سينما “المسرح الملكي”بالبيضاء تحتضر

شاهد فيها محمد الخامس عروضا ليوسف وهبي وفريد الأطرش الطريق إلى «سينما الملكي» الموجودة بزنقة آيت إيفلمان، لم يعد سالكا حتى مشيا على الأقدام، بسبب الكم الهائل للباعة المتجولين أو القارين من أصحاب «الفرّاشات» وطاولاتهم التي احتلت جل مساحة «الزنقة» التي تبتدئ من ساحة السراغنة وتفضي إلى «سوق الجميعة»، حتى كادت تحجب المدخل الرئيسي للقاعة الذي تحول هو الآخر إلى جزء من قيسارية الحفاري. هدوء أشبه بالمقابر يخيم على مدخل قاعة سينما «المسرح الملكي»، وداخلها، لا أحد يتوقع أن يجده وسط محيط ضاج بالحركية والفوضى مثل قيسارية الحفاري بقلب درب السلطان. وكيف لا يكون أشبه بالمقابر، وهذه القاعة السينمائية دخلت في النزع الأخير من عمرها، وتسير في اتجاه أن تصير مقبرة معمارية تنضاف إلى باقي المعالم البيضاوية المهددة بالزوال، والتي يترصدها سماسرة العقار كما تترصد العقبان والضباع الطرائد الجريحة والجيف.على واجهة سينما «المسرح الملكي»، تجاورت ملصقات الأفلام التي تعرض وستعرض بهذه القاعة، التي ما زالت تقاوم في يأس شبح الزوال، إلى جانب ملصق آخر انضاف قبل أسابيع عبارة عن إعلان لبيع القاعة يتضمن هواتف المالكين ومساحة القاعة البالغة 1245 متر مربعا، حجب جزءا من اللافتة التي تحمل اسم القاعة.بمجرد اجتياز عتبة المدخل، تطالعك باحة القاعة التي تتضمن بقايا مقصف على اليمين زينت جدرانه بملصقات لأفلام قديمة مغربية وشرقية وهندية أو أمريكية. ويتوسط الباحة مدخل مفض إلى القاعة الرئيسية، على بابه اقتعد بعض عمال السينما يتفرسون وجوه الوافدين عليها، وما أندرهم خلال السنوات الأخيرة، مستسلمين لبرودة الفضاء ولخدر الروتين.إلى أقصى يسار الباحة، يوجد شباك التذاكر وفوقه لافتة حددت عليها أثمان الدخول التي لا تتجاوز 10 دراهم بالنسبة إلى «البالكون» و8 دراهم للأوركستر، ومن إحدى نافذتي الشباك، يبدو العامل المكلف ببيع التذاكر منهمكا في مطالعة جريدة بين يديه، قبل أن يرفع عينيه المختبئتين خلف نظارة منزلقة على أرنبة أنفه، للزائر مستفسرا إياه عن حاجته بنبرة مؤدبة لا تخلو من لكنة سوسية. "السي مبارك"... 40 سنة من الخدمة سمح لنا «السي مبارك»، وهذا اسمه، بالولوج إلى مكتبه من الباب الجانبي له، بمجرد ما عرف أن الأمر لا يتعلق بشراء تذكرة للدخول إلى السينما، وكانت نبرة حديثه هادئة حد الهمس، وهو يتحدث عن الواقع المزري الذي آلت إليه هذه القاعة السينمائية التي كانت مفخرة أبناء درب السلطان وكل البيضاويين. «أكثر من 40 عام وأنا مكلف هنا بالصندوق» يقول «السي مبارك». ويضيف أن هذه المدة جعلته يعايش مجد قاعة «المسرح الملكي» ويستحضر «أيام عزها» قائلا إن طوابير المشاهدين لم تكن تنتهي، وكانت للقاعة حظوتها لدى البيضاويين الذين كانوا يحرصون على ارتيادها لمشاهدة جديد الأفلام السينمائية والعروض المسرحية مستعدين لها بما يلزم من عُدة الأناقة ولوازمها.واليوم، يضيف «السي مبارك»، بعد أن تغيرت نبرته قليلا واتخذت طابعا أكثر حزنا، «أشاهد القاعة، وهي تموت بين يدينا يوما بعد يوم، بعد أن تنكر الجميع لما قدمته للمنطقة وإلى البيضاويين عموما، وباتت تعيش أزمة مالية خانقة أدخلتها مرحلة الموت البطيء في انتظار رصاصة الرحمة، أو المنقذ من الهلاك».مظاهر الأزمة التي تعيشها أعرق قاعة سينمائية بدرب السلطان، يواصل «السي مبارك»، «تتجسد في عجزها عن تغطية مصاريفها المتمثلة في أداء أجور حوالي سبعة مستخدمين، أغلبهم ما زال متمسكا بخيط رفيع من الأمل، في أن يتم التدخل لإنقاذ القاعة وإنقاذ أسرهم من الضياع، إضافة إلى مصاريف الماء الكهرباء التي تتجاوز في أغلب الأحيان أربعة آلاف درهم شهريا، في الوقت الذي لم تعد المداخيل تتجاوز 3 آلاف درهم أسبوعيا في أحسن الأحوال، دون الحديث عن مصاريف الصيانة التي لم يعد يقوى عليها أحد فصارت القاعة عرضة للاندثار والضياع».هذا الضياع الذي تحدث عنه «السي مبارك»، يتجسد للزائر في مظاهر تحز في النفس و«الأنف»، تبدأ من رائحة العطونة التي تطالع كل داخل إلى قاعة العرض، والشاشة المهترئة التي تلوح من بعيد وكانت لحظتها تبث الفيلم المغربي «موت للبيع» لفوزي بنسعيدي ولعله مكر الصدف الذي جعل هذا الفيلم يبث في قاعة معروضة لـ«البيع» بعد أن دب «الموت» في أوصالها.لم يكن بالإمكان تحديد عدد الموجودين في القاعة بسبب الظلام الذي كانت تغرق فيه، لكن مرافقنا أكد أنهم لا يتجاوزون في أحسن الأحوال عشرين فردا، أغلبهم لا يعنيه أمر الأفلام المعروضة، كل ما يحتاج إليه لحظة هدوء وسكينة وظلام يأوي فيها إلى نفسه غير آبه بما حوله.كل شيء في القاعة، على الأقل كما تظهره دائرة الضوء المنبعثة من المصباح اليدوي لمرافقنا، يُظهر أن الإهمال طال كل مرافقها، بدءا بالكراسي التي يبدو أنها لم تُستبدل منذ عقود، والجدران التي «مُسخ» لونها، رغم التشكيل الهندسي البديع للقاعة الذي يعود لأواخر الأربعينات، الذي قال عنه المرافق «حتى لو منحت قطعة أرضية فارغة لبنائي اليوم فلا أحد منهم بإمكانه أن يعيد تشكيل قاعة مثل هذه». إهمال المقصورة الملكية ويبدو أن الإهمال وجناية البشر والتاريخ في حق قاعة سينما «المسرح الملكي» لم يطل فقط قاعة العرض فيها، بل امتد ليشمل المخدع الخاص بالملك الراحل محمد الخامس، أو «المقصورة الملكية»، وهو المكان الذي كان يجلس فيه الملك الراحل خلال زياراته لهذه القاعة السينمائية التي كانت محببة وأثيرة لديه، وهو الذي أشرف على بنائها وتابع مراحله، منافسا بها القاعات التي شيدها الفرنسيون في وسط المدينة، وكان يريد من خلال هذه القاعة أن يجعل للسينما والمسرح مكانا في وسط أعرق حي شعبي بالدار البيضاء.