة "الإسمنت". إنجاز: مصطفى لطفي – تصوير (أحمد جرفي) ينطبق على البيضاء حرفيا، قولة "ماضيها أفضل بكثير من حاضرها"، فهذه المدينة التي كانت في بداية القرن الماضي، تتكون من حي بسيط وميناء تقليدي، توسعت بشكل غير مسبوق، بعد أن أدرك المستعمر الفرنسي قيمتها، فخصص لها ميناء كبير، وحولها إلى أرقى مدن العالم، بعد أن جند لها خيرة مهندسيه، للإشراف على نهضة عمرانية أبهرت الجميع ومازالت آثارها إلى اليوم. لكن بدل أن تواصل البيضاء هذا المجد العمراني أو على الأقل الحفاظ على منجزاتها القديمة، تعرضت إلى إهمال غير مسبوق، لدرجة أنه لو عادت الحياة لمهندسيها السابقين، لأطلقوا رصاصة على أنفسهم دون تردد. الأمير يتجرد من لقبه كان الجميع يعلق آمالا كبيرة على مشروع إعادة تهيئة ممر الأمير مولاي عبد الله "البرانس"، فهذا الشارع كان أيقونة بيضاوية، منذ سنوات السبعينات، تميز بهيبة خاصة، واعتبر فضاء تجاريا مفتوحا، يحظى بزيارة علية القوم. لكن بعد نهاية المشروع، عمت الصدمة الجميع، لقد سرقت من "البرانس" زينته، وتحول إلى ممر عاد جدا، رغم أرضيته الرخامية، التي اتسخت بشكل كبير مع مرور الأيام. في السابق كان الشارع حكرا على الراجلين، تزينه أشجار فريدة وضعت داخل "خصات " دائرية الشكل تبهر الزوار. الهدف من تصميمه بتلك الطريقة وقتها، جعله مركزا تجاريا مفتوحا، وفعلا توفق مهندسوه في هذا الأمر، لكن بسبب الإهمال والتهميش بدأ يفقد بهاءه رويدا رويدا. حاول مسؤولو البيضاء، تصحيح الخلل وأعلنوا عن مشروع إعادة تهيئته. توقع الجميع تصميما هندسيا فريدا، سيما بعد تداول صور لنافورات وحدائق دائرية عصرية الشكل سيتزين بها الشارع، لكن ما حدث كان العكس، أزيلت الأشجار، وتحول الشارع إلى بلاط من الرخام، استغله باعة جائلون لعرض سلعهم أمام حسرة مالكي محلاته التجارية. كان الشارع في السابق قبلة للبيضاويين للتنزه والتبضع، لدرجة أن المرء يجد صعوبة في حجز مقعد في مقاهيه، سيما مقهى "لاشوب"، الآن صار ممرا فقط للانتقال إلى محطات سيارات الأجرة والحافلات وفضاءات أخرى أفضل حالا منه. وما زاد الوضع قتامة، مستوى الأوساخ والنفايات التي تعم أرضيته الرخامية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من مواد تنظيف يحتاج حملها شاحنات من الحجم الكبير لاستعادة لمعانها. غزو الباعة الجائلين تغادر "البرانس" صوب شارع محمد الخامس، فتجد نفسك أمام لوحة بشعة. انتشار الباعة الجائلين واحتلال علني للملك العمومي، والمزيد من الأوساخ والأزبال المنتشرة هنا وهناك. لا تصدق الأمر في البداية، وتفرك عينيك بقوة متوهما أن ما عاينته خدعة بصرية، لكن للأسف إنها الحقيقة المرة. في السابق كانت الساحة المعروفة بـ"الغوت" تضم نافورة تثير الزوار. يسابق الجميع لالتقاط صور أمامها، وحولها سرب من الحمام صار جزءا من تاريخ المكان الآن، زالت النافورة، وتم تعويضها بنصب على شكل "مسخ"، حاول العديد من البيضاويين، شرح معناه وشكله، فبقي أحجية إلى اليوم. كان أهم إنجازات من أشرف على تسيير البيضاء، طرد سائقي سيارة الأجرة من الحجم الكبير من هذا