زنقة جامع الشلوح… مجمع النغم

نسخة بيضاوية لشارع محمد علي تحكي التاريخ الفني للمدينة القديمة تختزل زنقة جامع الشلوح جزءا من التاريخ الفني للمدينة القديمة بالبيضاء. في هذه الزنقة التي تجاورت فيها محلات بيع الآلات الموسيقية كان يتردد أهل الفن والطرب عليها خلال الزمن الجميل، وشكلت مدرستهم الأولى. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جانبا من ملامح هذا الفضاء الذي ما زال يقاوم النسيان ويستعين على مواجهته بالأمل والحياة والنغم. إنجاز: عزيز المجدوب ـ تصوير: (فدوى الناصر) انتصف النهار أو كاد، وسرت أشعة شمس الهاجرة، بين ثنايا المدينة القديمة للبيضاء. وبعثت جوا من الخدر والهدوء على أرجائها، ما انعكس على الباعة وأصحاب المحلات التجارية، عند مدخل باب السوق وبرج الساعة، الذين احتموا من القيظ خلف جدران محلاتهم ما جعل الأزقة شبه خالية والحركة تخف بها. خلال تلك الفترة من اليوم، تصبح لعملية اجتياز منعطفات الدروب الضيقة والملتوية التي تفضي إلى باطن المدينة القديمة، متعة خاصة، سيما أنها الفترة التي ينزوي فيها أبطال الحركية والصخب اللذين ينبعثان في "المدينة" منذ الساعات الأولى للصباح، هربا من الحر، وفي الوقت نفسه تصبح الطرق سالكة بكل سهولة نحو المبتغى. كانت الوجهة إلى زنقة "جامع الشلوح" حيث تقبع محلات بيع وصنع الآلات الموسيقية التي مازالت صامدة، بهذا الركن من المدينة القديمة، الذي يخترقها ويعد من أطول أزقتها ويحتضن العديد من المعالم والذكريات التي ترتبط لدى أبناء المدينة بماضيها التليد، حين كانت تحاكي هذه الزنقة شارع محمد علي الشهير بالقاهرة والذي كان يختزل هو الآخر ذاكرة الفن المصري، مثلما تختزن محلات ومرافق زنقة جامع الشلوح حكايات الفنانين وأهل الموسيقى والغناء الذين مروا من هنا. لم تكن المقارنة بين "زنقة جامع الشلوح" و"شارع محمد علي" مبالغة في نظر عمر عزيز السملالي، أحد أبناء المدينة القديمة، الذي تحدث عن طبيعة الأنشطة الفنية والموسيقية التي كانت تحتضنها المدينة القديمة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأفرزت العديد من الأسماء الفنية التي كان لها تأثير حاسم في الأغنية المغربية بكافة أصنافها. ويستحضر السملالي أسماء من قبيل الموسيقار أحمد البيضاوي وإبراهيم العلمي وأحمد البورزكي والمعطي البيضاوي وبوشعيب البيضاوي والماريشال قيبو وغيرهم ممن تدرجوا في مهن الموسيقى والغناء داخل فضاء المدينة القديمة، كما كان للمحلات التي تؤثث زنقة جامع الشلوح دورها في صقل مواهبهم الغنائية، بما كانت توفر لهم من خبرة واحتكاك مع أهل المجال. "مولاي علي" القيدوم قادتنا الجولة إلى جانب من الزنقة تجاورت فيه العديد من محلات بيع الآلات الموسيقية، بعضها معروف لدى أجيال من أبناء المدينة، منذ عقود طويلة، أشهرها محل "مولاي علي" الذي يعد من أقدمها، إذ افتتح محله بزنقة جامع الشلوح منذ الأربعينات، وكان شاهدا على العديد من المحطات المهمة في تاريخ الحي، وعدد من المشاهير والشخوص التي مرت منه. كان "مولاي علي" يملك أكثر من محل بالزنقة نفسها، ولم يبق منها سوى واحد مازال مفتوحا في وجه الزوار، يجلس فيه ابنه الذي مازال حريصا على استعادة ذكرى والده الذي توفي قبل حوالي عشرين سنة. كل شيء في المحل ظل كما هو، يقول نجل مولاي علي، الذي بدا بدوره كهلا. ملصق قديم لفيلم "رسالة من امرأة مجهولة" لفريد الأطرش، هو أول ما يطالع الزائر للمحل، الذي زينت جدرانه بصور مختلفة لفنانين من الزمن الجميل، وعدد من الآلات الموسيقية علاها الغبار إضافة إلى مكبرات صوت قديمة ومهترئة. كان نجل "مولاي علي" يتحدث بنبرة منكسرة واقتضاب عما عاشه المحل من ازدهار خلال الفترة التي كان والده يشرف على كل شيء فيه، مؤكدا أنه لم يقض فترة طويلة معه هنا ولم يكن شاهدا على الازدهار بل سمع عنه بحكم أنه كان مقيما بالخارج منذ فترة مبكرة من عمره، قبل أن يعود قبل سنوات، ليعيد فتح المحل لا لشيء سوى لاستنشاق عبق الذكريات لا غير. ولم يكن ممكنا استعادة لحظة "مولاي علي" في زنقة جامع الشلوح، إلا مع الباعة الآخرين الذين يتذكرون كيف كان الرجل يقام له ويقعد في مجال