«المقصورة الملكية»، والتي توجد في أقصى خلف القاعة، وتمكن من رؤية كل ما فيها بشكل أوضح، لم تعد تحمل من الطابع «الملكي» سوى الاسم، بعد أن طالتها يد الإهمال هي الأخرى، وصارت عبارة عن غرفة مهجورة، بعد أن صارت مخزنا للمتلاشيات، بل و»تلاشت» مرافقها وتساقط جزء من سقفها. أما الكنبة التي كان يقتعدها الملك محمد الخامس فبهت لونها وغطاها الغبار، ولم يشفع لها أنها كانت «كنبة ملكية» في أن تسلم من يد الإهمال. البدوي: يجب تأميم القاعةالفنان والمسرحي المخضرم عبد القادر البدوي، أحد أبرز الأسماء الفنية التي ارتبطت بقاعة سينما «المسرح الملكي»، وكانت شاهدة على زمن وهجها قال في حديث مع «الصباح»، «يجب أن يكون هناك تدخل مباشر من الجهات الوصية على القطاع لإنقاذ «المسرح الملكي»، فقاعة مثل هاته يجب أن تؤمم ولا تترك عرضة للوبيات وسماسرة العقار يعبثون بها ويجهزون على تاريخها».ويعود البدوي بذاكرته إلى الوراء ليتحدث عن الماضي التليد لقاعة «المسرح الملكي»، قائلا «كانت بداياتي المسرحية من هذه القاعة، نهاية الأربعينات، ضمن فرقة «الرجاء» المسرحية التي كان يرأسها عمر بن مالك، وهي الفرقة التي تألقت فيها أسماء بارزة في تلك الفترة منهم المعطي بوعبيد والمختار الحمداوي والجيلالي السرغيني ومحمد الزياني وغيرهم».ويضيف المسرحي المخضرم «حضر افتتاح القاعة الملك الراحل محمد الخامس، واتخذتها الحركة الوطنية فضاء لتصريف خطابها الوطني عبر مجموعة من الأعمال المسرحية التي كانت تقدم فيها، وكانت تزعج سلطات الحماية الفرنسية، قدمتها فرق مسرحية من قبيل فرقة «الفوز» أو «المنار» وفرقة علماء القرويين».ويتذكر البدوي كذلك العروض المسرحية التي قدمتها فرقة الفنان المصري يوسف وهبي خلال فترة الخمسينات وحضرها الملك الراحل محمد الخامس، كما هو الشأن بالنسبة إلى السهرة التي أحياها الموسيقار الراحل فريد الأطرش سنة 1952.ويسترسل صاحب «في انتظار القطار» متحدثا عن مجموعة من الفضاءات المحيطة بسينما «المسرح الملكي» خاصة المقاهي التي اندثر جلها مثل مقهى «بنعلال» التي كان من زبنائها المعطي بوعبيد وعبد القادر الصحراوي أو مقهى «أكنول» التي كان يرتادها جل رموز الفن المغربي مثل إبراهيم العلمي وأحمد البيضاوي وأحمد جبران وغيرهم.ويؤكد الفنان عبد القادر البدوي أن العديد من أعماله المسرحية عرضت في هذه القاعة، التي يعتبرها «أوبرا مصغرة» بتصميم إيطالي لا مثيل له في المغرب، بدءا بمسرحية «العامل المطرود» و«القاعدة والاستثناء» و«العاطلون» و«في سبيل التاج» و«كاليغولا» لألبير كامو، كما تألقت في أداء هذه الأعمال وجوه فنية كان لها شأن كبير في ما بعد مثل الراحل محمد مجد ومصطفى التومي ومحمد الخلفي وغيرهم. عزيز المجدوب

سينما “المسرح الملكي”بالبيضاء تحتضر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المغرب يفتقر إلى إستراتيجية حقيقية للهجرة

دراسة في القانون: ولوج المرأة مهنة التوثيق العدلي (1/2)

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات