خارطة طريق التحرر الوطني

الباحث أسامة الزكاري يستحضر الشروط التاريخية لوثيقة 11 يناير 1944 شكلت وثيقة الاستقلال التي قدمتها الحركة الوطنية في 11 يناير سنة 1944، نقلة نوعية في مسار نضال المغاربة من أجل تحقيق مطلب الحرية والانعتاق. وارتبطت هذه الوثيقة بميلاد وتأسيس حزب الاستقلال، واعتبرت هذه الخطوة بمثابة تتويج لمرحلة بكامل انطلقت قبل سنوات، انصهر فيها العمل السياسي مع العديد من الأنشطة الاجتماعية الموازية التي زاولها رجال الحركة الوطنية. في هذا الحوار يتوقف الباحث أسامة الزكاري عند المحددات التاريخية التي أفرزت الوثيقة، كما يتحدث الباحث بمؤسسة الزرقطوني للثقافة والأبحاث عن أبعادها معتبرا إياها من بين أبرز محطات صنع التاريخ التحرري لمغاربة عهد الاستعمار، كما استحضر الوثائق الموازية التي تم تغييبها، وأشياء أخرى تجدونها في الحوار التالي. أجرى الحوار: عزيز المجدوب ـ ما هو السياق التاريخي العام الذي أفرز وثيقة 11 يناير؟ ـ لا يمكن فهم سياقات تقديم الحركة الوطنية المغربية، ممثلة في حزب الاستقلال، لوثيقة 11 يناير إلا إذا استحضرنا الظروف الداخلية والخارجية المكتنفة للموضوع. فعلى المستوى الداخلي، ظلت الأوضاع تتفاعل مع تزايد وعي الوطنيين المغاربة بمحدودية مطلب الإصلاح الذي عكسته وثيقة "دفتر مطالب الشعب المغربي" التي قدمها الوطنيون المغاربة لسلطات الاحتلال الفرنسي سنة 1934. لقد اقتنع الجميع أن سقف المطالب الوطنية أضحى يتجاوز حدود الإصلاحات التي حاول الاستعمار -من خلالها- امتصاص ارتدادات عمل حركات المقاومة المسلحة الأولى مع رموزها الكبرى، من أمثال أحمد الهيبة ماء العينين وموحا أوحمو الزياني ومحمد بن عبد الكريم الخطابي وعسو باسلام. أضف إلى ذلك، أن الوعي الوطني التحرري تلقى جرعات هائلة من التأطير تأثرا بما كان يقع بالداخل والخارج، خاصة مع تزايد أدوار "المدارس الحرة" التي أنشأتها الحركة الوطنية والتي أصبحت تسهر على تكوين جيل جديد من المغاربة، بتكوين عصري، ووعي متقد، وطموح مثير. وازداد الأمر ترسخا مع اتساع آليات التواصل مع المشرق العربي ومع تياراته القومية، خاصة مع انفتاح المغاربة على صحافة المرحلة، ثم مع الزيارات المتتالية لرواد العمل القومي بالمشرق، وعلى رأسهم الأمير شكيب أرسلان الذي قام بزيارة تاريخية لمدينتي طنجة وتطوان سنة 1930، تواصل خلالها مع وطنيي المنطقة الخليفية التي كانت خاضعة للنفوذ الإسباني ومنطقة طنجة الدولية ومع بعض وطنيي المنطقة السلطانية التي كانت خاضعة للنفوذ الفرنسي، مما فتح آفاقا هائلة أمام رواد العمل الوطني التحرري من أجل توسيع الرؤى والمبادرات. ـ وماذا عن المستوى الخارجي؟ ـ استغلت الحركة الوطنية بشكل ذكي ظروف أربعينيات القرن الماضي، مع بداية اندحار الفاشية في أوربا وبداية تقدم قوات الحلفاء لإنهاء تفاصيل الحرب العالمية الثانية. لذلك، استغل الوطنيون بشكل جيد صدور وثيقة "الميثاق الأطلنتي" التي أصدرتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي سنة 1943، حيث تم التنصيص على ضرورة احترام مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. وتعزز الموقف نفسه في مؤتمر أنفا المنعقد يوم 23 يناير من 1943 بحضور كل من الرئيس الأمريكي روزفيلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون شرشل والسلطان المغربي محمد بن يوسف، حيث قدم الحلفاء وعدهم للمغاربة بالعمل على حل القضية المغربية. وفي المقابل، كان الموقف المغربي الداعم لقوات الحلفاء في معركتهم ضد النازية، حاسما في توجيه النداء للمغاربة من أجل تعزيز قوات الحلفاء بجبهات القتال، خاصة في جبهة صقلية وجبهة النورماندي. وبموازاة مع ذلك، كانت الأحداث الداخلية تتفاعل مع تطورات الخارج، مما أفرز ظهور تنظيمات جماهيرية استغلت السياق الدولي لتوسيع سقف مطالبها، مثلما وقع مع مبادرة إنشاء "اتحاد النقابات الموحدة بالمغرب" سنة 1943، ثم ظهور العديد من الجمعيات الثقافية والتنظيمات الكشفية والرياضية والإعلامية... وهي الإطارات الجماهيرية التي كان لها دورها الحاسم في توجيه الرؤية الوطنية نحو استغلال ظروف نهاية الحرب العالمية الثانية قصد وضع سلطات الاستعمار أمام الأمر الواقع. لم يكن من المقبول الاستمرار في ترديد خطابات الاحتواء التي تضمنتها المذكرات الإصلاحية لمرحلة الثلاثينيات، في مقابل فتح أفق وحيد وأوحد أمام المغاربة، عنوانه الاستقلال ودعم الشرعية التاريخية، ولا شيء غير ذلك. بوكس: وثائق سابقة وموازية ـ هل كانت وثيقة 11 يناير هي الوثيقة الوحيدة التي طالبت من خلالها الحركة الوطنية بالاستقلال؟ ـ لا، فالأمر يظل محط الكثير من عناصر التجاذب والتوظيف غير العلمي. فإذا كانت بعض عناصر قيادة حزب الاستقلال التي اهتمت بكتابة مذكراتها أو التوثيق لمسارات الحركة الوطنية المغربية، مثلما هو الحال مع علال الفاسي وعبد الكريم غلاب، لا تتحدث إلا عن وثيقة 11 يناير 1944، فإن الواقع التاريخي يثبت أن هذا الحكم يظل غير دقيق ومجانبا للحقيقة التاريخية. من المؤكد أن الحركة الوطنية بالشمال قدمت وثيقة للمطالبة بالاستقلال بتاريخ 14 فبراير 1943، أي قبل حوالي سنة صدور وثيقة 11 يناير. وهي الوثيقة التي قدمتها "الجبهة القومية للوطنية المغربية" لسفراء الدول العظمى بمدينتي طنجة وتطوان. ومعلوم أن "الجبهة القومية للوطنية المغربية" كانت تشكل تكتلا سياسيا ضم الحزبين الرئيسيين بمنطقة الشمال، أي حزب الإصلاح الوطني بزعامة الأستاذ عبد الخالق الطريس وحزب الوحدة المغربية بزعامة الشيخ محمد المكي الناصري. باختصار، فوثيقة الشمال كانت سابقة عن وثيقة 11 يناير على مستوى المضمون والصياغة والجرأة. وعناصر التقابل بين مضامينها ومضامين وثيقة 11 يناير تظل قائمة إلى حد التماهي والتطابق. أما عن سبب صمت وطنيي المنطقة السلطانية عن ذكر هذه الوثيقة، فتلك مسألة مرتبطة بمظاهر التدافع حول أدوار الريادة التي ميزت صراع أجنحة الحركة الوطنية خلال مرحلة فجر الاستقلال السياسي بشكل خاص، في إطار معركة تدعيم الشرعيات التاريخية. بوكس: تغييب رموز سياسية بموازاة مع ذلك، ظل موقف قطاعات واسعة داخل قيادة حزب الاستقلال من التنسيق مع "الغريم" التاريخي، أي حزب الشورى والاستقلال، محط استغراب. فكيف يمكن تفسير غياب اسم شخصية وازنة مثل محمد بن الحسن الوزاني عن لائحة الموقعين. رغم أن هذا الزعيم كان منفيا منذ سنة 1937، فإن الحزب كان حاضرا بقوة، وقاوم نزوعات إقصائه من خلال بلورة مذكرة خاصة به حول نفس مطالب وثيقة 11 يناير، تم تعزيزها بمطالب حول المستقبل السياسي لمغرب ما بعد رحيل الاستعمار وآليات تدبير المرحلة الانتقالية. وعلى كل حال، فقد قدمت قيادة هذا الحزب انتقادات شديدة ل"مؤامرة" إقصائها من التوقيع على وثيقة 11 يناير، الأمر الذي نقف عليه في أدبيات الحزب وفي تصريحات العديد من قيادييه ومسؤوليه. وبدوره، أصدر الحزب الشيوعي المغربي مذكرة ذات صلة بالموضوع، لكن مصير هذه المذكرة ظل شبيها بمصير "وثيقة الشمال"، للاعتبارات النزوعية نفسها المهيمنة على أداء نخب مغرب النضال من أجل الحرية والاستقلال. تحرر من التدجين الاستعماري ـ كيف سرعت وثيقة المطالبة بالاستقلال وتيرة الأحداث في اتجاه المطالبة برحيل الاستعمار؟ ـ شكلت هذه الوثيقة خارطة طريق للوطنيين في سعيهم للخروج من دائرة الانتظارية ولاكتساب شروط المبادرة. لم يعد أحد يقبل بمبررات الإدارة الاستعمارية في سعيها لتأبيد الوضع الكولونيالي القائم. لذلك، هيأت وثيقة 11 يناير الإطار الشرعي المحتضن للمطالب الوطنية، خاصة بتأكيدها على عناصر السيادة الوطنية، والحقوق التاريخية للمغاربة، والانتماء الجامع للأمة... لذلك، أضحى الفاعلون يجدون ما يبرر حماسهم في تجاوز منغلقات مرحلة الثلاثينيات، بخطاب جديد وبأفق جديد وبنهج جديد. لقد حررت وثيقة 11 يناير النخب المغربية من سياسة التدجين الاستعماري، بعد أن طرحت الأسئلة الحقيقية حول واقع المشروع الاستعماري وحول مآله، وأساسا، سبل إنهائه. بوكس: السلطان يزكي مبادرة الوطنيين ـ ما هو موقف السلطان محمد الخامس من الوثيقة وكيف تفاعل معها؟ ـ من المؤكد أن السلطان محمد بن يوسف كان مواكبا لكل التفاصيل. يتحدث بعض الموقعين على الوثيقة في مذكراتهم عن التنسيق الذي كان قائما بينهم وبين السلطان، مثلما أكدت عليه، على سبيل المثال لا الحصر، مذكرات أبي بكر القادري وقاسم الزهيري. كان السلطان يزكي مبادرة الوطنيين، بل ويدعمها بشكل مطلق. واستغل أول مناسبة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية للتأكيد على هذا المسعى. كان ذلك سنة 1947، عندما قام بزيارته التاريخية لمدينة طنجة، حيث ألقى خطابه التاريخي ليوم 9 أبريل، مؤكدا على مبادئ سيادة الأمة المغربية ووحدتها وتطلعاتها المشروعة نحو تحقيق الكرامة بإنهاء عهد الحجر والاستعمار. يعتبر المؤرخون أن خطاب طنجة يشكل تزكية أمينة لروح وثيقة 11 يناير، واحتضانا لمؤسسة القصر لمبادرات العمل الوطني التحرري. لذلك، لم "تغفر" فرنسا للسلطان هذه الجرأة، فبدأ الإعداد للتخلص منه بإجراءات متراتبة، توجتها، في نهاية المطاف، بتنفيذ جريمة نفي السلطان وعائلته يوم 20 غشت من سنة 1953، وتعيين السلطان الصوري محمد بن عرفة لتدبير مرحلة ما بعد محمد بن يوسف… ـ هل يمكن القول إن هذه الوثيقة ساهمت في تعاظم نفوذ حزب الاستقلال في مغرب ما بعد الاستقلال؟ ـ بالفعل، فقد عرف حزب الاستقلال انفجارا خطيرا مباشرة عقب حصول البلاد على استقلالها السياسي، بانفصال يسار الحزب وتكوينه لحزب جديد تحت اسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. دخلت الأطراف المتصارعة حول رموز الشرعية حلبة التباري من أجل تكييف واقعها مع شرعيات تاريخية شكلت وثيقة 11 يناير إحدى أبرز معالمها. لذلك، أصبحت قيادة حزب الاستقلال ما بعد 1959، تنحو نحو استثمار البعد التحرري لوثيقة 11 يناير، بل وللترويج لخطاباتها، ولتبرير سياساتها. ويبدو أن هذا المنحى لازال قائما إلى اليوم، بدليل الحرص على التأكيد على انتماء الوثيقة للحزب فقط دون سواه، باستثمار ما جاء في ديباجتها من تنصيص على تحديد صفة الموقعين المنتمين لحزب الاستقلال الذي يضم ما كان يعرف بالحزب الوطني إلى جانب شخصيات وطنية أخرى. أما قضية العدد الحقيقي للموقعين، فتلك مسألة شائكة تستلزم استحضار الكثير من عناصر الحذر العلمي الضروري للحسم في الأمر. وإلى اليوم، لازال الموضوع مثار شد وجذب سياسوي طافح. ومع ذلك، تظل الوثيقة، وبغض النظر عن التوظيفات النزوعية، واحدة من بين أبرز محطات صنع التاريخ التحرري لمغاربة عهد الاستعمار، بشكل جعلها تحظى براهنيتها الأكيدة في الإجابة عن الكثير من انتظارات مغاربة الزمن الراهن. في سطور ـ باحث مختص في تاريخ المغرب المعاصر. ـ عضو المكتب التنفيذي لمؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث. ـ له العديد من الإصدارات والمؤلفات.

خارطة طريق التحرر الوطني

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جمع التبرعات يورط الرجاء

مقود "الجرار" ينفلت من يد وهبي

مقالات ذات صلة