المكان، بعد أن حولوه إلى محطة دائمة، ساهمت بشكل كبير في تشوهات عمرانية، لكن التشبع بـ"ثقافة الإسمنت" حرمت البيضاويين من فضاءات خضراء. هذه الهندسة الغريبة، استغلها مسيرو محلات للوجبات الخفيفة لاحتلال الملك العمومي. تم وضع كراس على مساحات كبيرة، بشكل ساهم في عرقلة تنقل المواطنين، خصوصا عندما يتسابق مستخدموها نحوهم لاستقطابهم. البشاعة تتواصل أمام خط "الطرامواي" ومطعمين عالميين للوجبات السريعة. أزبال وباعة جائلون ومتسولون يحيطون بكل شيء، في مشهد لا يجعلك تصدق أنك فعلا في أرقى أحياء البيضاء. ويستمر المشهد في قبحه إلى الفضاء المقابل لمقهى "فرنسا" التاريخية، حيث الأمور أكثر فظاعة، خصوصا أمام محطة "الطرامواي" فالفضاء رغم أنه مقابل لفندق عالمي ومقاه تاريخية، صار أشبه بسوق شعبي أو "قريعة"، بسبب نوعية السلع والمنتوجات التي يعرضها الباعة الجائلون، بعضهم تجرأ لعرض منتوجاته أمام محطة "الطرام"، وآخرون فضلوا الابتعاد قليلا تفاديا لأي إحراج قد يدفع السلطة إلى مطاردتهم. "مسموح البول" إلى جانب بشاعة المشهد وسط المدينة، أكثر ما يثير استفزاز البيضاويين الروائح النتنة، إذ تحولت بعض فضاءاته إلى مكان للتبول. الغريب أن هذه العملية تتم علنا وأمام أنظار الجميع. رغم وجود كراس للاستراحة، سيما على طول خط "الطرامواي"، يتفادى مواطنون الجلوس في عدد كبير منها، والسبب أن الفضاء الذي خلفها، تحول إلى مرحاض عمومي، وآثار البول والبراز حتى، تظهر بوضوح، كأن صاحبه ارتكب جريمته البيئية منذ لحظات فقط. هذه الفضائح عزاها البعض إلى أن وسط المدينة تحول لمرتع للمتشردين، إذ يكفي القيام بالزيارة ليلا، ليقف المرء على حقيقة الأمر، إذ تحولت بعض أمكنته إلى "ضيعات" صغيرة يستغلها صاحبها في النوم وقضاء حاجته. الليل البشع بحلول الليل، يظهر وسط المدينة وجهه البشع، بعد أن يحظى بزوار من نوع خاص. سكارى غادروا حاناته المشتتة هنا وهناك، ومومسات انتشرن على أغلب الكراسي المحاذية لخط "الطرامواي" بشارع محمد الخامس، دون إغفال اللصوص، الذين يترصدون خطوات ضحاياهم لسلبهم ممتلكاتهم. على كرسي أمام بنك شهير، جلست مومستان ترتديان جلابة من النوع الرخيص، تجاوز عمر الأولى الخمسين سنة، في حين ما زالت الثانية تحافظ على شبابها وقوامها الرشيق. تترقبان بعيون كالصقر كل راغب في نزوة عابرة. اختيار المومسات هذا الفضاء، يعود إلى وجود أماكن مظلمة، حيث تمكنهن من ممارسة الجنس مع أي شخص ، في حين وطدت أخريات علاقاتهن مع جهات، تسمح لهن باستغلال مكان أسفل درج العمارات بالشارع لممارسة الجنس مقابل عمولة. غالبا ما يشهد هذا الفضاء ليلا عراكا ونزاعا، سواء بين المومسات بسبب المنافسة، أو مع زبناء، رفضوا تسديد ما بذمتهم، بعد أن قضوا وطرهم منهن. كما يتحول هذا المكان أيضا إلى ساحة للمطاردة من قبل أشخاص وقعوا ضحية عملية نصب وسرقة من قبل بائعات الهوى بتواطؤ مع أشخاص يقدمون الحماية لهن، كما وقع لشاب، استدرجته مومس لممارسة الجنس بمكان مظلم بعمارة بالشارع، ففقد أمواله وهاتفه المحمول، بعد أن هددته بسكين وفرت إلى وجهة مجهولة.