تنظيم الحفلات والأعراس بالدار البيضاء، بل كان يشرف على ثلاث مناسبات في الليلة الواحدة، بفضل الأجواق التي كان يتوفر عليها ويتعهد بتلقينها أصول الحرفة ويطوف على أفرادها لمراقبة جودة ما يقدمونه للزبائن. لم تقتصر شهرة "مولاي علي" على المغرب بل تجاوزته إلى الخارج حيث قام بجولات فنية بالجزائر وعدد من الدول الأوربية، كما كان محله قبلة لنجوم الفن الغنائي بمختلف أنماطه. لحلو... مازال في الفن بقية غير بعيد عن محل "مولاي علي" يوجد هناك محل "سعيد لحلو"، الذي يعد أحد أشهر صناع الآلات الموسيقية بجامع الشلوح، ويتحدث عن أسرار الحرفة قائلا "الصنعة لا تحتاج إلى خبرة أو دراية أكاديمية بالموسيقي، ولكن تحتاج إلى صنايعي ماهر يستطيع أن ينتج العود وفق طلب الزبون واستبعد لحلو انقراض المهنة تماما في ظل وجود معاهد الموسيقى والطلاب والفنانين والهواة، مؤكدا أن تلك الفئات تعتبر الأكثر إقبالا على شراء آلة العود من زنقة جامع الشلوح، بجانب السياح من محبي الفنون الموسيقية المغربية". ويحكي لحلو عن علاقته بالمهنة التي قضى فيها أزيد من أربعين سنة، قائلا إنه تشربها من نشأته بهذا الفضاء الذي كان يعج بأهل الموسيقى من صناع وحرفيين وباعة وفنانين، وهو ما جعله ينجذب إلى هذا المجال، رغم أن مساره الدراسي كان موفقا حصل فيه على تكوين في مجال المحاسبة وتسيير البنوك. ويستعيد المتحدث نفسه مجموعة من الأسماء التي كانت تؤثث بمحلاتها زنقة جامع الشلوح، منهم "مولاي علي" والمختار المذكوري والخدير والتيجاني ثم عزيز العلمي، شقيق الفنان الراحل إبراهيم العلمي، ومحمد العراقي، والزياني وغيرهم ممن رحل أو ما زال يزاول المهنة إلى يومنا هذا. ويقول لحلو إن هذا المحلات لم يكن دورها يقتصر على صناعة وبيع الآلات الموسيقية فقط، بل الكثير منها كان بمثابة مدرسة لتفريخ المواهب في العزف والغناء، بل إنها أفرزت أسماء خاصة بالأعراس والمناسبات مثل مطرب شعبي كان يلقب "بولعراس" وأيضا الفنان غنينو ومحمد المراكشي وغيرهم من الأسماء التي كانت تتردد على هذه المحلات. ويتابع أنه في بداياته كان منجذبا إلى تجربة الغناء، بل إنه كون فرقة موسيقية نهاية السبعينات، تحاكي المجموعات الغيوانية، التي كانت آنذاك هي الموجة الغنائية السائدة بالمغرب في أوساط الشباب، قبل أن ينوع نشاطه الفني على أنماط أخرى اقتحم بها عوالم الأعراس والمناسبات الخاصة، قبل أن يقصر نشاطه في ما بعد على بيع الآلات الموسيقية. واستطرد لحلو قائلا إنه لا يستطيع أن ينكر ما قدمه إليه هذا المجال الذي استطاع من خلاله أن يكون أسرة ويدرس أبناءه في أحسن المدارس، بل منهم من وجد طريقه إلى سوق الشغل، وأن المهنة ما زالت مستمرة، بل إن عدد المحلات بالزنقة زاد بضع محلات رغم رحيل الرواد، لأن الجيل الجديد يواصل السير في طريق الفن. تشاؤم الزياني من جانبه تحدث "الزياني"، صاحب محل، بنبرة تشاؤمية وهو يقول " نسجل بكل أسف بداية اندثار صناعة الآلات الموسيقية الأصيلة، ومعه انحسار التراث الموسيقي، إذ أن قلة الإقبال على هذه الآلات، هو نتيجة كذلك لظهور أنماط موسيقية عصرية نراها أكثر ابتذالا، ساهمت في تراجع الإقبال على الأنماط الطربية والأصيلة، وهو تحدّ آخر أمام الصناعة الموسيقية التقليدية يضاف إلى التَّحدّي الاقتصادي والتجاري". ويحكي الزياني الذي بدأ مساره في مجال تجارة الآلات الموسيقية منذ مطلع الستينات، أن هذه التجارة تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب اندحار الذوق والإقبال على الآلات الكهربائية والإلكترونية التي عوضت الآلات التقليدية. كما يستعيد الزياني ذكريات الزمن الجميل حين كان يتجاور الفنانون والموسيقيون يهودا ومسلمين الذين كانوا يؤثثون المدينة القديمة، أمثال ألبير وميشيل أبيطون وبنحاس وعازار وكاروتشي، كما كان الفضاء منفتحا على مختلف الأنماط الموسيقية حيث يجد كل زائر بغيته ومراده ولا يعود خائبا.

زنقة جامع الشلوح… مجمع النغم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

رزوق: لن أستجدي نسب المشاهدة

أندية البيضاء سطات تتألق في دورة المحمدية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات